الرئيسيةإبداعالبهلوان

البهلوان

جاء الأستاذ صباحا، وحمل إلينا الخبر ، تلقفناه بنصف فرحة ونصف عبوس، سيزور البهلوان مدرستنا، هو نصف الفرحة، وكان علينا أن ندفع مقابل ذلك ، هو النصف الآخرالذي أفسد علينا فرحتنا السنوية، التي طالما انتظرناها كما تنتظر الفراخ الصغيرة في الأعشاش من يطعمها.

قرأ الأستاذ رسالتنا التي رسمناها على وجوهنا، فأسرّ إلينا أن كاتب المدرسة هو من قرر ذلك.

بعد انتهاء الدوام، توجهنا رأسا عند كاتب المدرسة، نحمل احتجاجنا مثل عتاة النقباء، وقبل أن نقرأ عليه لائحة مطالبنا، اختصر المسافة وأومأ إلينا أن البهلوان نفسه ،هو المسؤول عن هذا الانقلاب، ولولا تدخل الكاتب لكنا سندفع أكثر بكثير من الدراهم الخمسة التي تظهر على التذاكر، والتي رأيناه يحملها  بيده اليسرى.

في الفضاء الفسيح للمدرسة، انهمك الصغار يمرحون ويقفزون غير عابئين بالمصيبة التي حلت بمدرستنا، لذلك لعبنا دور العقلاء فيهم ، وتركنا اللعب جانبا، وسرعان ما انتشر الخبر المحزن بين هؤلاء الصغار،فرسموا الفرحة على وجوههم وأخفوا الحزن الذي لم نفلح نحن “الكبار” في مداراته.

ودون أن ندري، تشكلت لجنة منا نحن الثلاثة، وائل ومسعود وأنا، الشاهد على هذا كله.

وائل هذا ، لا يضحك إلا مرة في السنة، عندما يأتي البهلوان إلى مدرستنا، يكره أباه كرها شديدا، في كل المدة التي عرفناه فيها، لم يتبادل وإياه، إلا بضعة كلمات، كانت في الغالب غمغمات لم نتبين معناها، لهذا كان وائل لا يفارقنا، عائدا إلى البيت ، إلا وخيم الحزن على وجهه الطفولي  البسّام، كان يفارق مجمعنا ، كمن يفارق أهله، تماما كما يفعل قبل أن يدخل إلى اختبار مادة الحساب.

مسعود المقاتل، مستعد ليفعل أي شيء، حتى لو طلبنا منه ، أن يصير المدرسة رمادا، شجاعة معجونة بقليل من التهور وكثير من البراءة، هو القائد الذي يرسم خططنا  ويتقدمنا عندما يغير علينا أبناء حارة “العامرية”، لولاه لكانوا استولوا على ملعب الكرة الصغير وطردونا منه، بفضله مازلنا نبسط عليه أرجلنا، رغم أنه يوجد في منطقة التماس بين الحارتين.

يقودنا مسعود، وفي نيته أن يشبع البهلوان ضربا، و أن يدعس حبة الطماطم الصغيرة التي يضعها على أرنبة أنفه، يسير وهو يردد:

“عشنا وشفنا ، متى أصبح الضحك بثمن ! ”

ثالتهم ، كان أنا،  مزيج من الخوف والشجاعة والتعقل والتردد، كنت ألجأ إلى حيلة تمكنني من التربع على عرش العاقل وسط أبناء الحارة، كنت أسرق بعض أفكار أبي ، التي يأتي بها من الجرائد التي يظل عاكفا عليها جزءا كبيرا من النهار، ومن قنوات الأخبار الأعجمية ، بعد أن ينام الجميع. فإذا فاضت عنه الأخبار ، يلقمني بعضها ، و بدوري ألقمها أقراني ، بعد أن أزيد فيها و أنقص ، دون أدري متى ولا  أين  وقعت.

وبفضل هذه الحيلة ، أصبحت حكيم الحارة.

وائل يريد ألّا يخطئ موعده مع الضحك السنوي ، ومسعود ينوي طرح البهلوان أرضا، وأنا يعولان علي أن أدلهم على مكمن البهلوان.

غادرنا المدرسة إلى مديرية التعليم، التي لم يكن يفصلها عن مدرستنا سوى شارعين.

عند بوابة المديرية، رأينا عشرات الناس ، يحملون أوراقا ملونة سميكة ، يضعونها تحت أكتافهم، يتأبطونها ولا يبتسمون كما نفعل نحن في المدرسة، سألنا الحارس عن البهلوان، فلم يدلنا على عنوان، ولما ألححنا في السؤال، أرشدنا إلى عنوان ملغز ، التقطه مسعود ، ودفعنا أمامه إلى الطابق الثالث، وانعطف بنا جهة الشمال حتى المكتب الثامن في أقصى الردهة المعتمة ، لعلنا نلقى بغيتنا.

طرقنا الباب طرقا خفيفا، كما علمنا أستاذنا، ولم ينفتح، زاد مسعود في شدة الطرق، ومن الوراء جاءنا صوت أجش يدعو الطارق للدخول، انسللنا عبر الباب ، فوجدنا قاعة فسيحة ومكتبا فارها كبيرا ، يجلس وراءه رجل ضئيل الحجم ، يكاد يقاربه مسعود طولا.

” ما ذا تفعلون هنا يا أولاد؟ ”

أجبنا ثلاثتنا مرة واحدة :

” نريد البهلوان”

” عن أي بهلوان تتحدثون! هذه مديرية للتعليم وليست مسرحا”

” ولكن يا سيدي ….”

أمرنا الرجل الضئيل الحجم ، وبصوت حاد أكبر من حجم صاحبه ، أن ننصرف ، وأن نعود من حيث أتينا، وتركنا نتوه في سراديب المديرية كالفئران في غيرانها، لم نأبه لكلام الرجل الصغير، وقررنا أن نتابع بحثنا عن البهلوان.

نظر إلي الرفيقان وعلامة الحيرة بادية على وجهيهما الصغيرين، وأخرجنا صوت مسعود من صمتنا الحزين :

” لابد أن يكون هنا مكتب للبهلوانات ، يوزعها على المدارس”

نزلنا الأدراج، نطارد البهلوان  سارق بسمتنا، وتحلقنا مرة أخرى حول الحارس، الذي أضلنا في المرة الأولى، ودون استحياء، طلب منا أن نعاود الكرة مرة أخرى،  وأن ننعطف يمينا هذه المرة حتى المكتب التاسع.

وجدنا الباب مواربا، دفعه مسعود ودخل، وبقينا بالخارج نترقب، وسرعان ما جاء صوت مسعود من الداخل، أن نلحق به.

خلف مكتب كبير، أكبر بكثير من مكتب الرجل الصغير، جلس رجل كبير الحجم ، قامته تفوق قاماتنا نحن الثلاثة مجتمعة، يضع نظارات صغير مستطيلة فوق أرنبة أنفه، ولا يرانا من خلالها.

على هذا المكتب الفسيح البني اللامع، لا أثر لورقة ولا حتى قلم ، إلا من بطاقة مذهبة صغيرة ، كتب عليها بخط بديع يضاهي خط أستاذنا  على السبورة السوداء ” مسؤول الأنشطة والترفيه”، وتساءلت ، كيف يعمل الرجل ، ومكتبه فارغ أملس صفر من الورق، في تلك الدقيقة التي سبقنا فيها مسعود، فهمنا أنه قد ابتدره بالأمر، فقال الرجل بصوجهوري مثثاقل ” انتهى زمن الترفيه المجاني،اليوم أصبح كل شيء بثمن، وجميع المدارس دفعت”.

نطقنا بصوت واحد، وفي دفعة واحدة،  نناصر زعيمنا مسعود :

” لا يمكننا أن نضحك و نحن ندفع”

بدأ الرجل السمين، يشفق لحالنا، أمهلنا بضع ثوان ، حتى ننصرف ، وأخبرنا أنه يريد إكمال “عمله” ، عمله الذي لم نره،وعلينا أن نغادر في الحال.

في تلك الأثناء، وقف مسعود، ولما أحس بأن هذا الفتى ، يمثل جناحنا العسكري، زادنا دقيقة أخرى ، من وقته الغالي ، كما نعته، وقال بصوت خفيض ولكنه حاسم:

“اسمعوا ثلاثتكم! يجب أن تعلموا ، أن الحال أصبحت غير الحال، وكل شيء غلا وأصبح بثمن ، تدفعون مقابل الكراسات والأقلام والأكل والنقل، والآن تدفعون مقابل الضحك، وعما قريب تدفعون مقابل علب الطباشير والأستاذ”

ولأنه أشفق لحالنا، ولأننا طيبون ، كما بدونا له، رق قلبه، وأخبرنا أنه سيسعى في طلب البهلوان ،و سيرسله إلى مدرستنا لنصف ساعة فقط لا تزيد، بعد أن ينهي جولته في المدارس التي دفعت، ثم أمرنا أن نغادر بسبابته وهو ينظر جهة الباب الكبير، دون أن ينطق بشيء، وهذه المرة رأيناه ، يسوي من وضع النظارات ويضعها فوق ناصيته.

نزلنا الأدراج متثاقلين، لا ينظر بعضنا إلى بعض  أو يكلمه، نصف انتصار ، انتصار بطعم الهزيمة، مشينا المسافة كاملة على هذه الحال، وعند باب المدرسة، تحلق حولنا الصبية الصغار يستطلعون الخبر.

غادر مسعود إلى بيته دون أن يلتفت، وبقينا ننتظر حتى انتهاء الدوام…

ولم يأت البهلوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *