الرئيسيةإبداعأيْقُونَةُ الحي الجنوبي

أيْقُونَةُ الحي الجنوبي

فْرَنْسِينْ، أيقونة الحي الجنوبي للمدينة، لها من المواصفات، ويصدر عنها من الإنفعالات ما يجعلها تختزل تَوَتٌّرَ جيلها بكل ما لحقه من خيبات وانتكاسات وفي أحيان كثيرة من تآكل داخلي وإحساس بالذنب نتيجة الحرب العالمية الثانية في أول الأمر، ثم الطرد المفاجئ من الجزائر فيما وُصِفَآنذاك بقضية الأقدام السوداء وما صاحب هذه الويلات ــ على الأقل بالنسبة لجيلها ـ من عنف ودمار وتشريد وتقتيل وتهجير قسري لتأتي بعدها فترة الرخاء والسكينة والمتعة ..لذلك أقبلت طوال سنوات تقاعدها على الحياة بكل ما أوتيت من إمكانيات ، وكل ما خطر على بالها من جميل الحياة .

بين فترات غير متباعدة يحضر تاكسي الى أسفل العمارة تَنْدَسُّبداخله، تغيب لأسبوع أو لأسبوعين…تاركة وراءها سيلا من الأسئلة بين نساء وشباب الحي.
عادت يوما بوجه غابت عنه حمرته المعتادة واكتسى سُمْرَةًناصعة بينما ظلت مواضع من جسدها وردية اللون كجلد الخنازير كما تجرأت تونسية الدور السفلي للعمارة على مهاجمتها يومذاك كما اعتادت أن تفعل متى أتيحت لها الفرصة٠
كانت تلك الملاحظة وحدها كفيلة بأن تثير في فرنسين زوبعة من السب والشتم٬ثارت ثائرتها وقالت لسرب النساء المتجمع في الحديقة الخلفية بأنها كانت بإسرائيل وبانها تزور بلدانا جميلة ورائعة وانها ليست كالعربيات المتشحات بالسواد يستهلكن حيواتهن في الانجاب وتهييئ قصعات الكسكس وذبح خرفان العيد في حمامات شققهن بالعمارة والعودة الى بلادهن صيفا راكبات في حافلات ازواجهن المهترئة وسط ركام من المتلاشيات والقمامة…تبتسم النساء لذلك فيعايرنها بالعنصرية والكراهية لكنها ترد بأن إسرائيل وحدها تعرف كيف تعامل أمثالهن.
لم يأخذها أحد يوما مأخذ الجد فدائما ما تنتهي هذه المناوشات بالابتسامة وحثها على شرب دوائها قبل الخروج٠٠ تحولت مع مرور الزمن إلى جزء من الديكور العام لهذه العمارة.

لفرنسين عادة قديمة لم تبارحها منذ وصولها إلى هذا الحي ٠ فهي تقضي حيزا مهما من وقتها تطلمنالنافذة ،ترصد حركات وسكنات سكان العمارة والوافدين عليها، تعرف الجميع بأسمائهم ومسمياتهم وعلاقة قرابتهموعددأطفالهموبلدانٱنتمائهم٠
شباب الحي لا يفوت فرصة للحديث عنها بنوع من الريبة والاحتراز. يلصقون بها تهمة العمالة للشرطة وكلما تم القبض على أحد تجار المخدرات يتهمونها بالوشاية وهي لا تنكر ذلك بتاتا بل تأخذ مهمتها محمل الجدفَتُهَاتِفُ الشرطة مرتين في اليوم أحيانا دون سبب. يحضرون الى مدخل العمارة تنزل لملاقاتهم بعد ان فرغ المكان من رواده تتحدث بصوت مسموع:
– كان العرب هنا منذ قليل، لقد هربوا للتو…هذه الحثالة كانت تتعارك بينها..
يجيبها أحد الشرطة
– مادام الأمر ليس خطيرا لا داعي لإزعاج الشرطة. لدينا الكثير مما نفعله في غير هذا المكان.
بعصبية ولت ظهرها للشرطة وهي تتمتم بصوت مسموع:
-انتظروا حتى يقضي علينا هؤلاء الأنذال نهائيا، آنذاك تدخلوا لإنقاذ ما تبقى منا.
علق الشرطي القصير:
– لسنا في حرب مدام.
قبل أن يكمل جملته كانت فرنسين قد توارت داخل باب العمارة ولم تسمع شيئا.

هكذا الأمر منذ سنوات، ولم يجرؤ أحد يوما ما أن يعترض طريقها أو يرد شتائمها بعنف رغم أن شباب الحي الجنوبي كتب تاريخه السيئ في المدينة في فصول من المعارك الدامية والاغتيالات وتصفية الحسابات.
بعض الساسة اثناء الحملات الانتخابية وحين يشتد التنافس السياسي يسمي الحي بمنطقة السيبة، مرتع كل الانشطة الخارجة عن القانون اينأعلنت الشرطة استقالتها ولم تعد تغامر بالدخول، فكل تدخل لها لمحاربة الاتجار في المخدرات او الاسلحة يكلفها من الطاقة البشرية والاسلحة والعدة ما يمكن ان تستعمر به دولة بأكملها.

