الرئيسيةمقالات و دراسات«وليمة الكلام» للكاتب المغربي حسن إغلان

«وليمة الكلام» للكاتب المغربي حسن إغلان

1- من القراءة النصية إلى بناء المعنى
تنطلق هذه الدراسة من كون عملية القراءة ليست واجبا، يلزم القراء في قراءتهم لنصوص محددة، دون أخرى، فقد يكتشف القارئ كاتبا ما، قد يبهره، ويشكل له دافعا مهما للقراءة المتأملة والعميقة، وعليه تتيح النصوص الأدبية كما هو معلوم المجال الأوسع للتلقي، عبر أليات الشرح والتذوق والتعليل والتحليل والتأويل، وعبر وسيط وحيد هو القراءة، «فالأدب والفن لا ينتظمان في تاريخ نسقي إلى نسبة سلسلة الأعمال المنتجة وحده، وإنما إلى الذات المستهلكة أيضا»(1)؛ لذا فالتفاعل الذي يحدثه القارئ مع النص، في إطار العلاقة المصاحبة، لا يخرج عن نطاق الافتراضات التعاقدية، فالنص متعدد الأبعاد والوظائف، الشيء الأساسي في قراءة العمل الأدبي هو «التفاعل بين بنيته ومتلقيه»؛ وإذا كان النص من الوجهة اللسانية، هو ذلك البناء النسقي الذي يضمن له معنى شموليا ضمن مفهوم الخطاب، بحيث لا يمكن حصر النص في مقولة ضيقة وفي مستوى واحد، فكما يذهب ياوس إلى أن «القراء، وهم يواجهون النصوص، لا ينطلقون من الفراغ طبعا(2): ومعنى ذلك هو الاهتمام بالمادة الرئيسية التي تتشكل منها النصوص الأدبية وتَمْثُل أمام القارئ، كما يشير إلى ذلك الباحث في مقال له حو التعدد والتعددية، على أن «هناك مسافة بين النص والمتلقين له، مهما كان هذا النص، مما يجعل التأويل داخلا ضمن عملية التلقي، من هنا يتعدد المعنى، فليس هناك نص متطابق مع ذاته واحدي القراءة والمعنى، بحيث يشكل فيه المبنى والمعنى هويه واحدة مستمرة في الزمان وعلى الرغم منه»(3) فالمسألة كلها ترتبط باللغة وما تختزنه من تصورات عن موجودات هذا الكون بكل أبعاده وتجلياته.

2- أفق انتظار النص: من اللغة إلى تنحية الكاتب
تكشف قراءة هذه المجموعة القصصية للكاتب المغربي حسن إغلان، عن نظرة استقرائية لعالم قصصي نوعي، وخاص في التجربة القصصية المغربية خصوصا تلك التي ينتمي إليها الكاتب بروادها وقضاياها المرحلية، والقارئ لهذه المجموعة التي بين أيدينا «وليمة الكلام»(4) يجد مادة سردية وأدبية مكثفة الدلالات والمعاني، نظرا لحمولتها المعرفية واللغوية والإيديولوجية كذلك، فالمجموعة تتكون من عشرة نصوص، وهي:
1) رغبة عاشور
2) هنا المرقص والدعوة عامة
3) وليمة الكلام
4) عن تلك الروائح أح (…)
5) رعشة الغياب
6) كائنات ارخميدس
7) مزهرية فارغة
8) حارس الفراغ
9) المرأة التي
10) أول الحب
أول ما يلاحظ على مستوى هذه النصوص وانطلاقا من عناوينها أنها تمثل وعيا أدبيا منفتحا، يتجاوز الكتابة النمطية إلى الكتابية الأخرى التجريبية والرمزية، فالقارئ سيلامس لغة قصصية مسافرة لا ترسم حدودا معينة لمعنى ضيق في المكان والزمان، سواء من ناحية اللغة الموظفة أو من جهة الرؤية السردية المعتمدة، أو من جهة الموضوعات المتناثرة في كل الاتجاهات ولكنها محبوكة بانشغالات وتطلعات الكاتب، فهذه المكونات الثلاث هي التي يمكن الاعتماد عليها للتأشير على نصوص الكاتب حسن إغلان، مع الإشارة إلى إمكانية جعل النص هو الذي يُحدِّد دواخله، حيث يمكن عزل وتصنيف الظواهر اللغوية إلى قضايا يمكن فهمها في سياقات سوسيوثقافية واجتماعية أوسع، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكون اللغة في «وليمة الكلام» يؤسس لنفسه عالما دالا لوحده، غير العالم الطبيعي، فاللغة في هذا المجموعة تحكمت في توليد النص وتحيين مضامينه، بشكل تجريدي، كما خلقت عالما رمزيا يحمل من الدلالات ما يمكنه أن يكون سردا واقعيا يتماشى مع المألوف، أو سردا رمزيا مكثفا يحتاج إلى تأويل وقراءة معادة، فيحاول الكاتب من خلاله الارتقاء بالنموذج السردي المعتمد إلى مستوى من الرمزية، وأمكننا التوقف عند نصوص تبرُز فيها اللغة بكثير من المشيرات الدِّلالية، حيث شحنتها الإيحائية تحولها إلى طاقة متجددة، خارجة عن المألوف، وإذا ما قرنت طبيعة اللغة في هذه النصوص بالصوت الذي يمثله الكاتب داخلها، أو خارجها، فالنص بالنسبة لنا، يبقى وكما هو معلوم عالم منفتح على فرضية البحث عن المعنى وتوليده. فما هي إذن هذه العوالم الممكنة للكتابة القصية لدى حسن إغلان؟

1-2 اللغة الشعرية من النص السردي إلى النص الشعري
تستوقنا اللغة في هذه المجموعة بشكل لافت للاهتمام، لذا أمكن القول بأنها، تمثل رؤية سردية، ولغة قصصية مفعمة بكثير من الدلالات والرموز، وعلى ضوئها استطاع الكاتب أن يحقق تداخلا بين نصه وبين نصوص أخرى قريبة كالشعر، ومن تم فلغة النص تكشف عن أن الانزياح الإبداعي في بنيتها، يكْمُن في قدرتها على فتح وخلق آفاق دلالية أخرى، يجعل المتلقي يبحث عن هذه المتعة العقلية والمجازية والوجدانية المتصلة بالنصوص، والتي تتسرَّب بدورها إلى القارئ، يقول السارد: «…فأنا واحد، مرة أكون مسدودا، ومرة أكون مفتوحا.. المرة التي أكون حاملك كالأرض الحاملة كل شيء حتى أنت، رغم بعدك، فأنا أحملك بعينيك، ومرة أكون بجانبك هلالا ضائعا، يتشظى بضيائك، ولا أعرف من يمشي خلف الآخر.. حين رأى الناس خيوطا يفتلها الخوف بين رجلي فلا أعرف.. هل أنا هو أم أنا الغابر في القمر أو بين الفخدين.»(5)
ويقول في نص آخر(كائنات ارخميدس): «على الخشبة أقنعة مرسومة بشكل دقيق لكائنات عجيبة وبين هذه الكائنات راقصة الفلامنكو الجميلة.. وسط الخشبة قطة بيضاء تجلس على كرسي كبير أبيض.. كأنها مالكة هذه الكائنات.
أخذت القطة قوس الكمان وضربت به على الأرض ثلاث دقات، انحبست الموسيقى في حلق الراقصة انتقلت الكائنات في خشوع واضح نحو الكرسي، جالسة في شكل دائري والقطة البيضاء تلحس شعرها الناعم وتقفز على بطنها الهادئ وتموء مواء غريبا.. والكائنات تنظر إليها كأنها عارفة بما تقول ربما تدعوهم إلى تنال العشاء..» (6)
فمنذ النص الأول في هذه المجموعة، وبالتوقف عند المسار السردي، يلامس مدى الخروج عن الخطية السردية المألوفة حيث حسن إغلان يتجاوز في مجموعته هذه قضية الحكي والسرد الخطي إلى خلق بنيات لغوية حديثة مؤسسة على نسق جديد يتجاوز الضوابط والقواعد التقليدية للقصة، ومن هنا أمكننا أن نتسأل عن مدى حضور هذه اللغة الشعرية المبنية على الانزياح، ومعنى ذلك أن الكاتب قد وظف من التقنيات ما يمكن أن يتجاوز الذات، إلى أخرى غير لسيقة بالذات الكاتبة ولا بمجال السرد المرتَّب، وهذا ما يفسر طبيعة المرحلة التي كتبت فيه هذه النصوص، لأنه عادة السرد التجريبي باللغة يفسر اهتمامه الكاتب بالأشكال القصصية مع اهتمام مواز بالجوانب التيماتيكية والرمزية.. ولذا نجد جل نصوص حسن إغلان تتجه نحو هذا المسعى، تحاول الوصول إلى ما لا يُسعِف في الفهم، لا، إلى ما يحده.
وفي نفس السياق، وسعيا إلى إثارة المتلقي وإشباع فضوله، ننتقل إلى عالم آخر، فيه تطوير وتعميق للمتعة وليس ما ينمطها.

2-2 الرمز والمعنى المتجدد:
تحاول أغلب النصوص في هذه المجموعة القصصية أن تجاري نوعا آخر من القراءة، القراءة التي تجعل النص ينفذ باللغة إلى عمقها اللغوي والمعرفي، فلغة الكاتب لا تلبي طموحات القارئ الكلالسيكي، بل هي لغة تجعل من التلقي عتبة للبحث عن المفاتيح والاسترشادات والعلامات التي يمكن أن تساعد على مسألة تأويل النص لغويا، فإذا كان شرط اللغة هو أن لا تفقد شرطها التواصلي المباشر، فإن اللغة التجريبية لنصوص الكاتب تجعلك تباشر لغة قاص حديث، تكاد تجربته تقترب من تجربة الشعراء الحداثيين، فاللغة الرمزية على طول نصوصه تشكل شكلا معاصرا من أشكال صياغة رؤية فنية وتجربة سردية متداخلة ً مع ما هو شعري، يحضر الرمز بقوة في تجربة حسن إغلان بشتى مظاهره وأبعاده، وهو ما يمُدُّ نصوصه إشراقة وإضاءة متجددين نحو الإمكانات الهائلة التي تتيحها له في التعبير عن المواقف الذاتية أو الجماعية التي قد طرحتها المرحلة التي عاشها، خصوصا وأنه ينتمي إلى هذه الحياة المعاصرة التي فرضت بحكم تحولاتها على الإنسان المغربي والعربي معا تحديات كبرى، حينما نقرأ نصا، من نصوص القاص نجده من طينة التجارب القصصية التي عاشت مرحلة التحول في الاختيارات الفكرية والأدبية الجديدة، وليس في هذا مجال للشك، خصوصا وأن هذه النصوص مفعمة كذلك بالنغمة التحاورية والتخاطبية مع الأجناس الأدبية الأخرى، فالرمز يحضر باعتباره صوتا للسارد وللواقع وللمعاناة، ويحضر كناقع يختفي وراءه السارد.
ومن الأمثلة على الرموز الموظفة في هذه المجموعة ما يلي:
عاشور – العصا – المجذوب – سيف الخليفة – الصعاليك – المدينة – الحجاج بن يوسف الثقافي – شهرزاد – شارون – لبنان – صبرا – عباس – عيسى – روزا – معاوية – بوش – عصاً أعمى – الطفل – المسيح – ألف ليلة وليلة – العجوز – بلاد سام – الأندلس – بيروت – القدس – سرايفو- المرأة – أيوب – الأعرابي – التاريخ – القنفذ – إيروس.
فهذا التوظيف للرموز في هذه المجموعة، متواجد منذ النص الأول إلى النص الأخير، وأنها رموز متنوعة وعديدة، يمكن تصنيفها إلى حقول تنتمي إلى ما هو يشكل شخصية تاريخية حضارية كسيف الدولة والصعاليك والحجاج بن يوسف الثقافي، وشهرزاد. وشخصيات تاريخية دينية ومتصوفة كعاشور والمسيح والمجذوب وأيوب. وهناك شخصيات أخرى لكن تلبس أقنعة أخرى داخل النسق السردي الذي جاءت فيه، كالطفل والعجوز والمرأة التي جاءت بضمير الغائب في النص الأخير وما قبل الأخير «المرأة التي» «أول الحلم»، ثم هناك الرمز الأدبي التراثي يتجلى في ألف ليلة ليلة. كما وظف الكاتب رموزا سياسية تنتمي إلى الراهن من الزمان، مثل: بوش وشارون. كما توظيف الأماكن كإشارات إلى الأجواء السياسية المتحاقنة التي يعرفها العالم بأسره وليس فقط العالم العربي الذي ينتسب إليه الكاتب، حيث جاء توظيف الأماكن في النصوص بكثرة واضحة، كما يتجلى بعد الأسطورة في النص في إيراد بعض الأساطير اليونانية كـ «إيروس».

3- ما هو الوجه التقابلي للرمز في بناء المعاني إذن في نصوص حسن إغلان؟
تلامس نتيجة أساسية في قراءة نصوص حسن إغلان من الداخل، وهي إمكانية التوقف عند الصوت الثالث، صوت آخر ليس بصوت السارد وليس بصوت الرمز، الذي يشكل القناع داخل النصوص السردية، ولكنه صوت جديد في خطاب سردي حالم، يحركه الطموح، ويسعى إلى زعزعة الجمود، والبحث عن غد أفضل، حينما نعود الى البحث عن بعض التقابلات المضمرة في الرموز الموظفة أمكننا أن نبي عليها فهما وتأويلا لبعض المقاصد الكلية للنص بأسره لدى الكاتب، وليس فقط المقاصد الجزئية، فـــ:
عاشور: في البداية يوهمك هذا الاسم بشخصية تراثية، كالإمام الشيخ الطاهر بن عاشور، لكن اسم هذه الشخصية مستمد من الواقع المعيش الذي يحكي عنها الكاتب، أبرز أبعدها هو التداعي والهيجان خارج الواقع.
المجذوب: شخصية معروفة في عالم التصوف، ومعنى الجذب لغة هو الاستمالة والاستيلاب وفي اصطلاح المتصوفة من جذبه الحق إلى حضرته وأولاه ما شاء من المواهب بلا كلفة ولا مجاهدة.
الصعاليك: إذا كانت الصعلكة تشير إلى مفهوم الفقر في مرحلة الشعر الجاهلي، فإن هذا المفهوم لا يخرج كذلك عن معاني التمرد والثورة.
الحجاج بن يوسف الثقافي: رمز القهر والاستبداد.
معاوية: رمز السلطة والقوة.
أيوب: رمز للصبر.
هل يمكن القول بأن الواقع الذي ينتمي إليه السارد مفعم بالصراعات السياسية والاجتماعية من حيث التقابلات الرمزية التي تشير إليها بعض هذه الرموز الموظفة؟
الواقع أن نصوص حسن إغلان تصور لنا ذلك في مجموعة من تمثلاتها اللغوية، فإذا كانت بعض الرموز تشير إلى ما هو خاص، فهنالك كذلك بعض النصوص التي تشير إلى رمز عام في ظل المجموعة القصصية كلها، ونمثل بذلك، بنص «حارس الفراغ» حيث تمتزج في هذا النص سلطتان،الأولى سلطة الواقعي، التي تمنح للنص تواجده في عالم عربي يعاني أزمات عدة وأمراض اجتماعية يحتِّمها التخلف والجهل والصراع الطبقي والاجتماعي وسيادة منطق الفردانية والتهميش والإقصاء، فنص حارس الفراغ يرصد رصدا لواقع مرير ينتمي إليه السارد، فجل الشخصيات تحاول التعبير عن أحلامها المكبوتة عبر الرغبة في السفر خارج المدينة نحو اتجاه آخر بلاد العام سام، فبنية هذا النص تتحكم فيها السلطة الثانية ألا وهي سلطة الكتابة، حيث أصبح النص هنا مرآة تعري بؤس الواقع، وانمحاق الذوات المهمشة، فالقارئ قد يحس إحساسا بنوع من الفجيعة والألم خصوصا إذا تم التقاط مجمل الرموز والإشارات التي تمنح للقارئ فسحة ومتعة في التأويل، يقول السارد: «يلزمني إيقاع قد يكون بطيئا لملامسة صمت نتقاسمه نحن الباقون هنا، والا أفسدنا ما تبقى منا…»
4- المثقف وإيقاعات الذات: من الخلاص إلى العجز
يشكل السرد في المجموعة تداخلا واضحا بين السارد وشخوصه، ومن المعلوم أن الرؤية السردية يحددها طابع التصور العام الذي يرسمه الكاتب لشخصياته، سواء ما هو مرتبط بالجانب الداخلي السيكولوجي أو الجانب الخارجي الوصفي، الذي يهمنا في الحكي السردي ليس هو طبيعة الرؤية السردية بالأساس ولكن هو فرضية التماهي التي يجدها القارئ ممكنة بين الكاتب والسارد، والافتراض كما هو معلوم جزء مهم من بناء المعنى خصوصا إذا ربطناه ببعض المشيرات النصية، والذي تجدر الإشارة إليه هو أن نصوص حسن إغلان، تمثل جزءا من الواقع الذي ينتمي إليه الكاتب على الرغم من الاعتماد على المتخيل وتوظيفه لنمط واضح من التجريب، لكن قبل ذاك وذاك تجب الإشارة إلى أن ما يؤثث فضاءات السرد عند الكاتب، أشياء ملموسة مستمدة من الواقع ولسنا بحاجة إلى أن نمثل لذلك،(8)، وهي كثيرة في مجمل النصوص إنها بالنسبة لنا ذلك الشرخ الذي يربط الكتابة بالواقع ويجعل الذات تنطلق من عوالم الكتابة والإبداع، وإذا ما قابلنا بين نص «حارس الفراغ» ونص «أول الحلم» نستحضر تقابلا ممكنا بين الكتابة والواقع وبين السارد والكاتب وبين الوهم والحقيقة وبين السارد الكاتب، في حالة التطابق مع المثقف العضوي كما هو معروف ذلك، ويجعلنا كذلك هذان النصان نستحضر تقابلهما الرمزي الواضح.
