هذا عصر الصورة بلا منازع. محاطون نحن بعالم من الصور من لحظة صحونا، حتى لحظة نومنا. من الهواتف الجوالة بين أيدينا، إلى واجهات الشوارع، إلى وسائل النقل العام، إلى المكاتب، إلى الصحف والكتب والشاشات، تتقاذفنا الصور في كل اتجاه. هل يمكن أن نتصور أمرا في حياتنا اليوم، دون أن تتدافع في أذهاننا أشرطة من الصور بلا نهاية؟
لم يكن الإنسان في خصام مع الصورة منذ بدأ ينقش تاريخه على الصخور والكهوف.. فعندما أراد الإنسان البدائي أن يعبر عن نفسه، وأفعاله، ومعتقداته، وصيده، وزراعته، لجأ إلى الصورة لتقريب المعاني.. نحت على الصخر لغته الأولى التي كانت في الحقيقية قاموسا متكاملا من صور لها دلالات.. ويعيد الأنتربولوجيون دائما لتلك النقوش والصور كل الفضل في تشكيل رسم تقريبي لحياة أجدادنا الأوائل في القرون الغابرة.
مازال الإنسان يصور ليلتقط اللحظة..لكن الوسائل تغيرت.. سيكون على الإنسانية أن تنتظر حتى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، لتبدأ أولى محاولات التصوير الفوتغرافي.. عندها، دشن الإنسان عصر كتابة تاريخه، لا عن طريق النحت والنقش على الحجارة والمعادن، بل باستخدام آلة التصوير، والفيلم، والورق.. كان ذلك الاكتشاف الذي توصل إليه الفرنسي “جوزيف نيابس” وهو يلتقط صورة من نافذة حجرته عام 1928 ثورة بكل المعاني.. وستأتي الأحداث لاحقا لتجعل من ذلك الاكتشاف أمرا عظيما في مسار التاريخ البشري، وعلاقة الإنسان بالصورة.. ولعل فورة التصوير الفوتغرافي التي رافقت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ولكن خاصة خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) هي ما أعطى للصورة كل ذلك الزخم التارخي الكبير. فلولا صور خنادق الموت، ما كان لنا أن تنصور أهوال الحرب العالمية الأولى، ولولا صور قنبلة هيروشيما، ماكان لنا أن نتصور حجم جريمة السلاح الذري، لولا صورة فتاة النابلم، ما كنا لنتصور فضائع الحرب الأمريكية في فيتنام..
القرن التاسع عشر الذي بدأ باكتشاف آلة التصوير الفوتغرافي، لن ينتهي قبل أن يشهد إنجازا أضخم وأعقد: السينما! ففي فرنسا، مرة أخرى، سيكون للأخوين “لوميير” فضل ولوج الإنسان إلى عالم الفن السابع الساحر. في تلك الفترة من التاريخ، بين غروب القرن التاسع عشر، وبزوغ فجر القرن العشرين، ازدحمت البحوث والاكتشافات بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.. دخلنا عصر الكاميرا و الفيديو.. وظهرت الأفلام التجارية، وبنيت قاعات السينما، وكان تشارلي تشابلن، لوحده تقريبا، صانعا لحقبة كاملة من السينما الصامتة، ولكن الصاخبة جدا بمعانيها ورموزها وسخريتها المضحكة المبكية.
فتحت السينما عصرا جديدا من التواصل البشري.. عبرت بكرات الأفلام حدود الأوطان والأمم.. ارتقت فوق الخلافات والاختلافات.. وحدت شعوب العالم حول فرجة واحدة.. أصبحت السينما، بلاجدال: لغة العالم!
هكذا يكون شعار الدورة السابعة لمهرجان وجدة للسينما المغاربية، “السينما، لغة العالم”، شعارا متجذرا في تاريخ هذا الفن الراقي، مستلهما للمعاني التي رافقت السينما منذ فجرها الأول. ففي عالم تهزه العصبيات والنزاعات، وفي مرحلة تستيقظ فيها الفتن والنعرات، ما أحوج الإنسانية إلى نبل القيم التي صنعتها السينما عبر تاريخها. وهذه المعاني سنجدها ضمن أهداف المهرجان (من 23 إلى 27 يونيو الحالي)، فهو في محيطه القريب يهدف إلى التعريف بالسينما المغاربية، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه إلى الانفتاح على التجارب العالمية وتقوية العلاقات بين الشعوب والثقافات .
والمهرجان الذي تنظمه جمعية سيني مغرب، وإلى جانب مسابقته الرسمية للأفلام الطويلة والقصيرة، سيقدم أيضا عروضا سينمائية موازية في الهواء الطلق بمختلف مدن الجهة، وداخل المؤسسات الاجتماعية، كما سيستفيد هواة الفن السابع من الورشات التي ستخصص لمهن السينما (السيناريو، مبادىء الفيديو، الماكياج والخدع السينمائية، الكتابة والإنتاج).
وستستضيف هذه الدورة وجوها عربية من عالمي السينما والإعلام، وسيكون لبنان ضيف شرف الدروة، إلى جانب مثقفين مرموقين على الصعيد المحلي والوطني والدولي، كما ستكرم الجمعية نجوما من الحقل الفني والثقافي والاجتماعي اعترافا بعطاءاتهم في هذه المجالات. مع وعد من جمعية سيني مغرب بأن تكون هذه محطة أساسية تشرف مدينة وجدة، عاصمة للثقافة العربية للعام 2018 .
أهلا بكم في وجدة.. التي ستتكلم سينما.. لتوحد العالم حول قيم التسامح، والتآخي، والتعايش بين كل الشعوب.. وعبر كل الثقافات.. لنرسم معا، صورة للتاريخ، والذاكرة.
كنزة بوعافية