– أنور : ( بعد صمت خفيف )تحتاج ام كلثوم الى ساعة ونصف لتقول لحبيبها : انا احبك . بينما تحتاج الى ساعة كاملة وزيادة حتى تقول له موعدنا غدا .
– علي : طول الاغنية مرتبط بحجم المعاناة (سكتة) اغاني السندويشات الان الخمسة دقائق بالفعل تعبر عن قصر زمن الحب بين العاشقين المؤقتين . وعن عدم الاكتراث بها ان تركته ، في خمسة دقائق احبها وفي خمسة دقائق تركها ، وبعد خمسة دقائق سينساها . انظر الى ذلكم الحرّاث ، انظر كم تعاني حنجرته حتى تلد بناتها ، انظر كيف ، كيف يشترك انفه وعيناه وملامح وجهه قاطبة في اعداد نوتات لحن ما يغنيه ، في كلماته وعبر صدى صوته ترى شريط حياته المرير . لكن انظر الان الى ذلكم الجالس على جهاز الكمبيوتر ذاك ، تظن في شعره وهو يهتز على انغام اغنية الخمسة دقائق انه يتراقص وينتشي فرحا ،بينما هو في الحقيقة يتراقص خجلا منه ، والشعر يرقص مذبوحا من الخجل .
– انور : هه – ربع ضحكة .
– علي(يهم بالنهوض) : ينبغي ان نعود الان ، هيا بنا .
– انور: إلى اين ؟ .
– علي (مادا يده الى انور لمساعدته على النهوض) : يمكن ان تندلع الحرب في اي وقت فجأة ، لنعد الى بيوتنا بسرعة .
– انور : (مشيرا الى علي بالجلوس) الصاروخ الذي سيصيبك وانت هنا سيصيبك وانت في منزلك ، انتظره هنا حتى يأتيك ، فذلك افضل حتى لا ينهار منزلكم وتخسر اخوتك .
– علي : صدقت .(يجلس)
تم اعطاء سامر دور الاعمى المشرد في هذه المسرحية ، الذي يدور بين المقاهي وفي الشوارع ، وجدران الحارة التي قد شبعت رائحة ثيابه البالية ، وقد كان هذا الدور في الأساس من نصيب شاب برجوازي ينتمي لعائلة ثرية تقطن في احدى ضواحي العاصمة ، فيما دخل قسم التمثيل في الجامعة البعيدة عنه في اربد بعد ان حسم تحصيله الدراسي في الثانوية العامة عليه ذلك . وما منعه من دراسة اي تخصص اخر هو النية المسبقة لديه في عدم بذل اي جهد يذكر في دراسته ، مع اقتراح امه عليه بالسفر الى اوكرانيا لدراسة الطب ، فالدراسة هناك بحسب تعبيرها لا تحتاج الا الى المال ، وما بعد ذلك سهل مطقع .
رد سامر على معن : لو درست الطب سيموت مرضى كثر على يديك ، ولو درست السياسة سيموت اغلب الشعب على خلفية ما ستصدره من قرارات ، اما هنا في هذا المعهد فاعتقد ان الفرصة لن تسنح لان تكبر فيه ، و ان سنحت فانهم سيموتون غيظا فقط في ان من مثلك قد وصل الى الشاشة .
معن : انتا هيك ابتحكي-بمطّ في كلامه آثناء حديثه ، وعلكة ممضوغة من قبل نصف ساعة في فمه وقد حان الوقت لتبديلها بأخرى وهكذا دواليك- ماما حكتلي إنه خالتوه رح تحكي مع جوز خالتوه عشان أفوت عالتلفزيون ، وهيكا .
ارتفعت درجة حرارة سامر من الغيظ ، و لم يملك القدرة على الرد على معن ، لأنه يعلم أنه إن قال ذلك فقد صدق و بإمكانه ، وسيدخل عالم الإعلام والتلفزيون والمسرح والمسلسلات والدراما وسيلوث التاريخ والحاضر والمستقبل من أوسع الابواب . وسيغدو مشهورا ، وثريا مع انه لا يحتاج الى ثراء اكثر مما يحوزه الان . ولكن الدور الذي اعطي هذه المرة لسامر من بعد ثلاثة سنوات من تخرجه ، وما اعطاه اياه فقط هو اصابة معن بكسر في قدمه جراء حادث سير اصابه ، وعلى خلفية ان كاتب السيناريو نفسه هو دكتور الجامعة رشيد الذي اعترف ذات مرة امام الطلاب في البروفة التجريبية لمسرحية انتظار غودو ، والتي لعب فيها سامر دور فلاديمير كبطل رئيسي في المسرحية.