فالنص الأول «حارس الفراغ» جاء فيه السارد كالباحث عن الخلاص وهو المنقذ للمدينة، يقول السارد: «توجهت نحو بيتي مسرعا، فتحت ودخلت، ناديت على زوجتي، ولم ترد علي، ربما هي الأخرى حملت أغراضها، رحلت أو أنها تتهيأ للرحيل… -وأنا أنتظرك للرحيل- هيا ليس لدين وقت لجمع ما تبقى لنا.. قلت لها أنا لن أرحل سأحرس المدينة»..(9)
ونفسها رغبة دور المنقذ، تتكرر عند السارد في قوله: «تجردت من كل شيء، أعدت لجسدي ظله الهارب تهربت من كل الأوهام لبعث وهم وجديد، وهو وهم الوحدة داخل المدينة المتصدعة، هي غائبة وكلهم غائبون. إلا أنا الرابض في خندق كل هذا اليتم، أو خلف أحاسيس غامضة وخوف ملتبس بحضوري لوقت طويل، وأناجي باب المرسى، الباب المقوس..»(10)
ويستوقفنا النص الأخير، من المجوعة عند نوع من العجز الذي يرمز إليه السارد، وهي الصورة التي تتحقق في ثنايا المحكي في نص «أول الحلم» حينما يصور لنا علاقته بالمرأة في صورة الإنسان العاجز، يقول السارد: «تلك هي فرصتك، ضمها.. قبلها،(11) ثم قوله: «لسبب لم يقبلها، ولم يدخلها غرفة النوم…»(12)
إن هذان النصان يشكلان على مستوى التلقي تقابلا بين إراديتين متصارعتين إرادة تحاول التغيير وإرادة تحاول إنجازه إلا أن الواقع لا يتغير، لذا جاء السارد في النص الأول كحارس للمدينة ومخلص لها وفي النص الثاني، يأتي السارد كفاقد لإرادة الفعل وإحداث التغيير ولذا صوره الكاتب في صورة العاجز وغير القادر، وهذا ما يمكن أن يأخذ بعده الرمزي في هذه المجوعة ككل حيث المعاناة التي عاشها المثقف الذي يؤمن بضرورة التغيير في كل شيء، وكأن المثقف الذي يرمز إليه السارد يعيش في واقع غير واقعه، وهنا تتساوى تجارب شعراء مرحلة الستينيات والسبعينيات مع بعض تجارب كتاب الثمانينيات والتسعينيات.
خلاصة، نقول: تحفل قصص حسن إغلان بالامتياح من معين الذاكرة، وعبرها تتأسس الذات كلية، ومن واقعها المتضارب بالصراعات الاجتماعية والطبقية، تحضر تيمة السؤال كهاجس واستشراف للطموح فيه، وإيجاد الأجوبة عن الأسئلة المقلقة، وهذه النصوص مليئة بالبياضات والفراغات، وكأن الكاتب يعلم حدود وإمكانيات القراءة النصية التي لا ينتهي المعنى عند كاتبها، كما يشكل الحوار وجه التناظر بين الشخصيات والواقع حيث يضفي على النص صيغته الفنية والجمالية والواقعية، كما تتجلى في الأخير مظاهر السخرية عند حسن إغلان بشكل لافت في مجمل نصوصه مما يجعلها في تقابل كلي مع الذات والواقع وتداعياته على الإنسان المغربي المثقف.

الهوامش
1- قراءة الشعر، الدكتور محمد الربيعي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص 13
2- جمالية التلقي من أجل تأويل جديد للنص الأدبي، هانس روبير ياوس، تقديم وترجمة، رشيد بنحدو، د ن، ط2003، ص 47
3- التعدد والتعددية، علي أوملين، ملحق الاتحاد الاشتراكي، الجمعة، 3 نونبر 1995، ع 471
4- وليمة الكلام، نصوص قصصية، حسن إغلان، د ناشر، د ت.
5- نفسه 27
6- نفسه ص 54
7- نفسه ص 72
8- نفسه 65
9- نفسه 67
10- نفسه 68
11- نفسه 82
12- نفسه 82

جامع هرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *