شهر محرم هو أول شهر من السنة الهجرية، و هو أحد الأشهر الأربعة الحرم مع رجب، ذي الحجة وذي القعدة. و قد سمي بالمحرم لتحريم القتال خلاله والأشهر الحُرُم الأربعة، هي التي لا يستحلّ فيها المسلمون القتال، قال الله تعالى فيها : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (صدق الله العظبم )سورة التوبة 36.
وكما أنه لا يخفى أنَّ الأوَّل مِنْ شهر الله المحرَّم هو بدايةُ التقويم السنويِّ الإسلاميِّ مِنَ التاريخ الهجريِّ، كما أرَّخه الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم بالإجماع ، مخالِفين في ذلك بدايةَ التقويم السنويِّ للنصارى حيث أرَّخوه مِنْ يومِ ولادة المسيح عيسى عليه السلام، ومع ذلك لم تكن هجرةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في شهر المحرَّم، وإنما بدأَتْ هجرتُه مِنْ مكَّة إلى المدينة في أوائلِ شهر ربيعٍ الأوَّل مِنَ السَّنَة الثالثةَ عَشَرَ لبعثته صلَّى الله عليه وسلَّم، ووَصَل إلى قُباءٍ لاثنتَيْ عَشْرَةَ ليلةً خلَتْ مِنْ ربيعٍ الأوَّل.
ومنه يتبيَّن أنَّ شهر المحرَّم لم يكن مَوْعِدَ هجرتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما كان ابتداءُ العزم على الهجرة في ذلك الشهر ،حسب ما قيل «وإنما أخَّرُوه مِنْ ربيعٍ الأوَّل إلى المحرَّم لأنَّ ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرَّم؛ إذ البيعةُ وقَعَتْ في أثناءِ ذي الحجَّة وهي مقدِّمةُ الهجرة؛ فكان أوَّلُ هلالٍ استهلَّ بعد البيعة والعزمِ على الهجرة هلالَ المحرم فكانت مناسَبةِ الابتداء بالمحرَّم.
ومِنَ الحقِّ والعدل أَنْ يقتدِيَ المسلمون بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ويتَّعظوا بسيرته، وينتفعوا بما جرى في زمانه مِنْ وقائعَ عظيمةٍ وحوادثَ شريفةٍ، ويستخرجوا منها الدروسَ والعِبَرَ على مدار السَّنَة، تتجسَّد معانيها الروحيةُ في قوالبَ صادقةٍ تُقوِّمُ سيرةَ المسلمِ وسلوكَه وخُلُقَه باستنارته مِنْ مشكاة النبوَّة.
فمع كل فاتح محرم تحل على الأمة الإسلامية ذكرى الهجرة النبوية وبداية عام جديد شاهد عليها، مجهودات بذلت لهداية الناس وتعبيدهم لخالقهم في عملية مستمرة لا تؤثر فيها الظروف .
والذكرى في إحدى تجلياتها تذكر واسترجاع لحدث تغيير مجرى المسلمين ونقل الدعوة إلى مرحلة الدولة بالمدينة المنورة والانفكاك من كل القيود.
ومن خلالها يتذكر المسلمون عبر العالم حدث الهجرة وكيف استعد الرسول الكريم لتنفيذها مع توفير الوسائل المادية والمعنوية جعلت كيد الكائدين في ضلال، ومكنت لدين الإسلام ليفتح القلوب والبلدان.
وقد كرست الهجرة النبوية ثلاثة صور ذات العلاقة بالبعد النفسي والديني والاجتماعي. فهي في صورتها الدينية جاءت لنصرة الدين والتضحية من أجله بكل غال ونفيس، فجاءت هجرة لمكان يتربص بالدعوة الجنينة يريد وأدها قبل أن تشكل خطرا على أصحابه من كفار قريش وتقوض نظامهم الاقتصادي والسياسي وأيضا القيمي والاجتماعي إلى مكان أكثر استعدادا لتقبلها أو على الأقل فيه مجال أرحب للحركة والفعل.
والهجرة في بعدها النفسي جاءت طلاقا نفسيا للمكان الذي استأنس به الرسول الكريم وترعرع فيه في طفولته وشبابه، وما أشد هذا الفراق، الذي جعل نفس النبي الكريم تخاطب الوطن الأصلي: ”وإنك لأحب أرض الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك قهراً ما خرجت من بلادي”، كلمات تنساب من أصدق فيه على وجه الأرض صلى الله عليه وسلم، تعكس حرارة الشوق وآلام الفراق وحنين العودة إلى أرض الوطن.
أما الهجرة في بعدها الاجتماعي، فتمثلت في محطتين، الأولى في تضحية الأخ أو الصديق أبي بكر الصديق ووضع كل إمكانيات أسرته بأفرادها وأموالها للذود عن الرسول الكريم وحمايته في رحلة الهجرة، والثانية في التلاحم القوي بين الأنصار والمهاجرين،واستيعاب الأوائل لمشاكل إخوانهم القادمين من غير مال أو ولد. وتبدأ الرحلة بإحداث طلاق نفسي لكل المنهيات وتنبيه الناس لمخاطرها لما تؤدي إليه من تنافر وتفكك اجتماعي، وتتبعها خطوة البحث عن الصالحين من المسلمين لتنفيذ كل الخطوات الأخرى الكفيلة بإحداث تلاحم اجتماعي، ليترسخ لدى العقول أن الهجرة جذوة مستمرة وقوة دافعة لكل فعل تغييري حضاري.
أمينة بنونة