عنوان المجموعة هو “انكسار السّراب” وجاء جملة اسمية، مجازية تفيد أنّ شيئاً ما تكسر وتحطّم، وكلمة الانكسار توحي لنا بالتشظي والتشتت، وتستدعي المرآة، في هذه النتيجة. والملاحظ أن العنوان قد استل من نصين داخليين، الأول بعنوان “انكسار” ص7، والثاني بعنوان “السراب” ص59، ليكون مظلة لباقي النصوص، والجامع بينها، من جهة المعجم الدال على الانكسار والسقوط والجحود، والحزن إلخ، ومن جهة أخرى الدلالة ذات الارتباط بالخذلان والتدني، وسقوط القيم الإيجابية.
لكن بعض النصوص غردت خارج السرب حاملة علامات الأمل والصمود مثل نص “إيثار” ص27، هذا النص البؤرة والمعبر عما يعتمل في قلب باقي النصوص الأخرى، لأنه يشكل أفقها المرتجى، تريد معانقته.
ومن حيث عناوين النّصوص السّت والسّتين، فقد جاء أغلبها كلمة مفردة منها ثمانية مُعرّفة، وما تبقى نكرة. أمّا العناوين المركبة فخمسة لا غير.
القصة القصيرة فن جمالي راق للغاية بحيث وجدت فيه القاصة حريتها نظرا لما تمتلكه من أساليب تمكن من المراوغة لفكر القارئ وبشكل وجيز في فك عقدة الحدث بالنهاية.
كتابتها في منتهى العمق بمتعة لا يمكن إقفال المعنى فيها ولا يمكن القبض عليها بسبب اللغة المستفزة والمربكة المستعملة فيها.
تميزت أغلب نصوصها بخاصية الدهشة ، إنها مربكة، مستفزة ومثيرة ومخيبة لظن القاريء الذي يرغب في الإمساك بالمعنى.
فخلق الدهشة ، جاء عبر صياغة لغوية متعبة للقارئ في لذّة ، وفي جمالية ، وفي شعرية ، لا تقتل حميمية وخصوصية السرد ولا تؤثر سلبا في طبيعة النوع المحكي. وعبر اعتماد تكثيف الحدث، وتقديمه إلى القارئ كلقطة فنية مُعبِّرة لا تفارق مخيلته بسهولة.
فضلا عن توظيفها لتقنيتي: الحذف والإضمار مع الصياغة الجيدة والتحبيك القوي.
تمتح القاصة مادتها السردية من واقعها المرير، وتتميز نصوصها بعمق فلسفي بعيد عن التعقيد، يضفي على قصصها ملمسا بجاذبية نوعية ، طارحة للمظاهر في ذكاء وكاشفة لما وراء هذه المظاهر من عوالم محتملة ، عبر خلق شبكة من بنيات التواصل مع القارئ ودعوته الى مساءلة التابوهات أولاً ، و ثانياً لبناء عقد مشترك استعدادا لخرق هذه التابوهات.
وقد عالجت المجموعة العديد من القضايا، كزنى المحارم، وما يخلفه من كوارث نص “ورم” ص24، والعنوان معبر جدا عن موقف القاصة من الظاهرة، والتقاعد ودوره في تكبيل حرية الزوجة نص “ديكتاتور” ص52، ومما لا شكر فيه أن القاصة كانت موفقة في اختيارها للعنوان، ولبقية العناوين الأخرى.
كما تطرقت لمسألة الحجود والنكران نص “عاصفة” ص29، ولمسألة الفساد الأخلاقي وما يترتب عنه من مخاطر نص “لعنة” ص36. كما عرجت على قضية الغربة في نص “لاجئ” ص56، وغيرها من القضايا والموضوعات.
أما موضوع عدم الوفاء، والغدر، فكان الموضوع الأثير لدى القاصّة بشكل لافت في عدّة نصوص منها “جذور” ص39، و”خريف” ص40، و”ثعبان” ص41، حيث يقابل العطاء بالجحود والنكران، ففي نص “ضمير” ص 38، قابل الرجل تضحيات زوجته التي تعكز عليها لمدة طويلة حتى صار علما، بتلفيق تهمة لها ليتخلص منها، والمفارقة صارخة هنا، ومعبرة عن سقوط الرجل حتى وهو قد بلغ القمة، وحقق الشهرة المبتغاة.
أفردت القاصة حيزا مهما للعلاقة بين الرجل والمرأة، كما خصصت بعض قصصها للحديث عن قضايا خاصة بالأنثى، من قبيل الإجهاض، والرغبة في الحمل، والمرض اللعين الذي يلتهم النهدين. نصوص مريرة وشديدة الوقع على القارئ، أكيد أنها ستترك فيه أثرا بالنظر إلى ما يكتنزه نص “إثارة” ص 33 من ألم مضض تعيشه بعض النساء؛ صاغته القاصة في قول موجز بكلمات معبرة جدا عن الوضع المؤلم.
تقوم كتابتها على التركيز، والاختزال والنهاية التنويرية، التي تضيء ذهن القارئ وتظل متقدة فيه لمدة زمنية طويلة. ومَنْ يقرأ هذه المجموعة التي تتألف من 66 نصا قصصيا قصيرا ستعْلق في ذاكرته قصة المرأة الوفية التي صارت فزاعة تحرس بيدر زوجها، وقصة المرأة التي يأكلها المرض، وغيرهما من القصص ذات الحمولة الفكرية العميقة والصياغة الفنية المركزة، واللقطة السريعة النفاذة.
نحن أمام مَحْدُوديَّة المساحة النصِّيَّة مقابل اتّساع الحَدث الوَاقعِيِّ وتَشابُك ظِلَاله
لغتها المركّزة، والمقطرة تبتعد عن الزوائد من القول كالمحسنات البديعية والتزويق اللفظي. عملها ينتمي لجنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والتركيب الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار.
كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.
فمساحة القصة التي تكتبها في هذه المجموعة تحديدا تتراوح بين سطرين إلى ستة أسطر، وهي مساحة ضيّقة جدا، ولا شك، لا تسمح بتسلل تلك الزوائد إلى جسد النص القصصي المُشذّب الذي لا يستغني، في الوقت ذاته، عن التكثيف والمُفارقة، والإدهاش مع اعتماد اللغة الموحية التي تلامس وجدان القارئ.
هذا البناء السردي المتماسك الذي يخلو من الإسهاب يقودنا إلى اللحظة التنويرية الصادمة، كما في نص “احتراق” ص22 والذي ينتهي بصرخة الأم المدوية: _ آه حبيبي… لو نطقتها قبل أن ينتزعوك مني…هي صرخة تعبر عن اللوعة والمرارة والرفض في آن لواقع ضاغط وقاس قسوة العملية التي أجريت لها قصد إسقاط ما في بطنها. القصة مؤثرة فعلاً، وهي تمتلك كل أدوات بنيان وأسانيد هذا الجنس، من تقتير وتكثيف، واختزال، ولغة وثيمة وحدث استثنائي يجمع في طياته بين الواقعي المر، والتخييل الفسيح..
تتميّز قصة “أصالة” ص 10، هي الأخرى، بقوة بنائها وتكثيفها الشديد، ، فهي تتألف من سطرين لا غير، ومن شخصيتين اثنتين، هما: الزوج الغائب، والزوجة الأمينة، والحريصة على شرفها وشرفه، تتحول إلى فزاعة لتحمي غلاله، وواضح أن هذا التعبير المجازي قد أغنى النص القصير، وزاده توهجا.
ثم إن هذا التحول من الإنساني إلى شيء لم يكن من أجل إبراز الانحطاط عبر الانمساخ أو التشييء، بل كان ضرورة فنية يستدعيها التشاكل باستعارة البعد الوظيفي للفزاعة، فهي ترتبط بالحقل وما ينتجه من غرس، ومن ثم رجاحة الدفاع والإبعاد والحماية. فالزوجة لم تنمسخ، بل صارت شرسة تدافع عن شرف زوجها من كل تحرش.، ومن ثم رجاحة الدفاع والإبعاد والحماية.
لم تفض القصيصة القول في الحكي، ولم تهتم بالتفاصيل، ولا راعت الزوائد، بل سارت باتجاه التقتير، تاركة للقارئ فضيلة ملء البياضات، واستنطاق النص لاستخراج المعاني المحتملة.
فإذا كان القارئ أساسيا في الأجناس الأدبية جميعها، فحضوره في القصة القصيرة جدا ضرورة اكتمال، هو محور العملية الإبداعية، لا يمكن للقص الوجيز أن ينهض من دونه. هذا القارئ وهو يتابع أحداث النص، سيستحضر نصا مقابلا له، يضاده لكونه يرسم نقدا الخيانة وهو “شره” ص28، حيث ترصد الساردة سلوك الرجل الباحث عن إشباع رغباته بعد انفصاله عن زوجته التي داهمها خريف العمر باحثا عن زوجة في ربيع العمر. وقد ترك ذلك الفعل الشنيع جرحا في نفسها عميقا.
كما تثير جمالية القفلة انتباه القارئ، في نصوص مختلفة من المجموعة منوعة فيها بين المدهش والمخيب لأفق انتظار القارئ، وبين العادي.
