كنتُ صغيراً عندما نزح أبي، من بلدتهِ الصغيرة الراقدة على ضفاف نهرٍ صغير يتفرع من نهر دجلة . الذي يتلوى كالأفعى ليرسم نصفي دائرة فاغراً فاهُهُ على غابات نخيل ،تنام تحت ظلالها صغاٌر من اشجار الرمان ، وداليات الكرم ،الى مركز المدينة، مخلفا اللوم والعتاب وعدم الرضا لهذا الاجراء من قبل الاب والام والأخوة والاصدقاء.
تجمع الكل لوداعه صباح ذلك اليوم الشتوي الذي يستظل بخيمة من غيوم اشتات وجمع. عند باب (العَّبارَة) التي تحملنا مع امتعتنا إلى الضفة الاخرى من النهر حيث لا جسر يوصل الضفتين ، لنستقل احد السيارات القليلة القادمة للبلدة، التي ترتبط بالبلدات الاخرى بطرق ترابية توحل ايام الشتاء فتنقطع عن العالم لأيام الى ان يجف الطريق .
لا انسى لحظة امساك جدي ليديّ ابي قائلا : ان الفراق كالموت، فأجابه…. …ستجدنِ عندكم كل شهر
ضحك… جدي ساخراً ،قل كل سنة .
او… ستأخذك المدينة ولا تذكر ان لك اهلٌ.
كنت لا أفهم معنى الكلمات… الرحيل، الوداع ،الفراق حين غمرني الجميع بالقبلات، وبعضهم فاضت دموعه على خديَّ.
انما أراها مزيجا من اللهو، والمرح واللعب الطفولي المشبع برائحة العرق، للأجساد الابوية التي تملئ الانف،وتدغدغ بشرتي بنهايات شعر الشارب للرجال.
وصلنا المدينة وفي شارع يفوح بمزيج من روائح عفنة لأطعمة، ومتاع قديم، ويعج بالأتربة والاصوات لباعة ينادون على سلعٍ مختلفةٍ كان سكننا.
عند العصر كانت امي تُجْلُسني عند عتبة الدار، وتؤكد عليَّ ان لا ابرحها لأننا غرباء عن الناس والمكان.
مقابل دارنا دكان لمهندس دراجاتٍ هوائية وبخارية
كنت منبهرا بعجلاتها الثنائية، وكيف يمكنها ان تحمل شخصا يسير بها دون ان يقع.
في عصر ذلك اليوم خالفت أنظمة أمي وسحبت نفسي متسللا مثل ثعلب يتربص بفريسته.
.اقتربت من الدكان عند رؤية احدهم يقود دراجة بخارية وهي ترسم بدخانها الابيض والاسود سحب صغيرة تتكور وتتلاشى. سار قائد الدراجة، وبخطوات طفولية مجهولة تَابعتُ سيرهِ بخطواتي الصغيرة دون أدراكٍ لما سيحصل.
مر بطرق تتشعب منها ازقة، تضيق وتتسع، وانا كالمذهول اركض خلفه دون حسابٍ.
توقف عند احد الدكاكين، احسستُ اني ابتعدت كثيراً عن دارنا، وضللتُ طريق العودةِ.
تلفت يمينا ،وشمالا لعلي اهتدي دون جدوى.
تسمرتُ في المكان وبدأ الخوف يسري في أوصالي.
منتظرا ان يقرر قائد الدراجة خطوتي القادمة.
تحركت الدراجة وتبعتها مضطراً لأجد نفسي امام دارنا الذي ضج بصراخ المستبشرين، من اصحاب المحلات والجيران، وصوت امي الممزوج بحشرجات بكائها وذهول نظراتها لتضمني لصدرها ويسكن قلبي.
فاضل العباس
شكرا لطنجة الادبية الراقية