النص عبارة عن ذلك النسيج اللغوي المتلاحم وذلك الكم اللغوي المنسجم الذي يشبه قطعة القماش المتماسكة الخيوط، كما يرسلنا المعنى التأصيلي والتاريخي في اللغة الفرنسية لكلمة texte. أي أن النص شكلا: صناعة وحياكة لغوية.
من الناحية المادية، النص بشكل عام والرواية تحديدا هما عبارة عن منتج منتهي في الزمان والمكان، يتوقّف ويتأطّربزمن الرواية المغلق (النص) على نفسه. زمن الرواية هو ذلك الزمن التقني المتواجد في النص، وليس الزمن الروائي النفسي والفعلي للشخصيات. أما من الناحية النفسية، نرى بأن زمن الرواية هو عملية التقاء غير مرتّبة بين قارئ يتواجد في زمن الرواية، وبين أحداث الرواية (الزمن الروائي الحركي).أي أن نص الرواية من المنظور الخارجي يمتلك زمن الرواية، ومن الداخل له زمن روائي نفسي تتحرك به الأحداث والشخصيات والصور بشكل تفاعلي، في محاولة الى اعادة تصدير الزمن الفعلي للأحداث.
ان أحداث زمن الرواية ليس لها قيمة زمنية فعليّة (الناحية الماديّة للزمن) لكونها في واقع الأمر لم تعد موجود نفسيا ووجدانيا. في الأمثلة التالية: «رميت في وجهها…»، «تحب زوجتك؟»، «سأفرح باستقبال…»، ليس هنالك ماضي حسي يرتبط به الحدث بفاعله، أو مضارع وجداني تفاعلي، أو مستقبل نفسي يوشك أن يحدث. ذلك يعود الى أن نص الرواية هو حالة من الجمود الزمني، لا يحرّكه ويعطيه الجانب الوجداني سوى القارئ، مدخلا بذلك الزمن الروائي في حركيّة اجتماعيّة ونفسية وتاريخية.
أفعال البناء المعرفي في رواية في الهُنا:
العلوم المعرفية هي كل تلك العلوم البينيّة (الأنثروبولوجيا المعرفية، علم الاجتماع المعرفي، علم النفس، علم اللغة المعرفي، علم الأعصاب، …) التي تهدف الى دراسة علاقة الانسان وما يستقبله من بيانات من عالمه الخارجي. ازدهرت تلك العلوم منذ ستينيات القرن الماضي، تحديدا منذ تجربة برلين وكي، عندما قاما بدراسة الجانب المعرفي للألوان. حيث توصلا الى النتيجة التالية: يمتلك الانسان جهاز حسي ونواتي متشابه يمكّنه من معالجة البيانات التي تلتقطها أجهزة الادراك لديه، ويعالجها دماغه. فيما يخص الجانب المعرفي للغة، تسعى الأبحاث الى رصد وتحليل علاقة الانسان ومحيطه الواقعي المباشر، عن طريق ما تتيحه الادوات اللغوية في النص. أي أن المفردات في اطار النص، هي بمثابة أدوات معرفية تتيح معرفة الجانب النفسي والاجتماعي للكاتب، وتساعد على السفر والتنقّل داخل الرواية لكي تفك طلاسم الزمان والمكان والشخصيات وظروف الموقف الخطابي. في هذا المقام سوف نبيّن علاقة بعض أنواع الأفعال «المعرفية»، تلك المحركات الذهنية والنفسية، بالذات القارئة. حيث أننا سنقوم بتسليط الضوء على مواقع التحريك والتهييج الذهني التي تؤديه بعض أنواع الأفعال، والتي تتيح من خلاله انارة مسرحية قصوى للمشهد الذهني. وبالتالي النظر الى النص بعين أكثر وجدانية وواقعية.
تميّز قلم الروائي الكويتي طالب الرفاعي (عبر رواية في الهُنا)، على صعيد الزمن الروائي، بلمستان جماليتان قد يدرك البعض احداها فقط. أما الأولى فتمكن في رصانه استخدام الزمن الروائي والتسلسل الروائي اللذان يتيحان للقارئ منطقية بالاحداث تجعل منه يشاهد الرواية (وربما يعيش الرواية)، لا يقرأها. بالنسبة لنا لن نتطرق الى هذا الجانب الجمالي في مقالنا هذا. أما اللمسة الجمالية الثانية، والتي تخص موضوع بحثنا، فتكمن في بناء الافعال المعرفية التي تحدثنا عنها. يستخدم طالب الرفاعي أفعال بناء معرفي ذات قيمة دلالية عالية وذات قيمة نفسية تساعد على تحديد ملامح المشهد الروائي (والتواجد بداخله)، وعلى اعادة تمثيله وتصديره ذهنيا بصورة دقيقة. أي أنها تتيح الفرصة للقارئ بأن يعيش ويرى المشهد الروائي بالتفاصيل النفسية والوجدانية (كما عاشتها شخصيات المشهد الروائي تقريبا).
يترتّب على الأفعال المعرفيّة تكوين فكري وجمالي لدى القارئ يتمثّل في:
1. رفع مستوى الأحاسيس والمشاعر لديه عن طريق أفعال بناء الأحاسيس (يلكزني) والعواطف (يهجس) والادراك (فزّت وافقة).
2. زيادة عدد المعلومات لديه عن طريق تلك التفاصيل، ذلك ما يتيح مشهد روائي أشمل.
3. مشاركته الشخصيات الحالة النفسية والوجدانية.
وبالتالي قارئ طالب الرفاعي يشعر بما تشعر به الشخصيات، يقاسمهم الألم تارة، وينتشي معهم تارة أخرى، يجلس معهم في المكتب ويدخل الى عمقهم الوجداني. واذا ما نظرنا في «فزّت واقفة» على سبيل المثال (وفي الكثير من المواقع الاخرى)، ينتهي بنا المطاف الى الفكرة التالية: الراوي ابتكر اسلوب معرفي وتنبيهي يتيح للقارئ وينبهه لمواطن جمال الحركة المسرحية في النص. حيث يقوم الراوي، عن طريق بنية فعليّة لا تقتصر على البناء السردي بشكل تقليدي،ببناء علاقة زمنيّة مزدوجة مع «الفعل». تلك العلاقة المزدوجة نلخصها كما يلي:
1. لا يتردد الراوي في توظيف الجانب الدلالي أكثر من الجانب الزمني للفعل. حيث يقوم بالتركيز على دلالة وقوة البناء المعرفي للفعل بطريقة ضمنيّة (قد يتذوقه القارئ دون أن يشعر بذلك بشكل مباشر).
2. لا يتردد الراوي في استخدام الصفة والزامها فعل يقوي من المعنى والحالة النفسية لتلك الصفة، وقد يكون ذلك الفعل التي اشتقت منه الصفة يكفي بالغرض الزمني والدلالي غير ان الراوي ضرب عصفورين بحجر. فلو قال الراوي «وقفت» على سبيل المثال لاكتمل المعنى الدلالي والزمني، ولكن في «فزّت واقفة» بقي حدث الوقوف وزمنه ودخلت عليه قيمة جمالية ودلالية أبرزت الجانب الدلالي الذهني أكثر من الزمني. وبالتالي ينظر القارئ للمقطع على أنه مشهد وحدث مباشران وليس كزمن من الدرجة الأولى فقط.
فيالجدول التوضيحي التالي سوف نلاحظ بأن الراوي تعمّد اللجوء الجمالي والذهني لبعض الأفعال المعرفيّة. حيث ان ذلك الطراز الادراكي من الافعال يرتقي بالقارئ وبالفعل على حد سواء. حيث يرتقي بتذوّق القارئ عن طريق منحه صوره حركيّة وذهنية أشمل وأدق، وأنه يحوّل الفعل من حدث بسيط وزمن بسيط الى عنصر ادراكي ومعرفي، يرتقي من خلاله الفعل لدرجة تجعله يهيمن على بناء الجمال في الجملة، وربما احتكار المشهد في بعض المقامات:
الحركة في رواية طالب الرفاعي هي مركز من مراكز الجمال الروائي لديه، يناط بالفعل القيام بتلك المهمة لتجسيد ما هو غائب على هيئة صور ذهنيّة مسرحيّة. وحتى نغوص أكثر في أعماق وجدان الكاتب وعلاقته بالفعل، يجب العلم بأن طالب الرفاعي يكتب واقعه الفعلي دونما استحداث وصناعة خياليّة للشخصيات في رواياته. ذلك ربما ما يفسرشغفه ومشروعه الروائي المتمثّل في اعطاء الجانب الفعلي لروح الرواية. أي ان فلسفته الروائية المرتكزة على واقعيّة الأحداث والشخصيات أثرت لغويا على رغبته في مشاركة تلك الواقعية، عن طريق أفعال البناء المعرفي للمشهد الروائي تلك. حتى انه عندما يستخدم بعض أنواع الأفعال الخالية من العنصر المعرفي القوي، يقوم بتدعيم رسم الحدث الذي يبنيه الفعل عن طريق مكمّلات لغوية أخرى مجاورة للفعل (فعل آخر، صفة، اسم، …) تساعد على رؤية صورة الفعل وليس زمن الفعل. وهنا تحديدا القيمة الجميلة للمسرح الروائي الذهني لدى الراوي. فيما يلي توضيح لما سبق بيانه حول تدعيم الفعل بأدوات تخدمه: ترسم معالمه وتقوي من الاداء الذهني للحدث:
• أجبتها بنبرة مرحّبة….
• أجبتها وارتباك حضورها المفاجئ يحاصرني.
• يضرب على جيب دشداشته … .
• تحوم حولك أسئلة الخوف التي استيقضت معك.
لماذا الحدث الروائي المفقود؟
في حقيقة الأمر، اننا نرى بأن تلك الأفعال المعرفية تخبر القارئ بتفاصيل الرواية والاحداث بشكل دلالي ومعرفي مجهري. يكبُر بها الحدث عن طريق تلك الأفعال المعرفية وتتحرّك المشاهد بلوحة وجدانية تفاعلية جمالية. أي أن الحدث المفقود الذي لا يراه القارئ ـ أو جزؤ منه ـ (أحاسيس ومشاعر وادراك خارجي للشخصيات)، لم يعد كذلك لدى طالب الرفاعي الذي وجد في توظيف أفعال البناء المعرفي حل لتجسيد كل ما هو غائب بتفاصيله واستدعاءه في النص وجعله في متناول القارئ.
د. يعقوب ثامر الشمري – الكويت
المسألة في الرواية أنها جاءت كاشفة لمسار شخصياتها وكما الناقد ن الناحية المادية، النص بشكل عام والرواية تحديدا هما عبارة عن منتج منتهي في الزمان والمكان، يتوقّف ويتأطّربزمن الرواية المغلق (النص) على نفسه. زمن الرواية هو ذلك الزمن التقني المتواجد في النص، وليس الزمن الروائي النفسي والفعلي للشخصيات. أما من الناحية النفسية، نرى بأن زمن الرواية هو عملية التقاء غير مرتّبة بين قارئ يتواجد في زمن الرواية، وبين أحداث الرواية (الزمن الروائي الحركي).أي أن نص الرواية من المنظور الخارجي يمتلك زمن الرواية، ومن الداخل له زمن روائي نفسي تتحرك به الأحداث والشخصيات والصور بشكل تفاعلي، في محاولة الى اعادة تصدير الزمن الفعلي للأحداث.
وما لا شك فيه أن مسألة الزمن هي مسألة المسار الموارب في لحظة التموقع.
د.الفاضل الكثيري -تونس.