سعيد بوخليط : كاتب ومترجم وباحث من المغرب من مواليد عام 1970، حاصل على شهادة الدكتوراه في النقد الحديث، ويشغل حالياً مهنة مدرس للغة العربية في سلك التعليم الثانوي التأهيلي.. أصدر العديد من الكتب ترجمةً وبحثاً وتأليفاً ومعظمها يدور حول أعمال الفيلسوف الفرنسي (غاستون باشلار).. ضيفنا مثقف مجتهد فرض حضوره على الساحة الأدبية بطموحه وشغفه وبإصراره على أن يطبع شيئاً يليق باسمه، فهو لا يكتب تملقاً أو استدراراً لمدائح مجانية لأن هاجسه الأوحد أن يظل شفافاً صادقاً وأميناً مع قناعاته ومع قارئه المفترض. المجلة الثقافية الجزائرية تستضيف المبدع سعيد بوخليط للاقتراب أكثر من عوالمه الإبداعية وفيما يلي نص الحوار:
*الباحث وتقديس المعرفة وحب الإنسانية
س: دعنا نبدأ الحوار بسؤال تقليدي: كيف يقدم سعيد بوخليط نفسه للقراء؟
سعيد بوخليط: منذ أدركت بوعي ناضج رسالتي الشخصية، الوحيدة الجديرة بأن أحمل حقاً أعباءها على كاهلي، بكامل اختياري شخصي، وقناعاتي التامة، فقد أحببت الاشتغال ضمن سبيل، يجعل باستمرار مقتنعاً كي أصف نفسي بنعت قارئ حالم، يعشق ما يقرأه يومياً، ثم في أقصى الحالات التي تتوخى احترام، بشكل من الأشكال، منظومة التقنين التقليدي امتثالاً للأعراف الأكاديمية المتوارثة، فأحب كثيراً عند هذا المستوى، كلمة باحث. نعم،لا يوجد في رأيي، أكثر جمالية، ورومانسية، وزخماً، وبهاءً، وتصوفاً، وتحفيزاً، وبساطة، وتقديراً سوياً للأنا،غير استيعاب ممكنات وآفاق وماهية، صنعة ومهنة أن تكون باحثاً. هكذا، أتطلع صبيحة كل يوم، جهة استلهام جانب من هذا السعي، متوخيا بين طيات ذلك، إقناع نفسي قبل الآخر، بحقي كي أتمتع بالحقوق الطبيعية والمدنية، المترتبة عن صفة باحث، ألا وهي :الحرية الذاتية، الانسجام الذاتي، الوعي الذاتي والموضوعي، الشفافية، تقديس المعرفة وحب الإنسانية.
*هذا سرّي مع غاستون باشلار..
س: قدمت العديد من الدراسات الأكاديمية الهامة حول (غاستون باشلار).. ما الذي شدّك للبحث والتمحيص في عوالم هذا الفيلسوف الفرنسي تحديداً؟
سعيد بوخليط: في الحقيقة، يصعب ربط وتجميع خيوط البداية، عند نقطة واحدة، دون مجموعة تفاصيل أخرى، حددت بكيفية من الصيغ مساراً على هذا النحو، تعلمت منه قيماً ملموسة قبل معارف مجردة، ومرتكزات لا محيد عنها قصد مواجهة الحياة بكل ثقلها العبثي، لاسيما قياساً إلى منظومات بلداننا الفاشلة .اختياري شعرية غاستون باشلار، وأنا لازلت مبتدئاً جداً بهذا الخصوص، رغم جلّ ما كتبته منذ عقدين تقريباً،لأنه موضوع يحتاج أكثر فأكثر إلى مشروع بحثي مفرط في الجدية وطويل النَّفَس :ترجمة، تأليفاً، بحثاً .عموماً أقول وكما أوضحت إبان مناسبات أخرى غير هذه، انتقل باشلار من بحث للحصول على شهادة جامعية، إلى شيخ جليل،عزيز جداً، لم أعد قادراً بتاتاً الاستغناء عنه، رغم أني أغير الوجهة بين الفينة والأخرى، كما الشأن منذ سنوات، يستمر باشلار، متسيداً قلبي وعقلي، آخذاً بتلابيب وجداني. أوراش شتى قابعة تنتظر: دراسات تتوخى الانكباب قصد توضيح مستفيض لعلاقة غاستون باشلار الأبوية بتيارات النقد الحديث والمعاصر. أيضاً تفتقر خزانتنا العربية إلى أهم مؤلفات باشلار الأدبية (الأرض،الماء، النار،الهواء) ومن خلالها تصوراته حول بودلير نوفاليس ولوتريامون وفيكتور هيجو ورامبو ونيتشه ومالارميه وسوينبرن وبروتون وأراغون وشيلينغ وريلكه وشيلر….
