الرئيسيةإبداعدوران..

دوران..

ساعة قديمة .. قلبها بندول من زمن البيوت الطينية .. وعقرباها شاهدان على طفولتي وألعابي الرتيبة وكتبي المدرسية.. لا أحد يهتم بها سواي .. أنا المولع بالأشياء القديمة والتذكارات وحكايات الطفولة .. أحتفظ بها فوق الجدار في حجرتي .. فتطل بوقارها وسط أشيائي .. بين الحين والآخر أنفض الغبار عنها .. وكلما توقف عقرباها أعاود تشغيل البندول بمفتاحها العتيق.
أبي أورثني هذه الساعة .. ولم يورثني ثروة أو حسابا مصرفيا .. أورثني عقربين يدوران .. يوقظان الغفلة في هدأة حجرتي .. ويرسلان دقات تعلن عن نزف العمر ..فأدرك باحساس من المرارة أنه يمر أمام برودي.
وبحكم قدم الساعة جعلتها الألفة شيئا عاديا .. فلاتلتفت إليها زوجتي ولا أولادي .. ولا أعرف لماذا أدرجها في قائمة أشيائي الثمينة .. رغم أنها ليست ذات قيمة مادية كبيرة .. فمنذ طفولتي وأنا قريب منها .. أتأمل انسجام بندولها مع الدقات المتتالية .. وحرصه على أن ينتظم في اهتزازه .. وأتخيله في بعض الأحيان مخلوقا رأسه لأسفل ويهتز طوال الوقت .. وكلما أنزلها أبي وفتح غطاءها .. استحضرت اسئلتي الطفولية لمعرفة خباياها من الداخل.
صارت الساعة جزءا من مقتنياتي .. وحياتي اليومية .. أختلس النظر إليها كلما فتحت عيني من النوم .. وأتأملها فأحس أنني ألامس حدود الزمن.. صوت دقاتها يسقط إلى سمعي .. فأتواصل مع الزمن .. وأحس بسرعة جريانه .. واقنع نفسي بحكمة قديمة تجعل من الوقت سيفا يقطع .. دقيقة تولد .. دقيقة تقضي نحبها .. و دقيقة تحاول اللحاق بسابقتها دون أن تدركها .. في ناموس الزمن الدقائق لاتدرك بعضها .. لو التقت لحدث انشطار زمني .. الزمن دقات بندول أزلي .. والعقارب تمارس الدوران .. تلتقي في نقطة .. تتبادل المودة .. ثم تفترق .. أعمارنا سيرة لالتقاء العقارب وافتراقها .. الزمن دائرة كبيرة .. و الدوران لايتوقف .. العقارب تدور .. الكرة الأرضية تدور .. ونحن ندور .. أشياء كثيرة تدور .. و كل دورة تعني أننا اقتربنا من النهاية .. الدوران رقصة الزمن.
دقات الساعة العتيقة تخرق سكون تفكيري .. ومن كثرة الإستماع إليها .. أصبحت أفلسف مرور الدقائق .. وأحلل تتابع الدقات .. دقة للميلاد .. دقة للموت .. دقة للصعود .. دقة للإنحدار .. دقة للشروق .. دقة للظلمة .. دقة للتجدد .. دقة للتغيير .. دقة للسفر .. ودقات لاحصر لها .. ومن كثرة ارتباطي بالدقات بدأت أبحث في سيرة البندول والعقارب والزنبرك .. وقرأت حكاية عن بندول ساعة يملكها أمير .. تحول البندول إلى راقص باليه .. وصار يرقص أمام الأمير .. والأمير يغدق عليه الهدايا .. توقف قلب الساعة عن الدوران ومات راقص الباليه .. فأرسل الأميرإلى الساعاتي .. وأصلح الساعة .. خرج من الساعة راقص باليه آخر .. وبدأ يزاول عمله .. وفي أول رقصة مات الأمير جالسا على كرسيه.
تعطل بندول ساعتي القديمة .. توقفت .. افتقدت جزءا من يومياتي .. كلما نظرت إليها وجدتها ساكنة .. لا أحب الثبات .. أحب الحركة .. الثبات ركون .. أحب أن أحيا .. والحياة حركة وتجدد .. أكره صمت ساعتي .. أكره رؤية عقربيها جامدين .. حملتها إلى الساعاتي .. أخبرته عن عمرها .. وعن الذكريات والزمن الباهت في الذاكرة .. تحدثنا عن الساعات القديمة .. فأثرنا شجون العقارب والتروس والمفاتيح في الساعات المعلقة على جدار المحل .. تركت الساعة عنده .. وحلفته بأعز ساعة على قلبه أن يهتم بساعتي .. وفي اليوم التالي عدت إليه .. وجدت ساعتي العتيقة قد كبرت بحجم محل الساعاتي .. وكان صوت دقاتها يملأ المكان .. بحثت عن الساعاتي .. لم أره .. ارسلت نداءاتي إليه .. وصلني صوته متحشرجا من داخل ساعتي:
– أنا هنا غارق بين التروس ..

محمد العنيزي – ليبيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *