تأملات في الانقلاب العسكري
ما زالت صورة ذكرى ثورة ال 25 يناير المصرية، عالقة بكل الأذهان. ولقد تساءلت يومها، عن مدى إمكانية وقدرة هذه الانتفاضة الشعبية المليونية العارمة، التي أطاحت بحكم الرئيس حسني مبارك، بتدشين عهد ديموقراطي جديد؟. وكان تساؤلي، بل تخوًّفي من ردة فعل مؤسسة عسكرية، بوليسية واستخباراتية لدولة عميقة وعميلة، عن هذا التحول الذي سيحرمها في المستقبل القريب، من كل المكتسبات التي اغتنمتها غصبا، وبدون استحقاق على حساب شعب شبه أمي مًفَقّر ومًؤَدّب لمدة عقود، بل قرون جاهلية بتربية عبودية. عبودية قلت، محصلتها الاستسلام والرضوخ والطاعة للسلطة الحاكمة. ومع كل هذا، فإن الربيع العربي ولئن لم يحقق ثورات جذرية في مجمل الدول التي شهدت زلزاله، فإنه على الأقل قد أسقط، بل وأطاح لأول مرة في عهدنا الحديث بشبح الخوف، الذي كان جاثما بمؤسساته البوليسية القمعية على صدره، وعلى صدر كل مواطن عربي. نعم لقد قُتِلَ الخوف العربي حين أدركت الجماهير الشعبية العارمة المنفضة، مدى قوتها وهشاشة سلطة طغاتها وطغيانهم، حين خرجت لتضحي بدمائها من أجل حرية كرامتها. لقد كان هذا المكسب، ونعني قدرة وجرأة المواطن العربي على التمرد في وجه الطاغية، هو أثمن مكسب حققته غلابا، ثورات الربيع العربي. ومن جهتنا نرى بأن هذه الانتفاضات العارمة، قد حققت قطيعة تاريخية حقيقية مع، ما بين مرحلة ما قبل الثورات، أي مرحلة الاستبداد التي كانت مبنية على التخويف والقمع وهدر الحريات من قبل سلطات فرعونية مطلقة، ومرحلة ما بعد الثورات التي وضعت أهدافها الأولية في ملاحقة الثورة، من أجل تأسيس عهد جديد، ينبني على الحرية والكرامة والحقوقية. أي عهد مواطن له حقوقه وواجباته، وليس فرد مهمش تتبناه وتلعب به السلطات كيفما تشاء. بطبيعة الحال إن تأسيس هذه المواطنة الجديدة لم تكن ممكنة إلا في إطار تفريق السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، أي باختصار، نزع كل السلطات التي كانت متجمعة في يد الحاكم المطلق وأعوانه، وإنشاء دستور جديد يراعي استقلالية كل هذه السلطات بعضها عن بعض، وتوزيعها على سلطات محايدة ومستقلة ومراقبة لبعضها بعض.
في ضوء ما ذكرناه أعلاه، إذا اتخذنا النموذج المصري مثلا، فإن الرئيس المنزوع، قد نُحِّي وقدم للمحاكمة، وأجريت انتخابات رئاسية نزيهة لأول مرة في تاريخ مصر. وفاز بها الدكتور محمد مرسي على خصومه من أحزاب المعارضة، وعين شرعيا كأول رئيس مدني منتخب للبلاد بعد ادائه لليمين الجمهوري في 30 يونيو 2012. وخلال يومي 15 و 22 من ديسمبر الذي تلاه، جرى الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد وجاءت النتيجة بالموافقة عليه بنسبة 63،8 في المائة. ولكن القوات المسلحة انقلبت عليه وعزلته في 3 يوليو 2013. وقامت مباشرة بإيقاف كل القادة السياسيين المواليين له، بالإضافة إلى إغلاق كل المحطات والإذاعات الإسلامية والمستقلة وملاحقة بشكل همجي كل رموز الصحافة الحرة، منذرة بعودة عهد بوليسي لا يذكر إلا بالهمجية والاستبداد. وهكذا فتحت أبواب الإعدامات على مصراعيها لكل من يشتبه فيه ممن ذاقوا طعم الحرية ونكهتها الثورية.
لقد ذكرنا وباختصار مسلسل الأحداث التي جرت، منذ عزل وتنحية مبارك، لغاية الانقلاب العسكري الأخير، دونما تغطية شاملة ودقيقة لأهم الأحداث. وهدفنا الآن أن نلقي الضوء، على الأيادي الخفية التي كانت من وراء هذا الانقلاب العسكري، وعن العوامل التي ساعدت، أو عملت على مساندته ودعمه وإعادته إلى الوجود في صورة “كاريكاتورية” بطبيعة الحال، المارشال “السيسي”. اختراع أعجوبة عسكرية سخيفة، وما أدراك ما هذا المارشال الذي تصور نفسه قد وصل لهذه الرتبة المشرفة، بعد خوضه لحروب وهمية ووطنية هائلة؟. ودعونا نطرح سؤالا بسيطا على غرار جرائم المسلسلات البوليسية، قائلين “من المستفيد من الجريمة يا ترى؟”. بطبيعة الحال، إن الجواب عن تساؤل دقيق كهذا، يستوجب قراءة حقيقية لمجريات الأحداث الواقعة حتما، في طيات الموروث “البيروقراطي” الاستعماري للجمهورية المصرية بشكل خاص، وبقية البلدان العربية بشكل عام. بطبيعة الحال، والأمر الذي يعرفه الجميع اليوم ولا يخفى على أحد، أن حالة التخلف التي ما تزال القاسم المشترك لمعظم الدول العربية، هي حصيلة للمرحلة الاستعمارية المباشرة واللّا مباشرة، التي قامت بعد تحرر هذه البلدان شكليا من قبضتها العسكرية. وبهذا الخصوص يستنتج الباحث الاقتصادي “جوزيف ستيكليز”، بأن حالة النمو الصناعي لدى الدول التي استعمرتها اليابان، كان أقوى وفعال من تلك الدول التي استعمرتها القوات الغربية، التي لم تخلف بعد رحيلها سوى الفراغ. والإشارة هنا تتوجه مباشرة لكل من فرنسا وبريطانيا، بل والاتحاد السوفياتي وأمريكا، والكتلة الغربية جمعاء، إبان وما بعد الحرب العالمية الثانية. فمن مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والليبرالي إلى غاية سقوط الأنظمة الشيوعية، وتَصَدّر أمريكا مؤخرا لدور الإمبراطورية العالمية، وأوجه الأنظمة العالمية تتعاقب في رسمها وتحديدها لخرائط العالم. وفي هذا السياق بالذات، إن نصيب الدول العربية من هذه الخرائط المهيمنة، كان ولما يزل، أن تظل هذه الدول قسمة مشتركة لكل من أمريكا وروسيا والكتلة الأوربية، التي تتصدر زعامتها كلا من فرنسا وبريطانيا. فالمغرب العربي بما فيه الجمهورية الليبية مثلا، يقع مباشرة تحت القبضة الأوربية الغربية المتوسطية ومن مصر وبقية دول الخليج تحت السيطرة الأمريكية المطلقة، باستثناء الجمهورية السورية التي تحسب على مكتسبات روسيا، مرورا بالجمهورية الإيرانية إلى الجمهوريات الإسلامية، التي تقع في امتدادها الجغرافي كأذربيجان، وكازاكستان، والشيشان وغيرها.
فلنفصل القول إذن، في هذا الموروث الاستعماري الذي نوزعه على المكونات الآتية:
– أولا: المؤسسات العسكرية والبوليسية والاستخباراتية.
– ثانيا: المؤسسات الدينية والثقافية.
– ثالثا: المؤسسات السياسية.
– رابعا: المؤسسات الاقتصادية.
-1- المؤسسات العسكرية والبوليسية والاستخباراتية
إذا كان ربيع الثورات العربية، قد انتقل كالشرارة في الفتيل، من أقصى تونس إلى أقصى اليمن، مرورا بباقي الدول العربية، فلأن قاسم هذه المؤسسة القمعية، المتمثلة في كل من الجيش، والبوليس والمخابرات، تحمل وجها قمعيا مشتركا. وتشكيلة هذه المؤسسة القمعية، يرجع في معظم هذه الدول، إلى المرحلة الاستعمارية، وبعضها الآخر، إلى وقت متأخر بتوجيه من أمريكا، خصوصا فيما يتعلق بدول الخليج. فالمستعمر الأوربي الذي حكم هذه الدول العربية، قد فخّخها بمؤسسات أمنية بوليسية قمعية، ملئت من بعد رحيله عنها، أمنيا وعسكريا، بمن خلفه بنفس المنهج الاستعماري. لهذا لا تصبينا الدهشة، حين نرى بأن الجيوش العربية بدون استثناء، تقف عدوة في وجه شعوبها، وطبقاتها الشعبية العارمة بوحشية مذهلة. وكأن المراقب لهؤلاء، ونقصد الجيوش والبوليس والمخابرات وأولئك، ونقصد الشعوب المقموعة، لا تفوته الفرصة ليدرك من أول نظرة، بأن ثمة عداوة مطلقة، وشراسة شديدة، منقطعة النظير، بينهما. نستنتج من هذا الانطباع، ومن هذه الحالة الواقعية المزرية، بأن قبضة الغرب وأمريكا، ما تزال مطلقة على المؤسسات العسكرية، هذه المدعومة بالجهازين: البوليسي والمخابراتي. لهذا بالذات، وفي غياب حراك جماهيري واعٍ بواقع الأمور، فإنه من السهولة بمكان، الإطاحة بالثورات العربية، أو احتوائها، ما لم تقف لها الجماهير بالمرصاد، مستعدة بالمضي قدما بالدفاع عن مكتسباتها الثورية، ولو كلفتها هذه الأخيرة بالتضحية بنفسها ونفيسها، من أجل مستقبل حر ومسؤول ومتحرر من كل تبعية. لأنه في واقع الأمر، ليس من السهولة بمكان، اقتلاع واجتثاث مؤسسات متعفن ة وعميلة، وخائنة لشرعية وجودها التاريخي كهذه بين عشية وضحاها، هذه التي أصبحت تسمى سياسيا ب”الدولة لعميقة”، أي موروث الفساد البلطجي والشبِّيحي والبورجوازية الليبرالية المتواطئة والطغمة العسكرية المتحالفة مع سادتها المُستعبدة لها.
-2- المؤسسات الدينية والثقافية
إن الدول العربية التي هي إسلامية الثقافة بإطلاق، باستثناء أقليات مسيحية في المشرق، قد عرفت لها تاريخيا علاقة خاصة مع الغرب الأوربي، حروبا دينية صليبية معروفة لدى الجميع. وعلى هذه الخلفية، فإن الدول الغربية في استعمارها الحديث للدول الإسلامية، قد قَدِمَت في لباس المنتقم من حيثيات الماضي. بالفعل لقد قدمت إبان مرحلة استعمارها الحديث، بجنودها وتجارها، وخصوصا بمبشريها الدينيين لمحاربة الإسلام على ترابه. وحين فشلت كل هذه المحاولات في محو إسلام ثابت ومجاهد، سعت بطرق أخرى إلى تكوين أقليات علمانية، ربتها في مدارسها وسلمت لها مقاليد تسيير أمور هذه الدول. بل حتى المَلَكِيات من هذه الدول، لم تسلم من هذه الحداثة الدستورية الدخيلة. فنظرة خاطفة على دساتير هذه الدول، تخبرنا بأن القانون الوضعي الاستعماري ( قانون نابليون على سبيل المثال)، قد حلّ محلّ التشريع الديني، في مجمل هذه البلدان العربية الإسلامية، باستثناء ما يتعلق بالزواج والميراث. وإلى جانب هذا التهميش، ستلعب المؤسسة الثقافية دورها الفعال في دعم الخطاب العلماني المستورد والدخيل، في مقابل الموروث الثقافي الإسلامي التقليدي. فثقافة الاستهلاك السلعية والمخدرات والكحول، ضف عليها الأفلام السينمائية العرائية ومؤسسات “البورنو”، والموسيقية الخلاعية، والموضات العرائية الغربية، التي أقحمت في هذه الدول بشكل همجي، وبدون رقابة أخلاقية، ستكون من بين مظاهر التشوه والتقليد الثقافي الأعمى، الذي أصبحت تعيشه هذه الدول. فحظ المواطن من الإبداع الحضاري المتمشي مع، والمتطلب من العصر، سيكون منعدما بسبب هذا الغزو الثقافي الأجنبي، المُصَدَّر خصيصا لتخدير وشل حيوية وقدرات الابتكار لدى هذه الشعوب. وفي هذا السياق بالذات، نذكر دور اللغة العربية، هذا الذي أصبح مهددا في معظم هذه الدول. لأن دور اللغة العربية، كان وما يزال، مرتبطا بالثقافة والدين الإسلامي. إذن، فتهميش هذه اللغة – أو حتى محاولات استبدالها بالعامية كلغة رسمية للتعليم- على حساب لغات أجنبية دخيلة وغازية في عمق هذه الديار العربية، له مغزاه ومعناه ودلالته التاريخية في التخلف الاجتماعي الذي تشهده هذه الشعوب. فبينما كانت جغرافية اللغة العربية، مشعلا حضاريا في مجمل المعمورة المتمدنة تاريخيا، إبان عز الإسلام واتساع رقعته الحضارية من الهند إلى آسيا، فأروبا، أصبحت هذه اللغة في تراجع واستهجان، ورمزا للتخلف والرجعية الدينية. وعلى سبيل المثال لا غير، فكل الدول العربية، قد أصبحت وأمست تبث في إذاعاتها الرسمية، لأخبار ومسلسلات ناطقة باللغات الأجنبية. وفي المقابل، فإنك لن تجد هنا في الغرب، ولو إذاعة عربية رسمية واحدة، تذيع ولو خبرا واحدا باللغة العربية والعبرة لمن يعتبر. وملخص القول، إن ما يتعلق بما هو ديني وما هو ثقافي، إن اللغات الأجنبية الدخيلة، تقارن بالحضارة والتمدن في حين أن اللغة العربية تقارن بالدين والرجعية والتخلف. ومن هنا دعم الغرب ومساندته، لكل الأقليات الليبرالية أو العلمانية “المُفَرْنَجَة”، على حساب الأغلبية المحسوبة على التقليد والتخلف الديني. وبهذه المناسبة، إن ما يجري في مصر اليوم من أحداث انقلابية، يظل من وجهة المراقب العربي المقيم في الغرب، سواء في أوربا او أمريكا، تفسيرا وقراءة نموذجية مهمة للغاية. فكل الأحداث الغربية هنا وبدون استثناء نقلت أحداث الطغمة العسكرية وحلفائها الموهومين فقط وأقامت الدنيا وأقعدتها دفاعا عن الحرية والعدالة. وفي المقابل لم تنقل سوى صورة واحدة، بل ومهمشة للملايين من المواطنين المتظاهرين دفاعا عن الشرعية. وحين حصل الانقلاب العسكري على رئيس مدني منتخب شرعيا، لم تجد لها هذه الإذاعات الغربية من تفسير، سوى الطلب من طغمة الانقلابين التحلي بالصبر. ولو كان هذا الانقلاب قد حصل من جهة إسلامية على شرعية رئيس علماني على سبيل المثال، لما توانوا هنا في الغرب في هز محاكم الدنيا في ملاحقتها. ولنا في نموذج النظام العسكري السوري وبالدمار الذي ألحقه بشعبه وأرضه، أفضل مثال عن هذا الصمت الديموقراطي المتواطئ تجاه هذه المأساة الإنسانية السورية. والأغرب من كل هذا وكأن العالم قد أصبح اليوم أعمى فاقدا للذاكرة، ثمة اليوم في أروقة ما يسموه “بالرابطة العربية” من خرج بالمزامير وبطبول الدعوة ( ونخص بالذكر كل من الإمارات والسعودية وعسكر مصر والسودان ومن يدور حول محور رجعيتهم) لاسترجاع مجرمي حرب سوريا إلى البيت العربي.. ! ؟
-3- المؤسسات السياسية
تأملات في النوايا الانقلابية
مما لاشك فيه، أن مخطط جنيرالات قادة الجيش “المتبرجزين”، قد تجلى مشهده المأسوي، في إصرارهم على إعادة تثبيت السلطة العسكرية واسترجاع امتيازاتها والحفاظ على دكتاتوريها، بعد التضحية شكلا بالرئيس المتنحي حسني مبارك، كانت مسألة وقت لا غير. ففي سياق زحف الجماهير الغاضبة على ساحة الميادين الاحتجاجية، فهم قادة الجيش بأن الدخول في مواجهة مسلحة مع الشعب قد تكون عواقبها جد وخيمة على مصالحهم المادية وامتيازاتهم. ونشير هنا بالتحديد للأموال التي استولت عليها نخبة من قادة الجيش واستثمرتها في قطاعات خاصة كالشركات والبنوك، والتي تقدر حسب الخبراء الاقتصاديين بنحو 40 في المائة من اقتصاد مصر (أنظر المرجع أدناه). وهكذا ضحي بالرئيس ككبش فداء، وبقيت رموز دولته العميقة في انتظار مرور الحماس الثوري وانخفاض غليان مرجله، للانقضاض من جديد على السلطة. والأهم من كل هذا، وهو خارطة “الجغرافية السياسية” المرسومة للبلد من قِبل كل من الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل وأروبا وروسيا الجديدة.