س: من المعروف عن (باشلار) إيمانه بفكرة الحوار بوصفها تشكّل علامة فارقة بالنسبة لمسار الثقافة الإنسانية لكن.. إلى أي حد تجد أن المبدع العربي متمسك بهذه الفكرة كآلية ثقافية مهمة لمدّ الجسور مع الآخر؟
سعيد بوخليط: ماماً، لقد آمن باشلار بالحوار تنظيراً ومسلكاً، مفهوماً وأسلوباً حياتياً. حوار بين المعارف عموماً، الأدب والعلوم، الرياضيات والشعر لذلك اشتغل عملياً على أطروحتين لنيل الدكتوراه في الفيزياء وأخرى اهتمت بالأدب. حوار، داخل حجرات فصول الدراسة، بحيث درَّس في ثانوية قريته بمنطقة شامبانيا الفيزياء والفلسفة. محاورته لكل الثقافات الإنسانية، بحيث تصعب الإحاطة حقيقة بمرجعيات هوامشه وحواشيه، مادامت معارفه غزيرة ومتنوعة، تنتقل بيسر وليونة وزخم خاصة، بين جغرافية عدة ونظريات شتى من تأويلات الخيمياء القديمة حتى أعقد النظريات الكيميائية أو الطبية الحديثة في عصره .كذلك، شكَّل متنه حواراً مذهلاً بين التيارات الأدبية الممتدة من الكلاسيكية غاية السوريالية .باشلار موسوعة متنقلة، لأنه عالِم منفتح جداً في غاية التواضع والحكمة والنبل والسخاء، شديد الشغف بأبسط تفاصيل الشعري/الجمالي. باشلار، أحد أساتذة الفكر البشري الكبار،الذي يفاجئك بمقاطع شعرية استلهمها من دفاتر شاعر مبتدئ، مغمور،ويضعها إلى جانب أخرى لبودلير مثلاً! بالنسبة للشق الثاني من سؤالك المتعلق بمدى التزام المبدع العربي بآلية الحوار فلا شك أن هذا المبدع يلزمه خوض حرب ضروس، صادقة ومبدئية أساساً، ضد ذاته أولاً بكل ترسباتها المرضية وواقعه الموضوعي المختل، ربما تخلص قيد أنملة من هول جبروت المنظومات التوتاليتارية المستبدة التي تتقاذفه تسلطاً، بلا رحمة منذ حضن أمه غاية لحده. السياق، الذي أوجد بطبيعة الحال، مختلف هذه التصدعات والتمزقات البهلوانية المؤلمة، بين نظرية المبدع العربي وسلوكه، تحوله الزئبقي حسب الأهواء والمصالح، المفارقات الشيزوفرينية السيكوباتية، بين الظاهر والباطن.
الترجمة تعمم قيم الحرية والتسامح والاختلاف والتعدد ولكن..
س: تُعد الترجمة أحد أهم وسائل الإنتاج المعرفي.. فكيف يمكن تفعيل هذه الوسيلة لتلعب دورها الإيجابي بالانفتاح الحضاري في ضوء التفاقم الملحوظ لأزمات المنطقة العربية؟
سعيد بوخليط: تعتبر الترجمة، مثلما يعلم الجميع، وكما توضح جلياً عبر التحولات الثقافية الكبرى، وجهة تاريخية مفصلية ونوعية، بالنسبة لكل نهضة وتطور حضاري .لكنها ليست بالعمل الارتجالي، بل يلزمها التبلور وفق مشروع مجتمعي، متعدد الروافد، متكامل الجوانب، يستحيل فصل مقتضياته اللوجيستيكية عن آفاقه المستقبلية. لذلك، فالترجمة ورش جماعي، اجتماعي، يحتاج إلى مؤسسات وبرامج ومخططات وأهداف ورؤى، ضمن محددات التصور المجتمعي في كلِّيته: ماذا نريد من هذا العالم؟ ولما نحن هنا؟ .ترسي الترجمة حقاً لبنات مجتمع المعرفة، وتعمم فعلاً قيم الحرية والتسامح والاختلاف والتعدد، التي تظل بالنسبة لمنطقتنا العربية مجرد شعارات أثيرية جوفاء للاستهلاك المناسباتي السياسوي، حسب مقتضيات الظرفية، دون أن تترسخ وتتجذر ضمن تربة دهاليز فضاءاتنا المظلمة إقصاء، وواحدية ولا تسامحاً ولا اختلافاً، ولم أقل مؤسساتنا، لأن مجتمعاتنا مسيرة فقط بوازع المزاجية الشخصية والأهواء الطائشة ولا علاقة لها بآليات المؤسسة العقلانية، كما الحال في الغرب.الدليل والنتيجة، تفاقم للأزمات على جميع المستويات، وفي طليعتها ضياع الإنسان.