نجد أن القاصة قد جعلت ختمتها/قفلتها مرة خطابا مباشرا وحرا للشخصية في استقلالها عن خطاب السارد تلفظيا، فيه تمارس حريتها في التعبير عما يخالج وجدانها، كما في نص “احتراق” ص22، أو يكون تحذيرا من شخصية لشخصية، كما في نص “نزوة” ص14؛ وهي ختمة/قفلة تستدعي قصة “ليلى والذئب”، ولهذا الاستدعاء وجاهته المقامية، فالتشاكل بين القصة المهاجرة وقصة الشخصية جلي، ولذا، كان التحذير ضروريا معنى ومبنى.
وقد تأتي تعجبية تقوي البعد الدلالي للنص كما في قصة “الحذاء” ص18، أو تأتي غير متوقعة كما في قصة “عاصفة” ص29. أما نص ” خيبة” ص/26 والذي يتحدث عن البطلة وقد قضت وقتا استغرق النّهار لتنهي عملها وسط أكوام من الورق. لتغادر بعدها مسرعة إلى بيتها، حيث تنتظرها مهام أخرى.. وأثناء سيرها تشعر أنّ خطى أخرى تسرع وراءها، و كأنّها تحاول اللّحاق بها، ما ولد لديها خوفا نتيجة فعل التحرش؛ وفي الأخير تدرك أن زميلها في العمل هو من كان يلاحقها ليعيد لها سلسلة مفاتيحها ، التي كانت قد نَسيتها. فهذه الختمة/ القفلة جاءت عادية وغير مدهشة، إذ تابعنا مشاهد كثيرة مشابهة في أفلام الرعب والحركة، حيث يرتفع منسوب القلق والخوف لدى البطل وهو يسمع نداء الشرطي أثناء عبوره لحاجز ما، أو في مواقف مشابهة، وينتهي التوتر بإعادة الشرطي للرجل مفاتيحه، أو أغراضه التي نسيها لحظة مغادرته المتسرعة.
والنص ينضبط للرسيمة السردية التالية: فعل البدء أو الانطلاق، فقدان التوازن، واستعادته.
وتنحو بعض نصوص مجموعة “انكسار السّراب”، باتجاه الإيحاء والإشارة مما يبعدها عن المباشرة والتّقريرية، ويسمح بتعدد القراءات كما في نص “اعتداد” ص 12 ذي السخرية القاسية، والنقد اللاذع للوضع الثقافي المتردي:
سلّم مجموعتها القصصية إلى بائع التّرمس على ناصية حارتها.. اشترت زادها منه. أكلته، ولفّتِ القشور في مُقدمة كتابه النّقدي.
فرد فعل القاصة الساخط على الناقد كان جراء استهانته بعملها الإبداعي. والنتيجة أن الإبداع والنقد صارا في كفة الإهانة.
وهذا الانزياح نلامسه في نص “شره” ص28، حيث يحضر الرمز والإشارة والتلميح بدل التقرير، مما يترك مساحة لذهنية المتلقي، وتأمّلاته، وتساؤلاته..
أشارت القاصة في عملها إلى معاناة المرأة، وإلى الجراح التي تتلقاها في محيطها الاجتماعي. معرية بذلك واقع الأنثى في مجتمع ذكوري ميزته الأساس الاستغلال والجحود، معبرة عن نضالاتها اليومية وكفاحها من أجل انعتاقها وساعية إلى نيل حريتها المسلوبة، رافضة اعتبارها قنية للمتعة، ووعاء للحمل لا غير، مما يغيب بعدها الإنساني.
معتمدة في ذلك على النّص القصير جداً، بفضل الإيجاز والحذف والإضمار، كما اعتمدت الجملة الفعلية، والمفارقة المولدة للسخرية، والقفلة المتنوعة.
ملاحظات:
تطرح بعض نصوص المجموعة سؤال القصة القصيرة جدا فيها، بمعنى انتماؤها لهذا اللون التعبيري، من قبيل النصوص الثلاثة التالية “براءة” ص58 و”ألوان” ص69 و”جناية” ص32.
بالنسبة لنص “ألوان” وهنا نص النهاية، به أقفلت القاصة مجموعتها، نراه أقرب إلى الشعر منه إلى القص الوجيز، وهو ونص التصدير سواء.
أما نص “خيانة” فلا يشفع له السجع في الانتماء للقص الوجيز، إنه شذرة، وكذلك الشأن بالنسبة لنص “براءة”.
**
من بين المراجع الي استفدنا منها:
1_ د. محمد شداد الحراق: صورة الأنثى في “انكسار السراب” للقاصة زكية الحداد – صحيفة المثقف
2_ مسلك ميمون: البناء القصصي في مجموعة “انكسار السراب” للقاصة المغربية زكية الحداد
عبد الرحيم التدلاوي
قراءة متميزة لمجموعة قصصية متميزة أيضا.
شكرا للكاتبة والناقد