رمى الدكتور شعره المسدل حتى اطراف اذناه الى الوراء ، ثم قال له مخاطبا : في وجه الممثل تقبع فترة زمنية مخفية وراء وجهه الحقيقي ، وهي دوره على خشبة المسرح وخلف الشاشة ، لكن العبقرية الحقيقية هي في ان تجمع عصورا مع بعضها على تنافرها تحت وجه واحد ، تنتقل بها حيثما اقتضى ذلك ، انظر الى بسام كوسا ، سترى من خلاله العصر الجاهلي وما بعده وما قبله، يجمعها كلها ويحيكها في الخفاء ، حتى تعجز عن معرفة من هو وما هو ، انظر ايضا الى غيره ممن هم احياء ومن مات منهم ، باختصار :على خشبة المسرح انا لا اراك ، انا ارى من خلالك .
لم يبقى وقت طويل على بدء هذا العرض المسرحي الذي سيحتم بالفعل مصير سامر ، وما أن تلقى الاتصال الهاتفي من صديقه في نفس التخصص عن طلب الدكتور رشيد رؤيته بأقصى سرعة ، حتى كان في مكتبه يتلقى هذا الحمل الذي القي على عاتقه .
عاد سامر الى بيته ، وامامه اسبوع واحد فقط كي يكون ذلك الاعمى الذي يلعب دورا شبه محوري في هذه المسرحية ، من بعد ثلاثة سنوات من الأمل والسهر والفقر والبطالة ، بأرق دائم وحسرة وقطيعة لأهله واصدقائه وانما جليس سيجارته فقط .
امضى سامر ما تبقى من نهاره كاملا ، وتعمد ليلا أن لايذهب للسهر مع اصدقائه ، لكن مبررات اخرى كثيرة قد دفعته للذهاب مساء اليوم التالي اليهم ، فقد ملّته عائلته لكثرة حديثه عن المسرحية ، على الرغم من انه صالح كل افراد عائلته ، وقبل يدي ابيه وماه من بعد فراق اكثر من سنتين لهما جراء تحميله لهما ذنب اوضاع العائلة الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليها ، وهاتف اخته وزوجها واخبرهما بذلك والضحكات تهطل من وجهه وما ينبثق عنه من حركات بهلوانية تعبر بأسى عن نشوة عودة لحظات الفرح والانتصار على ماضيه الممتد منذ ثلاثة سنوات الى الان .
فيما بقيت اخته وامه تحت نشوة فرحه تنصاعان لترجياته كل نصف ساعة بان يمتحناه فيما حفظ من النص المعطى له . وتكاثرت الاقتراحات اثناء ذلك ، سالته اخته الصغرى ان يلبس نظارات سوداء اللون حتى يستطبع ان يرى امامه بحيث يعرف اين يقبع الجمهور واين يقبع ايضا ابطال المسرحية واين حدود خشبة المسرح . فيما اخوه الاصغر نهض ندّا لها بقوله انهم لا يمكن ان يغلقو عينيه حتى يبدو للجمهور انه اعمى . يكفي ان يفتح عينيه وببساطة لا يرى . فيما اقترحت امه وهي تخرج من خزانة الملابس الشتوية سترة صوف بالية صفراء اللون فاقعة ذات اكمام منكوشة الداخل ، فيما تتشعب الخيوط في الخارج ، اما ابوهم فقد كان اقتراحه بأن يذهبوا لحضور مسرحية ابنهم ، ولككنه تراجع سريعا بعد تفقد جيب بنطاله الفارغة بأطراف اصابعه .
******
– المسرحية بعنوان “خمسة دقائق” اجاب سامر احد اصدقائه الذين ذهب للسهر معهم مساء اليوم التالي ، حين سأله عن عنوان المسرحية .
– وما الدور المعطى لك ؟ سؤال آخر من نفس الصديق .
– شخصية خفيفة قليلا عندما تنظر اليها ، ولكنها تحتاج الى تركيز عالي وابداع .
– هل معك نسخة عن المسرحية؟
– نعم ، انظر هنا بداية المسرحية ، وشرع سامر يقرأ المسرحية على اصدقائه ، وعيناه تفيضان بأشباه دموع مزجت بين الحزن والفرح ، فعندما تصل الى قمة سعادتك لوهلة ما تشعر بأن السقف العالي ذلك مجبول بالحزن . فيما هو يشرح ما سيحدث نهض وامسك بعصا كان قد احضرها معه ، ثم اغمض عينيه وجعل نفسه يقوم بكل الادوار ثم جلس يقرأ من جديد ويعيد :
يمشي الاعمى فقط من الجانب الايمن الى الجانب الايسر من خشبة المسرح وبالعكس ، هكذا طيلة فترة المسرحية .
– انور: انظر الى تلكم التلة هناك ، البارحة احترقت الغابة المحاذية لها من الخلف .
– علي : اي تلة ؟
– انور(مشيرا بيده ) تلك التلة بمحاذاة بيت عصام .
– علي : وهل عصام عنده بيت الان ؟
– انور: نعم ، بناه بعد ان تزوج .
– علي : وهل تزوج عصام ؟
– انور : نعم تزوج استجابة لوصية والده قبل ان يموت بأن يأخذ ابنة عمه .
يقطع حديثهم اعمى يمشي من جانبهم زحفا كأفعى طويلة وسمينة تنسابعلى خشبة المسرح ، وهو عار تماما باستثناء قطعة ملابس تغطي منطقة أعضائه التناسلية وضعت احتراما للجمهور فقط . لكنه عاد من الجهة اليسرى الى اليمنى حبوا كطفل صغير في اوائل الثانية من عمره وهو يحاول ان يتعلم المشي بصعوبة .
– علي : انظر الى هذا الاعمى .
– انور : دعه وشأنه ، حاله يرثى لها .
– علي : ربما حاله افضل الان من حالنا ، نحن العميان في الحقيقة .
اسرع الاعمى بالركض من الجانب الايسر الى الجانب الايمن ، حاملا بيده غرابا خسيسا في قفص خشبي ، فيما عاد من الجانب الايمن بقطة سوداء غبية ماشيا بحركة اقل سرعة من السابق .
– انور : (باستغراب) نحن ماذا ننتظر هنا ؟
– علي : (مشيرا بيده ) ننتظر انهيار ذلكم الجبل .
– انور : اي جبل ؟
– علي : الجبل المحاذي لتلكم الغابة الجديدة ، بجوار التلة المنهارة حديثا ، الى جانب منزل عدي ابن عصام الذي ورث عن ابيه المنزل والارض .
يقطع الاعمى الحديث بمشيه على عكاز متثاقل الخطى ممسكا بيده سلسلة كلب ابيض اللون باسما يمشي وراءه بصمت ، وفي عودته الى الجانب الاخر كان يزحف على الارض مادا يده الى طفل صغير يمشي بمحاذاته حتى استند الى كرسي ثالث بجانب المتحاورين الاثنين .
امضى سامر بقية اسبوعه يتدرب على اداء دوره ، حتى انه لحظة عراكه مع اخته الصغرى بعد مضايقته لها تحت نشوة فرحه الزائد بمزح ثقيل منه عليها ، كانت قد اطلقت عليه لقب الاعمى بقولها له : يا اعمى لا تمزح معي .
استمر سامر على نفس هذه الوتيرة العالية في التدريب على اداء دوره ، وذهب الى المسرح اربع مرات لوحده امضى في كل مرة قرابة الاربع ساعات ، ونفّذ وابطال المسرحية الاخرون بروفات كثيرة على خشبة المسرح حتى وصلوا الى يقين ان مسرحيتهم ستنجح بالتأكيد ، ويقين اخر انزرع لدى الاخرين ان دور الاعمى قد خلق لسامر ولم يخلق لغيره .
في بيته وامام اصدقائه ، حتى في الشارع كان يتدرب على اداء دوره ، وفي حافلة عودته حين لم يكن له مكان للجلوس ، وامضى الطريق كله واقفا في الممر ، فاتحا عينيه ولكنه لا يرى شيئا ، وعند نزوله من الباص في الموقف ، امضى الطريق كله ماشيا كأعمى ، والتقط عصا من الارض وسار في طريقه ، حتى قال في نفسه : لله يا محسنين .
انتهت المسرحية بسماع دوي انفجار بمحاذاة المقهى الجالسين فيه ، وعلى مسمع الجميع ، حتى الاعمى الذي ارتعد خوفا من هذا الصوت ، فأخبر الجالسان بعضهما ان الموعد قد اقترب ، ورد عليه الاخر بقوله : ما هي الا خمس دقائق .
– انور : (بهدوء)قديما كانت الحرب اجمل ، واطول ، تستمر لشهر وشهرين وثلاثة ، فيها راحة ولعب ، وعدد قتلى بسيط نسبيا ، فيما نشوة الانتصار لا مثيل لها .
– علي: وطعم الهزيمة ايضا في السابق يختلف عما هو عليه الان ، في السابق يعلن الحداد العام لحظة الهزيمة ، اما الان فيجلس المنتصر والمهزوم على طاولة خمرة واحدة من بعد انتهاء المعركة .
توالت اصوات الصواريخ والمدافع حتى ارتطمت بالمقهى ومات جميع من فيها بمن فيهم الأعمى . اغلقت الستارة . وحان الوقت لتحية ابطال المسرحية وتقديم انحنائتهم الاخيرة للجمهور ، الا الأعمى سامر الذي بقي جالسا يبحث بيديه عن عكازه على الأرض .
اصطفت سيارة الدكتور رشيد امام بيت اهل سامر ، وخرج اهله كلهم فرحين على وقع زامور السيارة الذي صدح ، وما ان فتح باب الدار حتى فتح الدكتور باب السيارة من الجهة الثانية ، ليمسك بيدي سامر ويساعده على النزول وعيناه مغطاتان بقطن ابيض ، ومن فوقهما نظارتان سوداوان ، وعصا في يده ستصبح عضوا منه وفيه .
سفيان توفيق