س: الترجمة الأدبية تختلف حتماً عن الترجمة في مجال أخر كونها تسعى لتحقيق هدف جمالي بالإضافة للهدف المعرفي.. لكن إلى أي مدى يجب أن يكون المترجم أميناً على النص الذي يترجمه؟ وكيف تنظر إلى الحديث عن “خيانة المترجم للنص” بالنسبة لواقع الترجمة؟
سعيد بوخليط: في حدود ما تعلمته جراء بعض تراكمات تجربتي المتواضعة جداً، فالمطلوب من المترجم توفره على عنصري الشغف والعشق أساساً، وإلا أتى النتاج جلمود صخر، خالياً من أبسط مظاهر الحيوية والكياسة والليونة. بكل تأكيد، يستحيل النجاح في إعادة كتابة نص ما، حسب المعنى المفترض حضوره الأصلي في ذهن صاحبه. طبعاً، وحتى نفهم حدود ومستويات “الخيانة” كما تصور قصدياته، لأول مرة المثل الايطالي: (Tradutore traditore)، فيلزم بهذا الخصوص-حسب اعتقادي- استحضار شروط إيتيقية وجمالية، تتعلق بالمترجِم والمترجَم، والتي يستحيل كبحها ضمن بوتقة الإجابة الواحدة، المطلقة:
– بداهة التفكير في تعدد القراءات والتأويلات النصية، حتى مع القراءة الواحدة، في ظل اللغة الواحدة نفسها، بل وفي ظل سلطة الكاتب عينه، بات واضحاً منذ تبلور أدبيات ما بعد البنيوية، أي أن كل قراءة تبقى بعد كل شيء محواً.
– ينبغي لطبيعة العلاقة بين المترجِم والمترجَم ،التعالي وجوباً حيال مختلف المحددات المادية المباشرة،ذات النزوع النفعي والمصلحي المباشر، كي يتخلص من الاستسهال والسطحية والتبخيس وعدم الاكتراث وسوء التقدير. ثم يتسم عكس ذلك، بـ :الجدية والعمق والتثمين والحفاوة والتهيب.حينذاك، نكتشف نحن القراء،كنه أسرار تلك الجلسات العاشقة بين المترجِم والمترجَم، والتي تمنحنا مولوداً سعيداً بولادته، مبتهجاً بمصيره.
س: إذاً.. كيف تؤدي دورك كمترجم ضمن معايير الدقة والأمانة والموضوعية وغيرها من الشروط الإبداعية التي تتطلبها هذه العملية؟
سعيد بوخليط: أردد دائماً مع محمود درويش: “لاشيء يعجبني”، حينما أجد حياتي متحولة نحو خطوط التماس مع الأخر، طبعاً بحكم إكراهات مقتضيات سياقات الواقع، لاسيما جانبه السخيف والغبي والضحل في كثير من الأحيان، مما يشعرني في هذا المقام، باغتيال حريتي، بشكل من الأشكال، على العكس من ذلك، أحسّ تماماً بأن كل شيء يعجبني، بخصوص ما أقرأه وأكتبه وأترجمه.لا أنتمي سوى لنفسي في هذا المضمار، ولا أكتب تحت ضغط استحضار منظومة ولاءات أو أخويات أو صداقات أو تزلفاً أو تملقاً أو ترقباً لقروش أو دعوات إلى لقاءات أو استدراراً لمدائح مجانية. هاجسي الأوحد، أن أظل أميناً لما أفعله، شفافاً مع نفسي وقناعاتي والقارئ المفترض.
*مجتمعاتنا تفتقد الأسس والمرتكزات الصلبة للحداثة..
س: كتابك (تأملات في بعض يوميات التردي العربي وتحديات التغيير) يبحث في قضايا الراهن.. ولذلك أود أن أعرف رأيك كمثقف أكاديمي: كيف تفسر الانخراط العربي في استيراد الأدوات الحديثة مقابل عجزه عن التحول في المجالات الفكرية؟.
سعيد بوخليط: بكل بساطة،لأن الإطار العام الذي يلف مجتمعاتنا وسياقاتها المؤثرة، غير حداثي جوهرياً، وبعيد تمام البعد عن وجهة التحديث الأصيلة والحقيقية التي تغير الإنسان وترتقي به صوب مجتمع المواطنة والكرامة والعدل والانتماء والإبداع والاستحقاق والخلق والتنافس والتباري والعطاء. تفتقد البنيات الثاوية لمجتمعاتنا، إلى الأسس والمرتكزات الصلبة للحداثة وهي: العلمانية، العلم، العقل والحرية. منظوماتنا الاجتماعية تتباهى كل آن بالهرولة المجنونة نحو تبني آخر صيحات الحداثة في جانبها الاستهلاكي الشكلي جداً، من الأبراج العائمة إلى السيارات الرياضية، فمسابقات الجمال وعروض الأزياء للشباب والشابات، ثم الهواتف والحواسب والموضة وأسلوب الكلام والتحدث والتصرف والعيش إلخ. مساحيق خارجية تافهة للتمويه والتضليل، لكن أين البناء الحديث للدولة وأجهزتها السياسية والقانونية والاجتماعية والفكرية والتربوية والرياضية؟ إذاً الانخراط الوحيد المطلوب وهو السؤال الذي أجاب عنه كل مفكري المشروع النهضوي يتمثل فقط في: إحداث ثورات نوعية، سياسياً وثقافياً ودينياً، غير ذلك فإننا نراكم دائماً التخلف وبامتياز.
*أستمتع كثيراً بإعادة الحديث عن العظماء..
حاورته: باسمة حامد