الرئيسيةمقالات و دراساتقراءة في رواية «غواية السواد» لكريم بلاد1

قراءة في رواية «غواية السواد» لكريم بلاد1

مقدمة:
تقع رواية «غواية السواد» لكاتبها / مبدعها كريم بلاد في مائة وسبع وأربعين صفحة من القطع الصغير، بغلاف صقيل أنيق وألوان زاهية وصورة دالة موحية. وقد صدرت عن دار السلام للنشر والتوزيع بالرباط في مارس 2016.
ويحزر القارئ بعد أخذه في القراءة، أن التي تسترق النظر خلال الستائر ومن وراء زجاج النافذة تتطابق مع السيدة حجيبة المالكي، الشخصية التي وقعت في غواية الزنجي الأسود «امباي» الآتي من الآفاق ؛أغواها فأغرته ثم أغوته فغوى. ولا نغلو في قولنا غير الحق إن قلنا إن «الغواية» هي نسغ الرواية وسداها ولحمتها. فامباي لا يعبر الصحراء القاحلة المهلكة، ويجابه بنات الدهر فيها [الجوع، والعطش، الشمس، والتعب، وخطر الموت كما حصل مع الرضيع المرافق وموت بقية المرافقين على يد قطاع الطرق من قبيلة الحمادين إذ ذبحوا وحرقوا رجلا وامرأتين، والتيه والضلال…]، وفي البحر بعدها [إذ تعرض المركب المقل للمهاجرين غير الشرعيين للغرق ونجا امباي والربان ومساعده بأعجوبة]، وفي محطة أولاد زيان لولا ما يمارسه شمال البحر المتوسط من غواية على من يقطن الأقطار جنوبه، وبخاصة منهم مواطني إفريقيا جنوب الصحراء.

معمار الرواية:
أ)-شكلا
ينهض معمار رواية «غواية السواد» من حيث الشكل على إهداء مخاتل هو: «إلى الأطفال الذين ولدوا برغم الوطن ممزوجين بدم السواد»، وهو و إن كان خاصا جدا ،يظل بنظرنا عاما أيضا لكل الأطفال الذين يشبهون وليد المغربية حجيبة المالكي من المهاجر الإفريقي جنوب الصحراء امباي. ويبدو أن الكاتب هنا يتضامن مع هذه الحالات التي لا يرغب، كما الوطن كله، في حصولها بدليل تركيب الجر «برغم».
كما عمد الكاتب إلى جعل جسد منجزه السردي يقوم على خمسة فصول، تتفاوت من حيث حجمها، لكنها -خمستها- مصدرة بأقوال مأثورة، قصد إليها [المؤلف] قصدا وانتقاها بعناية حتى تناسب مضمون كل فصل. وهي الآلية التي تملكته حتى في الصفحة الرابعة من الغلاف؛ إذ ذيل المجتزأ المختار من الرواية بثلاثة أقوال هي لـ: مارتن لوثر كينغ، وليون كونكران دماس، والروائية الجزائرية أحلام مستغانمي.
وفيما يتصل بلغة المؤلف نقول دونما إزجاء لمديح مجاني إنها لغة جزلة متينة، في غير إغراب ولا تمحل، ولا بهرج متكلف، تنساب شاعرية رقراقة، تطاوع صاحبها وتنقاد له ،بما يجعلها تعبر بالقارئ بسهولة ويسر من العبارة إلى المعبر عنه، ومن الإشارة إلى المشار إليه. يعضده في ذلك جعله لغة القرآن تكأة له في غير ما موضع من الرواية، واستخدامها استخداما موفقا، ونذكر في هذا الصدد على سبيل التمثيل لا الحصر:
• «شكرتها مرة أخرى قبل أن تنتظم أنفاسي التي تقطعت بفعل شرب الهيم» (ص.44)
امباي متحدثا عن نفسه وهو يشرب الحليب بعيد نجاته من الغرق ولقائه العجوز في كوخها الحجري
• «ولولت فرارا ولملئت مني رعبا» (ص.75)
امباي واصفا نفسه في حوض حمام السيدة حجيبة في غمرة زيارة صواحبها لها غير المرغوب فيها
• «فأنا الجفاف ،وريحه مرسلة لاقح» (ص.76)
حجيبة متحدثة عن حاجتها الشديدة إلى رجل يملأ عليها دنياها
• «أنا النهار الذي طال عليه غياب الليل، اسلخني لأستحيل سوادا لا أريده أن يتكور» (ص.78)
• «غلقت الأبواب دونهما» (ص.82)
المغلقة هي حجيبة
ب)-مضمونا
أما من حيث المضمون فيجمل بنا أن نومئ إلى أن المبدع كريم بلاد استطاع وباقتدار لا تخطئه العين أن يطرق مواضيع شتى بأسلوب قصصي أخاذ يشد القارئ إليه شدا، بالنظر إلى الدقة والإصابة في التوصيفات التي يخلعها الكاتب على الشخوص؛ سواء تعلق الأمر بمظهرها الخارجي، أو بما يعتمل في دواخلها من لواعج الحب والخوف والشفقة والترقب والتأهب للغدر وغيرها. وكذا في النعوت القوالب التي يصب فيها الأمكنة صبا يخالها معها القارئ أمكنة كل ما فيها حقيقي ينبض بالحيوية.
وعموما يمكننا أن نقصر نظرنا من مجموع الموضوعات /التيمات المتناولة في رائعة «غواية السواد» على موضوعتين اثنتين شكلتا، بنظرنا، عنصرين بؤريين هما: موضوعة الهجرة السرية / الحريك، وموضوعة ثانية رديفة ولازمة هي موضوعة الوطن.
بخصوص أولى التيمتين أبدع المؤلف في وصف عسر الرحلة عبر الصحراء، وكأننا به دليل خريت لقوافل الجمال فيها؛ فقد جمل الرحلة العصيبة بلغته الجميلة بالرغم من موت الرضيع، وتذبيح وتحريق رجل وامرأتين، وقد أفلح في إنجائه البطل امباي من الحمادين الذي سيواجه أهوالا أخرى في الدار البيضاء ،كبرى مدن المغرب حيث تتعقد الحياة و تسير سريعة لا تلوي على شيء؛ إذ سيبيت /أو بالأحرى سيضطجع لبعض الوقت في محطة أولاد زيان، قبل أن يقف عليه هيكلان مخمران يوسعانه ضربا ويقرعانه بلغة لم يفهمها بعد مفادها أن المكان لهما.
وفي الدار البيضاء أيضا يمتهن امباي التسول في ملتقيات الطرق حتى يسد رمقه ويحصل على ما يقيم أوده، ويتعرض لحادثة سير من قبل سيارة طائشة.
وانسجاما مع قولة الفيتوري التي صدر بها المؤلف الفصل الثالث (البحر) من روايته، لا يثاقل امباي إلى أرض البيضاء ،بل يسافر إلى شمال المغرب طمعا في العبور إلى الضفة الأخرى والتملي في قمر فرنسا، وقد استقل هو وكثير من بني جلدته المركب الذي سيغرق جميع من فيه عداه والربان ومساعده، بما جعل السارد يصف رحلته بالفاشلة وحظه بالعاثر. كل هذه الأهوال والإخفاقات سيحدث عنها غنيمته وحظه الذي سينهض من كبوته حجيبة في الصباحات والأماسي الكثيرة الريانة المغداقة.
هذا إجمالا ما يتعلق بتيمة الهجرة السرية، أما ما يتصل بتيمة الوطن التي تدخل في علاقة استلزام مع التيمة الأولى، فإنها تكاد تحضر في كل مقطع من مقاطع الرواية، وعلى لسان كل شخصية من شخصياتها ،سواء تعلق الأمر بامباي المهاجر، أو بالعجوز صاحبة البيت الحجري، أو بأرملة عبد القادر.
