من منّا لم يستمع للقصص والخرفات في صِغَره؟
كان يا مكان في قديم الزمان.. نحكي ولا ننام.. أكيد نحكي كان يا مكان.. ! هذه الجملة أو الفاتحة الخرافية، كانت تتكرر بكثرة في المساءات من الأمهات، وأحيانا كثيرة من الجدّات للأطفال، وخصوصا قبل وقت النوم. لم يكن من المهم أن تكون تلك القصص أو الخرافات حقيقية أم لا، ولكن الأهم فيها، كان كمية الحماس الذي كان يغمرنا أثناء الإصغاء للقصة، وتفاصيل القصة، وما إذا كانت النهاية سعيدة أم لا. كان الأحفاد يتجمّعون حول جدّتهم كعصافير صغيرة مجتمعة في عشّها، أما عني أنا شخصيا، فأكثر وقت كنت أفضل فيه سماع القصص هو في فصل الشتاء، صوت جدّتي الحنون والمُدفئ، الذي كان يتوسط غرفة الجلوس، ورائحة المطر التي تكاد أن تدخل إلى أعماق روحي وتستقر فيها.
أفتقد وبشدّة هذه الأجواء، في زمن أصبح كل فرد من أفراد العائلة، في غرفة منعزلة عن الآخر مع هاتفه. وحتى الطفل ذو العامين تجده منغمسا في بحر الأنترنت، والأب يقوم بالرد على التعليقات على الصورة التي نشرها قبل ساعتين في صفحته على “الفيسبوك”، والأم تشهد وصفة طبخ جديدة كي تحضّرها لضيوفها غداً على مائدة الغداء، والأخ منهمك في ترتيب قناته الجديدة على ال”يوتيوب”، متخيلّاً نفسه وهو في ساحات الشهرة والأضواء. ويخطط في نفس الوقت، كيف يقوم بالحصول على أكبر قدر ممكن من المتابعين، و”الايكات وبإن”، ويصبح من المشهورين في عالم “الميديا سوسيال “، بما أن الشهرة أصبحت موضة العصر. الآن أصبح بمقدور أي شخص يشعر بالملل، أن يتوجه إلى يوتيوب أو أي برنامج آخر على هاتفه، و يقوم بإنشاء قناة يسميها بأسماء وألقاب مزيفة، ويبدأ بنشر محتوى لا ينفع البشرية في شيء. محتوى غير مفيد ولا حتى ترفيهي. وأما الأخت فتكون بدورها منغمسة في مشاهدة المسلسلات التركية حلقة تلو الأخرى، وبجانب سريرها علبة كبيرة من المناديل الخاصة بالمشاهد الحزينة، أو حين يموت بطل المسلسل فجأة فتنهمر أختنا العزيزة بالبكاء. ولست أدري إن كانت سوف تتأثر إلى هذه الدرجة من الإنفعال، إن رأت صورة طفل ميت من الجوع أو من البرد، أو سمعت بقصة امرأة عجوز قد تخلى عنها أبناؤها، فانتهت بها الحالة الى مأوى العجزة، وما أصعبها من نهاية تلك. وأما الأخ الأصغر ذو الثلاثة عشرة سنة، فتجده أصبح من مُدمِني الألعاب، وخاصة تلك الألعاب الحربية التي انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة. وإني لأتساءل في نفسي، ألا تكفينا الحروب الواقعية التي شرّدت نصف العالم؟ ويتّمت النصف الآخر، ورمّلت النساء، وأودت بحياة الرجال، ودمّرت مستقبل الشباّن والشابّات، حتى بدوا مجرّد صور وهمية في اختراع تلك الالعاب الحربية. إن بدني ليقشعر عندما أسمع صوت إطلاق النار المنبعث من تلك الألعاب. وما يزيد من حيرتي، ولع هؤلاء الأطفال والمراهقين، وإدمانهم على ما يدعونه “تسلية وملئ فراغ”. وما هو في الواقع إلا تضييع للوقت والفكر لا أكثر ولا أقل. فأية تسلية هذه؟ الذين يتحدثون عنها في وسط النهار.. في آخر الليل.. وفي المنزل وفي الخارج.. في محطات القطار وزحمة انتظار الباصات.. في الأسواق والمطاعم.. في الساحات.. في حفلات أعياد الميلاد، والأعراس والمهرجانات، وقاعات السينما والمدارس. بل وفي الحدائق العمومية، والمنتجعات، وفي المراكز الثقافية والاجتماعية، وفي أمكان العمل ونوادي الرياضة، وفي أوقات السرور وأوقات الحزن، وفي الفرح والعزاء، وفي السفر والبقاء بنفس المكان. بل حتى وجبة الطعام الخاصّة بنا، أصبحنا نشاركها على المواقع. فماذا تبقّى من حياتنا لم نقم بمشاركته بعد؟ أي جانب من جوانب حياتنا الشخصية والحميميّة لم نعرضه على الملأ ؟ السّعيد منا أصبح يشارك سعادته كما حزنه، المسافر والمستقر، الصغير والكبير، والقريب والبعيد. في كل مكان وزمان، أصبح الجميع محدّقين في هواتفهم وكأنهم دمىً مسحورة. لم يعد أحد منهم يهتم لأحد، ولم يعد هنالك حبّ من النّظرة الأولى، بل أصبح هنالك حبّ من الرسالة الأولى أو من المحادثة الأولى.
وأخيراً الطفل الصغير “آخر العنقود”، هو الآخر يجب أن يشارك في هذا التطور الحالي، وأن يتبع من هم أكبر منه سناً. فتجده في أغلب الأوقات في زاوية من زوايا المنزل أو خلف الأريكة. أو ربما تسمع صوتا منبعثا من تحت السرير هنا، لا تفزع فلا داعي للخوف، فليس ثمّة جنّي أو ما شابه، ولكنه ذلك الطفل الشقي حتما يكون مختبئا تحت السرير، بعد أن سرق هاتف أمه وهرب مسرعا. ويبقى الطفل على هذه الحال، إلى حين أن يقرّر الأهل، ويقومون بشراء جهاز “إيباد” خاص به. ومن هنا فصاعدا، يضرب الطفل لا شعوريا عن الطعام والشراب، وتجده أربعة وعشرين ساعة على جهازه، رغم الخطورة والأذى الذي من الممكن أن يتعرض لهما، من خلال تلك الشاشة المثبتة أمام عينيه. ولكن قليل جدّا من يأبه لهذه المخاطر التي تحيط بطفله. وأقول هذا وأنا كلي حزن لأجل هؤلاء الأطفال، ولهذا الإدمان وهذا الاجتياح الإلكتروني للعقول. وبسبب هذا الإدمان، قد أصبح كل منا يمشي وكأنه “روبرت” آلي مبرمج، لا ينظر حتى أمامه بل ينظر إلى شاشته بكل اندماج وتركيز. أنا لست ضد وجود الأنترنت أو ضد هذا التطور، ولكن يؤسفني حقاً، عندما أرى الناس قد أدمنت عليه وبكثرة. نحن جميعنا لا نستطيع أن ننكر فضل تواجد الأنترنت في حياتنا، وخصوصاً في وقتنا هذا زمن السرعة. ولا نستطيع أن ننكر فوائده الكبيرة، والجوانب المفيدة والغنية منه بالفكر والمعرفة. وبأنه أصبح من أهم الوسائل للتواصل مع الأشخاص البعيدين، كالأقرباء والأصدقاء، إلخ.. فلقد قرّب لنا كل المسافات، ووفّر علينا الكثير من التعب والجهد والوقت. وأصبح في مقدرونا اليوم، أن نتسوّق ونحن في وسط منازلنا، أو أن نحجز تذكرة سفر للعطلة بدون مغادرتها. وأن نقوم بالبحوث الدّراسية واكتساب المعلومات والمعارف، والتنمية العقلية لمن أحسن استخدامه. له فوائد جمّة وجوانب لا تعد ولا تحصى، وجميعنا لا نستطيع نكران هذا.
ولكن الحياة الواقعية لا تشتكي من شيء، والتواصل مع الآخرين أيضاً جميل، والخروج مع العائلة في عطلة نهاية الأسبوع أجمل، والجلوس وتجاذب أطراف الحديث، والقليل من الابتسامة بوجه من نحب، كلها تعادل ألف ساعة حديث على الهاتف، والإمساك بيد من نحبّ يعادل عاماً من الحروف الالكترونية. فلنعش الواقع قليلاً بمرارته وحلاوته، بسلبياته وإيجابياته، فربما يكون واقعنا قاسياً بعض الشيء، ولكنه أرحم وأجمل من حياة مؤقتة ومزيفة خلف الشّاشات.
بتول الموسى- بلجيكا