إن الفترة الانتقالية التي شهدتها البلد، والانتخابات التي قدمت بالسيد محمد مرسي، كأول رئيس منتخب شرعيا من قبل القاعدة الشعبية، ولأول مرة بدون تزوير لصناديق الاقتراع، قد بينت من جهة، مدى ثقل المسؤولية في دولة “مُسَوّسَة” بالزمالة والزبانية والرشوة وغياب حس المواطنة، ومن جهة أخرى الخراب الاقتصادي، إذا صح التعبير، الذي تعيشه البلد بسبب فساد الحكام المتوالين المتعاقبين على سلطة وراثية مطلقة، وهيمنة البنوك الدولية: ك(صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير) وتحكمها في مصير البلد، بالإضافة إلى مؤسسات بنكية أخرى مستقلة. وضف على هذا البنك الدولي للقروض. ففي هذا السياق الملغوم بمؤسسات وإدارات بيروقراطية متعفنة، لم يكن في مقدور الرئيس الجديد أن يقوم بحركة إصلاح شاملة بين عشية وضحاها. بل قد ساهمت دول خليجية على رأسها السعودية والإمارات، في إجهاض هذه المبادرة الإصلاحية بمؤامرات مالية مضادة. وجاءت كل محاولات الرئيس الجديد لفتح صفحة جديدة، من أجل الإعلاء من شأن الشعب، ومنحه فرص الخروج من عهد العبودية، والانتقال إلى درجة حرية المواطنة المدنية والحقوقية، قد قوبلت بردود فعل هدامة من قبل قادة الجيش والأمن البلطجي، ورموز الدولة العميقة من الليبراليين. ثم إن السيد محمد مرسي على المستوى السياسي، قد حاول الخروج عن خارطة الطريق المرسومة سلفا من قبل سادة الاستعمار وعملائهم في المنطقة. فلقد فتح للفلسطينيين فورا معبر رفح، وذكّر إسرائيل بمراجعة مواقفها من يقظة شعب الثورة، كما وقف علنا في وجه السفاح بشار الأسد. فالرجل في هذه الأثناء، كان قد بدأ برسم جغرافية بشرية جديدة. ولنقل بعبارة أخرى، قد بدأ برسم معالم طريق لإسلام سياسي عريض القاعدة، من مصر وتركيا، إلى سوريا ففلسطين المحتلة ولبنان وليبيا، لغاية تونس. وهذا بالذات ما لا يمكن أن تتحمله الولايات المتحدة، ولا أوربا ولا إسرائيل، وروسيا “بوتين” البيضاء، أن تفرز الثورات العربية كل هذا المخزون الهائل من الإرادات الشعبية، لتولي مصيرها التاريخي بنفسها. فكان الرد أن قام هؤلاء، ونعني أرباب الاستعمار وعلى رأسهم الولايات المتحدة، باتخاذ تدابير سرية مع كل من قادة الجيش المصري وحلفائهم في المنطقة، ونقصد كل من السعودية والإمارات والبحرين وعمان والمملكة الأردنية وآخرين الواقعين في جوارهم. فهذه الأنظمة الأخيرة التي تقع تحت قبضة السيادة الأمريكية، ما زالت تعيش تخلف مرحلة ما قبل الثورات العربية، وقادرة في الوقت نفسه – البترولية منها بالتحديد- على لعب دور الثورة المضادة لحراك الربيع العربي. ونقصد ثورة رجعية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فالسعودية مثلا، اعترفت برئيس الانقلابين بمجرد ما أعلن الجيش عن اسمه في لائحة سلعة الحكومة المزورة، والمفروضة قسرا على إرادة الشعب. ومباشرة بدأت الملايير الخليجية، تعلن عن دخولها في حلبة سباق تمويل الرجعية الانقلابية وليس هذا سوى مقدمة سعودية لضخ ما تبقى من ملايير الجزية لسيدهم العنصري الذي يسبهم ويدوس على قيمهم، كما يسب إسلامهم “دونالد ترامب” تمهيدا لبيع ما تبقى لهم من ضمير في هدية “صفقة القرن”. فأين كانت هذه الأموال نائمة في حين كان الرئيس المنتخب شرعيا، يعاني من أكبر التحديات الاقتصادية للبلد؟ خصوصا في ظروف الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تعد الدول الفقيرة من أول ضحاياها؟.
إن سيناريو الانقلابين، يعد من أكبر الأفلام الهزلية التي اخترعها هؤلاء. والغريب في الأمر أن مؤسسة “حسني مبارك” الفاسدة، والمنبعثة في صورة “السيسي” قد بعثت بالمناسبة، بكل رموزها على شاشة المهزلة، لتدعي هذه المرة قيامها بدور البطولة الثورية. فلنختصر إذن، قراءتنا الواقعية المحايدة في بضعة نقاط:
– المشهد الأول: إن قادة الجيش، وكأننا نعيش في عصر المغاور، قد نقل للمعارضة التي اختلقها والبلطجية المدعومة من قبله صورا مغشوشة أرقامها عبر إذاعاته وفضائياته العميلة، بعدما ألغى، اعتداءً وخرقًا لكل القوانين الديموقراطية، كل الإذاعات الحرة والنزيهة للمعارضة المضادة، التي تتكون من الأغلبية الساحقة للشعب المصري.
– المشهد الثاني: حملة بوليسية باختطاف الرئيس المنتخب شرعيا، صاحبتها حملة اعتقالات في صفوف الأحزاب الإسلامية خاصة، وملاحقة القادة السياسيين.
– المشهد الثالث: انتخاب حكومة عميلة في صفوف الليبراليين والعلمانيين المعادين للإسلام، هؤلاء الذين كانوا قد انهزموا في الحملة الانتخابية.
– المشهد الرابع: قتل المعتصمين السلميين بالميادين الاحتجاجية من قبل الأمن والبلطجية، برعاية وتغطية وتوصية من الجيش.
– المشهد الخامس: ويتمثل في نقل هذه الأحداث الهزلية، من قبل الرأي العالمي، وبالذات من قبل أوربا وأمريكا، (مكان صناعة القرارات) حيث رحبوا بالانقلابين دونما ذكر لحركة انقلابهم، بل وأوصوهم نفاقا، أن يردوا بالهم على شعب مصر بمعنى ( اقتلوا واعدموا من شئتم إنا معكم).
– المشهد السادس: الحراك الشعبي العريض، الذي شهدته البلد برمتها والذي طالب بعودة الرئيس المخطوف.
– المشهد السابع: خلق متعمد للفوضى في البلد من قبل قادة الجيش وحلفائهم ورفع شعارات الحرب على الإرهاب.
– المشهد الثامن: ضرب كل المصالح الخيرية التي كانت مرتبطة بالاتجاهات الإسلامية، وعلى رأسها حماس وإخوان الأردن بتحريض من أمريكا عليهم، وملاحقة الثوار السوريين الأحرار والفلسطينيين، رسالة تضامن مع المجرم بشار الأسد.
– المشهد العاشر: ونكتفي به، بكونه رمز لكل المشاهد الأخرى، والناطق باسمها، والفاضح علنا كما ضمنا لتوجيهات المُستعمر في صورة أمريكا. ويتمثل هذا المشهد في إحياء مسرحية السلام (الفلسطينية – الإسرائيلية سيناريو صفقة العصر المُبَيّتة طبختها) لصرف الرأي العام عن الأحدث الحقيقية، التي تعيشها مصر وما حولها، وإلهاء البلداء بخبث، في نية الولايات المتحدة في تحقيق السلام العام والشامل والكامل في المنطقة.
خلاصة القول
لقد سبق لنا وأشرنا في مقالات ودراسات سابقة، عن مقدمة الربيع العربي سنة 2011، وما أتى به من انتفاضات شعبية عارمة، شملت مجمل خريطة الوطن العربي من طنجة إلى جدة. ولقد نبهنا في قراءتنا بأن هذه الانتفاضات ليست سوى مقدمة لما هو آت لا محالة، في تغيير جذري واقتلاع بل اجتثاث، لكل الحكام المرتزقة الذين كانوا ينهبون ثورات وكرامة هذه الدول، الغنية بثرواتها الطبيعية كما البشرية. ولقد نبهنا في دراسات سابقة، إلى أنه سابق لأوانه الاحتفاء بهذه المكتسبات الثورية الشكلية، طالما ثمة فآت وشرائح انتهازية معززة بأجهزة أمنية ومخابراتية، بل وقيادية عسكرية عميلة. ونقصد، من مخلفات الاستعمار الصليبي المعاصر، بإشرافه العلني والمباشر وبتوصياته وتزكيته. وهذا بالذات ما يفسر عامل الثورة المضادة، المدعوم خارجيا من أوربا وأمريكا وروسيا بوتين البيضاء، وداخليا بوساطة مَلَكِيات خليجية بدائية، لا تاريخ لها ولا ذاكرة ولا ذكاء. تمول بسخاء وغباء بدوي، أعرابي جاهلي، مؤسسات الاستعمار الحديث، في ثيابه الحديثة وعملائه المرتزقة. وكل هذا، بسخاء مردود بترولي وعائدات مناسك الحج والعمرة الهائلة الملايير، من أجل قتل روح ثورة الشعوب العربية وتطلعاتها المستقبلية. كيما تبقى نواياها الأعرابية، في لباس حكم ملكي تسلطي، أسري، باسم الدين والتقليد علنا والوراثة النبوية. وخفية بل علنا، فسادا منقطع النظير في الكازينوهات والكاباريهات والقصور الألف ليلية، الواقعة خارج الجغرافية العربية بل وحتى في بعضها علنا وفي وضح النهار. ونختم هذه القراءة بمحصلة، وردت عن مدير الأبحاث والدراسات العربية والمتوسطية “حسني عبيدي”، المقيم مقره بجنيف، حيث يقول من كتابه “البيان العربي” الصادر عقب ثورات الربيع العربي لسنة 2011 :” لقد كان بإمكاننا أن نقول بأن الوطن العربي كان يمثل الرجل المريض قبل هذه الأحداث … لأن الروح العربية كانت محطمة بالفقر والبطالة وانتكاسة مؤشرات التطور. ولكن الآن، عقب هذه الأحداث التاريخية التي هزته، حتى ولو تخلى عنه الجميع شرقا وغربا، فلن يرجع إلى الوراء أبدا، والثورة سائرة في طريقها، متحدية كل العقبات التي في وجهها …”.
وختاما، نذكر في هذه اللحظة التاريخية انتفاضة الشعب السوداني واحتجاجاته المتواصلة منذ فترة، والحراك الجزائري الذي التحق من جديد بالقافلة منذ 22 فبراير. ولقد حقق في جمعته السابعة الموافقة ل 05 أبريل ،2019 “جمعة مليونية” مطالبة بتنحية الرئيس “بوتفليقة” وكل عصابته الحاكمة للبلاد. خرجت بكل مقوماتها الاجتماعية، من أكبر مسنيها إلى رضيعها، وفي كل المدن الجزائرية الكبرى وكذلك الولايات، منددة بشعار واع ” السّْرّاقَة .. كليتو لْبْلادْ .. روحو كُلْكُمْ .. روحو ڴاعْ ..”
ولماذا لا نزكي هذه الخاتمة بمقولة، لأحد رواد عصر الأنوار “جان جاك روسو 1712 – 1778” مقتبسة من كتابه عن “أصل وأسس اللامساواة بين الناس”، حيث يقول:” إنه مضاد لقانون الطبيعة [ … ] أن تمتلأ حفنة من الناس بما هو زائد وفائض عن احتياجاتها ومتطلباتها، بينما تحتاج الأكثرية “المُجَوعّة إلى ما هو ضروري من أجل البقاء على قيد الحياة … “.
بقلم فؤاد اليزيد السني
المراجع والمستندات
http://www.noonpost.com/الجيش-المصري/مجتمع-الجيش-كيف-ينفصل-الجيش-المصري-عن-شعبه؟
أما عن جانب اقتصاد الجيش الذي يخلق جابًا مجتمعيًا، وتحتكره قيادات المؤسسة العسكرية فإن التقديرات تُشير إلى أن شركات تابعة للقوات المسلحة المصرية كانت تُدير في السابق ما يزيد عن 40% من الاقتصاد المصري، وعقب الانقلاب العسكري أشارت بعض التقديرات إلى أن هذه النسبة مرشحة لأن تصل إلى أكثر من 70%.
مع الأخذ في العلم أن هذه الشركات لا تخضع لأي قانون تنافسي مع القطاع العام أو الخاص في مصر، لحصولها على إعفاء ضريبي كامل على المنشآت والأرباح، وإعفاءات جمركية شاملة على كافة المستوردات، بالإضافة إلى امتلاكها مساحات شاسعة من الأراضي تحت بند الأمن القومي يتم إقامة عليها المشروعات الاقتصادية، كما تمتلك هذه الشركات أيدي عاملة مجانية من جنود التجنيد الإجباري.
Bibliographie
Abdi L. (2011), « Le régime algérien après les révolutions arabes », Mouvements des idées et des luttes, Paris, La Découverte, n°66.
Abidi H. (2011), Manifeste des arabes, Paris, Encre d’Orient.
Ayari M.B. et Geisser V. (2011), Renaissances arabes : 7 questions clés sur des révolutions en marche, Paris, Les éditions de l’Atelier.
Badie B. (2012), « Le printemps arabe a révélé l’existence d’un islam hétérogène et composite », Le Monde, 23 janvier.
Balanche F. (2011), « Bashar el Assad : le lionceau de Damas », Moyen-Orient, octobre-décembre.
Bauchard J. (2011), « Révoltes et révolutions arabes : contagion et transition », Moyen-Orient, juillet.
Belkaïd A. (2011), Être arabe aujourd’hui, Paris, Carnets Nord.
Camau M. (2006), « L’exception autoritaire ou l’improbable point d’Archimède de la politique dans le monde arabe », in Picard E. (dir.), La politique dans le monde arabe, Paris, Armand Colin.
Corm G. (1994), « Perspectives démocratiques au Machrek », in Bocco R. & Djalili M.R. (dir.), Moyen-Orient : migrations, démocratisation, médiatisations, Paris, PUF.
Dakhlia J. (2011), Tunisie : un pays sans bruit, Paris, Actes Sud.
George A. (2003), Syria : neither bred nor freedom, Londres, Zed Books.
Garçon J. (2011), « Algérie – Un régime immobile au milieu des révolutions », Esprit, décembre.
Haenni P. (2011), « Le rôle des islamistes dans les révolutions arabes », Esprit, décembre.
Kawakibi S. (2010), « Syrie : entre contestation civile et politique », in État des résistances dans le Sud : monde arabe, Paris, CETRI/Syllepse.
Kedourie E. (1992), Democracy and political culture, Washington, Institute for Near East
– – Jean-jacques Rousseau, Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes, GF Flammarion, 2016, 282 p. (ISBN 978-2-0807-0243-2), p165
ايش ثورة ال25 فبراير هدي ماسمعنا بها…..سمعنا ب 25 يناير
معك الحق اخي الفاضل ثورة 25 يناير التي نقصدها فعذرا لقد وقع الخطأ سهوا ولك منا جميل الشكر على هذا التنبيه.
استاذ ايش بيك تخطئ في يناير وتجعله فبراير وتعتذر……وعند اعتذارك تخاطب الأنثى بضمير الذكر…ايش هدا
لقد ثم تصحيح الخطأ
شكرا
شكرا لهيئة تحرير طنجة الأدبية على التصحيح