فالكاتب /أو على الأصح السارد الذي يضطلع بمهمة الحكي استطاع أن يصرف خطابا وازنا عن الوطن والوطنية على لسان شخوص الرواية، ودونكم هذا المقطع الموحي على لسان امباي عن الوحدة الترابية للمغرب يقول وهو في سبتة السليبة: «فكرت: المغرب وليمة تؤكل من أعاليها وأسافلها وأعطافها، وتساءلت: أليس في المغاربة دم ثورة أحمر يدق باب الحرية البارد[؟؟]» (ص.37). وفي هذا رسالة لكل مغربي ألقى السمع وهو شهيد.
وفي مقطع آخر تسأل العجوز امباي مقرعة إياه: «لماذا تتركون أوطانكم؟» فيجيبها: «نحن لا نترك أوطاننا، نحن نحملها معنا، الوطن بين جوانحنا [انظر بشأن هذا التعبير أيضا: ص.126]، وإذا حدث أن تركناه فظاهرا فقط، أما في الباطن فالوطن بحجم المحيط، نسمع له هجيجا نرتاح إلى الريح التي تصر على موجه» وتسترسل العجوز في تقريع امباي بقولها إن كلاما مثل هذا غير مفهوم، مشبهة الوطن بامرأة «إذا هجرها زوجها استسلمت لرجل غريب» (ص. 4،45).
ويظل امباي منسجما مع ذاته وتصوره؛ فهو ترك الوطن من أجل امرأة، ولأجل هذا عمل جاهدا على إغواء حجيبة و الإفادة من عطاياها الجنسية بمقدار وغير الجنسية بغير حساب، حتى إنه لم يرع لعقد الزواج الذي يجمعه مع حجيبة أي حرمة بعد جرأته على الترجل من سيارته، عفوا سيارة زوجه وملاقاة سامنتا أمامها [زوجه حجيبة]، واستكثاره على حجيبة توصيف الزوج الحليلة، إذ قدمها لصديقته سامنتا بوصفها «ربة عمله» (ص.122). ثم يضرب موعدا معها وزوجه حامل منه بمطعم نجمة البحر على كورنيش عين الذياب حتى إذا التقاها «حضن فيها أمه إفريقيا بكل قوة وبكل ما كان في نفسه من شبق إلى السواد المماثل للون بشرته» مع أنه لم يكن بينهما علاقة خاصة من قبل، وكل ما يجمعهما هو أنهما «مهاجران إفريقيان وحدتهما الوجهة والبلد الأم»(ص.124).
إن هذه الأفعال الصادرة من امباي، والتي لا ادب فيها، تدفع المتكلم إليه / القارئ وتسوقه إلى القبول فنيا بغدر امباي وهروبه وسرقته ما خف وزنه وغلا ثمنه من النقود والحلي من ممتلكات حجيبة التي لفظها وتركها تعالج ألم المخاض رفقة العجوز الواهنة شمال المغرب (ص.143)
وهناك تيمات أخرى فرعية تخدم التيمتين المهيمنتين المستغرقتين، وتشترك معهما في تشييد المعنى في الرواية، وتسعف عموم القراء في الجواز من بنيتها السطحية إلى تلك العميقة المنفتحة على الآفاق الرحبة للتأويل الممتد الباني منها: تيمة التسامح التي تستدعي وتستتبع اللاتسامح في الآن نفسه؛ وسنكتفي في هذا السياق بجرد بعض المقاطع الدالة أو التعبير عنها بما يتوافق معها نترك للمتلقي أمر التفاعل معها وتأويلها:
– انشداد وتعلق حجيبة بالسود وحبها إياهم ليس بنظرنا رغبة شاذة بل هو ضرب من التسامح؛ «لم تكن تستميلها الوجوه الشقراء، بل السوداء التي تلمع وجناتها، وتتميز سوادا» (ص.52)
– كلف حجيبة بزيارة بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وإعجابها بمعالمها وثقافة أهلها (ص.59).
– إعجاب حجيبة بامباي ووقوعها في حبائل حبه وزواجها منه وكرمها معه.
– دفاع حجيبة المستميت عن المهاجرين السود القادمين من جنوب الصحراء «من حق الأفارقة المهاجرين الذين فضلوا أرض المغرب الكريم أن يعملوا في فضاءات تناسب كفاءاتهم وطموحاتهم الفردية؛ فالإنسان الإفريقي الأسود شأنه شأن كل إنسان في أي مكان وأي زمان، سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالعمل والإخلاص فيه، تكفل لهم المنظمات الحقوقية العالمية التمتع بكل حقوقهم (…) فلماذا نظل نحتقر الإنسان الأسود (…) هل المهاجرون لا وطن لهم؟ غلط .. كل الأوطان أوطانهم» (ص.90 ،91).

خاتمة:
وبعد لعمري إن رواية «غواية السواد» أثر أدبي يخرق المعتاد بالنظر إلى توفق صاحبه في تناول جملة موضوعات تناولا فنيا مفارقا للتناولات العادية ينأى عن مثلبة المنبرية، ويرتاد آفاق التجريب بلغة بسيطة في غير إسفاف تتدفق شلالا منهمرا تؤكد تمكن الرجل من ناصية اللغة، وبصره بطرائق الخطاب السردي والسبك القصصي، نرج، وليس نتمنى، أن تتفتق قريحته في مستقبل الأيام وتجود بأعمال سردية أخرى تضارعها أو تزيد عليها دجة أو درجات.

هامش:
1- بلاد، كريم، غواية السواد، مطبعة دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، [ط.1]، 2016م، وسنحيل بعد هذا على جميع الصفحات المتعلقة بالرواية داخل المتن بين قوسين.

فضيل ناصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *