لست أدري كيف ستستقبلون مداخلتي هذه المشغولة بشكل كبير بهاجس طرح السؤال و التساؤل أكثر مما هي مشغولة بالخروج بنتائج و خلا صات جاهزة،ما يهمني في مداخلتي هو إثارة النقاش الذي بواسطته نفتح الطريق من أجل اقتراح تصور يقترب من الحقيقة.
إن العنوان الذي اخترته و هو “لماذا تكتب الرواية؟” يترجم رغبة فكرية في نزع البداهة عن بعض الممارسات الفكرية أو الفنية التي اعتدنا عليها و لم نمنح أنفسنا الفرصة على خلخلتها أو زحزحتها.إننا نود الانفتاح على تساؤل شائك و صعب،و هو تساؤل لا يختص بالرواية فقط بل يتجاوزها إلى غيرها،بل إلى جميع الإنتاجات الإنسانية.و أنا أريد هنا أن أحصر اهتمامي بالنتاج الروائي.فمن خلال التعاطي مع مجموعة من الأعمال الروائية العربية أو العالمية تولد في ذهني هذا السؤال:لماذا هذا الروائي أو ذاك هذه الرواية أو تلك؟ماذا أعني بهذا السؤال؟أقصد به ما الهدف الذي توخاه الكاتب ما إذ كتب ما كتب؟هل يتعلق الأمر بهدف محدد أم أهداف متداخلة و متعددة أم مجموعة من الأهداف يلحمها هدف مركزي؟ سأحاول مقاربة تساؤلي من خلال اقتراح مجموعة من الافتراضات الممكنة:
1-الافتراض الأول ينطلق من التصور التالي:أن الرواية تكتب لخلق نوع من الأرشيف..ماذا أقصد بذلك؟إنني لا أقصد الأرشيف المتعارف عليه،تلك المدونة التي تحتوي المعرفة ذات المنزع العلمي أو الموضوعي، المعرفة الموثقة و الرصينة،ما أقصده ذلك الأرشيف الذي يتوافق مع طبيعة الرواية التي تعتمد اللغة الإيحائية و البعد التخيلي و الصور الفنية و عنصر الحلم.إنه أرشيف فني ،إنها تأريخية بشكل من الأشكال،و بإمكاني أن أقول مع كار لوس فوينتس:”بأن الرواية التأريخية تعويض عن التاريخ لأنها تقول ما يعجز التاريخ عن قوله”.و أضيف بأن هذا النمط الروائي الذي أتحدث عنه يتفوق على المعرفة الأرشيفية لأن هذه الأخيرة اختزالية و باردة في حين أن الرواية بما تمتاز به من تقنيات العرض أو المشهد تضعنا مباشرة أمام الإنسان الذي هو في الرواية الشخصية الروائية:فنعاينها و هي تعيش،تفكر،تتصارع تتأزم،تحاول حل أزماتها.و هذا الأرشيف الروائي أقسمه إلى أرشيف موضوعي و آخر ذاتي:أقصد بالأرشيف الموضوعي تلك الروايات التي تؤرخ للحظة تاريخية معينة من حياة مجتمعها،مثلا ما قام به نجيب محفوظ في ثلاثيته أو ما قام به عبد الرحمن منيف في خماسية مدن الملح.حيث أن الرواية تضعنا ضمنيا و دون أن تشير ألى ذلك صراحة أمام تاريخ ظهور المملكة العربية السعودية،و انتقال الإنسان السعودي من البداوة إلى التمدن بطريقة مفاجئة و سريعة تحت تأثير النفط و التدخل الأجنبي. أما بخصوص الأرشيف الذاتي فهو ما يعرف بالسيرة الذاتية: وهنا يمكن استحضار جميع السير الذاتية التي أنجزت مثلا في الحقل العربي:”الأيام” لطه حسين،ثلاثية حنا مينه(بقايا صور،المستنقع، القطاف) الخبز الحافي لمحمد شكري.
2-الافتراض الثاني هو ما أن الرواية تأتي لاستعادة الزمن الضائع،من المعروف أن شقاء الإنسان كما يقول الوجوديون هو أنه كائن زماني،أي أنه لا يمكن أن يعيش إلا داخل الزمان،فهو دوما يستقبل أزمنة و يودع أزمنة،يستقبل عمرا و يودع عمرا،و الرواية تأتي لتستذكر ما فات و ما مضى،إنها تأتي كمحاولة للقبض على هذا الذي يمضي،و خصوصا بعض اللحظات و بعض الأمكنة التي تركت بصماتها على الذات الساردة.إنها تأتي للقبض على الزمن المنفلت أبدا الذي لم يبق منه سوى بقايا صور في الذاكرة أو المخيلة أو الأحاسيس.بإمكاني أن أمثل لهذا النمط من الرواية برواية البحث عن الزمن الضائع، أو رواية لعبة النسيان لمحمد برادة التي تستعيد ماضي شخصية الهادي ،و يمكن أن نمثل أيضا برواية “طائر الحوم” لحليم بركات .
3-الافتراض الثالث هو أن الرواية تكتب لتواجه العالم،ما معنى ذلك؟إنها تأتي لتطرح القضايا الساخنة ،لتفتح الأضابير ، لاختراق المحرمات و الطابوهات الدينية أو السياسية،إنها تأتي لتخلق نقاشا و جدالا،إنها تدفع بوعي القارئ إلى التوتر و ذلك بالوعي بالقضايا الهامة المطروحة في عصره،إن هذا النوع من الرواية هو ما يسمى بالرواية السياسية.يقول عبد الحمن منيف:”إن الرواية السياسة بالمعنى الإيجابي للكلمة هي الرواية التي تحرض و تغير و تترك بصماتها في نفس الإنسان لفترة طويلة و ليس دائما الرواية التي تتحدث في السياسة” لنمثل لهذا النمط بروايات عبد الحمن منيف على سبيل التمثيل:شرق المتوسط،الأشجار و اغتيال مرزوق…فشرق المتوسط تريد أن تقول:اُنظروا كم هو مؤلم ألا تكون في بلادنا ديمقراطية و حرية تعبير،انظروا إلى وضعية المعتقلين السياسيين في السجون حيث يتحول الإنسان من ذات إلى جثة للضرب.أما الأشجار و اغتيال مرزوق فإنها تحتج ضد علاقات لا إنسانية في المدينة و القرية،وهي تتلخص في مشكلة ممارسة السلطة القاهرة و القامعة على مختلف المستويات السياسية و الاجتماعية و الثقافية.
4-الافتراض الرابع و هو أن الرواية تكتب للغونة إن جاز التعبير هذا النموذج من الروايات هو ما يطلق عليه رواية الارواية.فالأساسي البارز هو أن هناك كلام نريد قوله لا نريد من ورائه الإخبار بل فقط الاستمتاع بالكلمات و اللغة وهي تتراقص و تتموسق هذا ما يمكن أن نفهمه من رواية الامسمى لبيكيت.
بإمكاننا أن نكثر من هذه الافتراضات إذا ما استخلصنا لماذائية أخرى من روايات أخريات،حسب المعاينة و التفكير و قد نقلص منها إذا وجدناها متداخلة.إن أية رواية في نظري لا تخلو من جميع هذه الافتراضات أو من بعضها على الأقل أو غيرها.مثلا مدن الملح هي ليست فقط لخلق الأرشيف بل إنها رواية تدين الواقع القائم،إلا أنها حسب نظري تمتاز بكونها تريد أن تؤرخ بطريقة روائية لفترة معينة من تاريخ تشكل المملكة العربية السعودية،وهي إذ تفعل ذلك فلكي تستمع إلى صوت المهمشين و المقموعين إنها تاريخ من لا تاريخ لهم.
ما أريد أن أوجه إليه الانتباه،هو أنه لا يمكن البحث عن إجابة ذات طابع ماهوي جوهراني قار.
د. عزيز القاديلي