كان الاجرام منظما بطريقة مبهرة ٠مداخل الحي يراقبها مراهق أو اثنان من منتصف النهار إلى منتصف الليل، يحفظ سيارات الشرطة وأرقام لوحاتها ووجوه رجال الأمن رغم تعددها ،لذلك فبمجرد اقترابه ميرفع الحارس صوته مناديا أو مصفرا ليتوارى الجميع داخل العمارات الشاهقة ليبدأ مهرجان الرجم بكل مالم يعد له نفعا في المنازل من أكياس القمامة إلى الأقداح الزجاجية إلى الثلاجات المعطلة٠
فقط سيارات المدمنين او ابناء الحي تملكحقالمرور. كلغريبعنالحيطبيباكانأومراقبتأميناتمشكوكفيهويتهمعرضللاستفسارأوالتحقييق٠
سميت هذه الأحياءمناطق التربية المستعجلة، لأنها تحتاج إلى إعادة نظر جذرية. سواء من ناحية بنيتها المعمارية أوتركيبتها الإجتماعيةالهشة، أو مكوناتها الإثنية التي أبقت في الغرب العلىمداشربأكملهاإفريقيةومغاربية استقرتهنا منذ الثمانينات إثر موجة التجمع العائلي٠
يفوق معدل البطالة فيها النصف تقريبا وتقل فرص النجاح بمجرد أن تضع اسم الحي على بياناتك الشخصية. له مسجد خاص تراقبه الدولة عن قرب ويفتي به الاخ رشيد يوميا عن كل شيء، من موقف الدين من الموسيقى الى تحريم الصور الى تحريم شرب الكوكاكولا …يسمعه الجميع لكن الكل يشرب الكوكاكولا ويسمع الموسيقى.
تمر فرنسين يوميا قرب المسجد، حينما تصادف اوقات الصلاة تنظر الى الوافدين بعباءاتهم او جلابيبهم البيضاء وتتمتم بسرية:
– افعلوا هذا في بلادكم.
سألت يومذاك أحدهم، اليوم عيد المسيح هل ستصلون في مسجدكم ليسوع المسيح..
أجابها الملتحي
-أعود بالله من الشيطان الرجيم…صَلِّأَنْتِ على المسيح أو حتى على الشيطان.
– انا سأفعل هذا المساء، رغم أنف الذين يريدون أن يفسدوا علينا فرحة العيد ..وهي تلوح بعلبة الشموع الملونة في يدها اليمنى.
احتفالات السنة الميلادية حلت مشوبة بنوع من الأسف والتحفظ، فقد ألغيت جميع التجمعات، والمهرجانات وأعطيت عبر الإعلام تعليمات بقضائها صحبة العائلةتحسبالعملياتإرهابية٠
فرنسينوحدهاتعودت ان تحتفل وحدها بكل أعياد الميلاد إذ لم يسبق أن تقاطع أيا كان مع أحد أقاربها أو حتى أصدقائها.

قساوة برد دجنبر ترغم شباب الحي الجنوبي على الاحتماء بمداخل العمارات. ومراقبة الزبناء والشرطة من خلال الواجهات وحتى في حالات المداهمة يسهل الافتراق داخل الشقق بسلاسة. لكن في مثل هذه الاعياد تكون الاجواء عادية كما هو عليه الامر هذا المساء لولا رائحة الدخان القوية التي تزكم الانف وتشتد حدته شيئا فشيئا.حين خرجأصغرهمللاستطلاع لمح دخانا كثيفا يتصاعد من إحدى نوافذ الطابق الثالث للعمارةيتوسطه جسد هزيل يلوح بيده ويصرخ عاليا طلبا للنجدة. لم يكن النداء صادرا إلامنشقة فرنسين.
-أنا أختنق…سأموت …النجدة.
شرع سكان العمارة في مغادرتها إلا فرنسين التي داهمها الخوف فاقتعدت في النافذة بينما ازداد صراخها وارتجافهاوكأنها تستعدللسقوط. . غابت مجموعة الشباب التي كانت بباب العمارة. قبل وصول الإطفاء والشرطة خرج أربعتهم يحملون فرنسين وقد غابت عن وعيها، رشواوجههاماءوعطورا،جاءتالتونسية ببصلةوضعتها أمام أنفها. استفاقت مذهولة وأنفاسها لازالت متقطعة. تساءلت وقدانتبهت بأنها تتواجد لأول مرة منذ هروبها من الجزائر بين هذا الكمال هائل من العرب:
-أين أنا الآن؟
رد احد الشباب
-أنت في جهنم يا فرنسين وهذا يوم الحساب الأخير.
رمقته بغضب وقالت:
-انت ابن كديجة الغليظة؛ التي تفوح منها دائما رائحة الثوم.
ثم أشاحت بوجهها عنه ناظرة إلى الآخرين :
– انتم انقذتموني من النار إذن أيها العرب.

وصل الإسعاف والشرطة والإطفاء طرحوا عليها بعض الأسئلة لامتحان درجة تأثرها ووعيها
ومع كل سؤال كانت ترد :
– أنتم سلعة الدجاج المبلل،لستم قادرين على فعل شيء. يسبقكم العرب إلى كل ميدان. حاربوا بدلكم ضد أعدائكم في كل حرب خُضْتُمُوهَا. ولازالو ينقذونكم وأنتم كالأنذال لا تحركون ساكنا زمرةالمخصيين.
هل تركبين سيارات الإسعاف مدام قال الإسعافي:
-إركبها انت وعد إلى حيث أتيت. كنت أحتاج اليك حين كدت أحترق في الغرفة. ميغسي ليزاغاب.

 

جمال أزروفي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *