تعد الكتابة عن المدينة، سواء كانت شعرية أو نثرية، من أهم الكتابات في الوقت الراهن، والتي أولى الأدباء والشعراء اهتمامهم ووعيهم بها، خصوصا في ظل التطور المهول الذي تعرفه المدينة عمرانيا واقتصاديا، وتغير طابعها الاجتماعي والثقافي، واتخاذها الصبغة الحداثية في مختلف مجالات الحياة اليومية ذات الإيقاع السريع. وتكون هذه الكتابة أكثر وعيا لدىأولئك المبدعين الذين ألفوا حياةهادئة وناعمة في مسقط رأسهم، وانتقلوا بعد ذلك، في مرحلة الوعي الفكري والثقافي إلى مدينة أخرى تختلف كليا عن مدينتهم، لا سيما إذا كانت المدينة التي انتقلوا إليها أكبر وأكثر حداثة، وابتعادا عن التقاليد والعادات الصارمة.
تعتبر المجموعة السردية للمبدعة المغربية رشيدة محزوم من الكتب التي تناولت سيرة المدينة، وهو كتابها الأول الصادر عن منشورات سليكي، عبارة عن نصوص جديدة جمعتها في أضمومة بعنوان “شفشاون وحلم سلام ـ نصوص في مسودتها الأولى” وهي من الحجم المتوسط تتكون من 96 صفحة.
تضم المجموعة السردية 17 نصا سرديا، وشعريا (3 نصوص شعرية) كل نص موسوم بعنوان مستقل، وجميعها منضوية تحت خمسة عناوين كبرى:
- حكايتي مع شفشاون وسلام (أربعة نصوص).
- أشلاء أنثاي (ستة نصوص).
- تقاطع الحرقة والحلم مع الأيام (ستة نصوص).
- دهشتي أمام تلاوة بوكماخ (نص واحد).
- تعاويذ منذورة للذبح (أربعة نصوص قصيرة جدا).
وجميع هذه النصوص لا تخضع لكرونولوجيا سردية أو تسلسل الأحداث وتراتبية الشخصيات، كما لا تتقيد بروابط سردية تندمج من خلالها الشخصيات بالوقائع، فهي تكسر النمطية في السرد وتنهج أسلوبا لا يخضع لجدلية المكان والزمان، إذ تعالج بكيفية مونولوجية طفولتها، وفترة شبابها، وتتطرق إلى الأحداث التاريخية التي شهدتها مدينة شفشاون قبل الاستعمار، والآثار السلبية التي خلفها المستعمر في سلوك ساكنة المدينة ومعمارها وأسلوبها المعيشي، وأغلب نصوص المجموعة ترصد فترة مهمة من مرحلة تشبع الشباب المغربي بالأفكار الثورية والشيوعية والحلم بتغيير الواقع، والتي كان يعتنقها الشباب الذي يرتاد رحاب الجامعات في المغرب، ويتحمسون لتغيير واقعهم السياسي.
وسنركز في إطلالتنا التأملية عن كثب على النصوص التي تناولت فضاءين رئيسيين هما مدينتي شفشاون والدار البيضاء، وتبيان المدخرات النفسية التي حاولت الكاتبة تبذيرهما سرديا من خلال نصوصها المتعلقة بهذين الفضاءين، حيث تمثل شفشاون الألفة والحماية والأمن والاطمئنان النفسي للساردة، في حين تمثل الدار البيضاء الحداثية رهابا فضائيا وقلقا داخليا وخوفا من كائناتها البشرية. وتعتبر سمتا الزمان والمكان نقطتا ارتكاز للنفاذ إلى مقاربة الجسد، وفهم انكساراته الثقافية والجمالية والحركية داخل هذين الفضاءين في بعدهما الثوري والتمرد على الأمكنة، وهدم سونيتات الزمن.
إن تعدد الأمكنة في أغلب نصوص هذه المجموعة كفضاءات باعثة على القلق الوجودي، والمخصبة لمجموعة من الأحلام المثقلة بالإيديولوجيات، واختلافها جغرافيا، وتنوعها معماريا في ارتباطها اجتماعيا وتاريخيا بكائناتها البشرية أكسبها أصالتها وخصوصيتها، على اعتبار أن العمل الأدبي يفقد أصالته-حسب باشلار في جماليات المكان- إن لم يرتبط بالمكان، لأنه حين يفتقد إلى المكانية يفتقد خصوصيته وبالتالي أصالته.
وفي رصدها لمقتنيات الصور السردية التخييلية في فضاءات النصوص تنشط ذاكرة الساردة بين الفينة والأخرى، لزحزحة الواقع، وتلقيمه بأحداث تاريخية كامتداد حضاري إثنوغرافي، وتثبيت جذوره الاجتماعية التي ترسخها تقاليد المجتمع الشفشاوني، فتبرز من بين هذه المقتنيات صور ضبابية تعكس الفترة التي هيمن فيها الاحتلال الغربي على المدينة، فعمل على خلخلة سيرورتها المدنية والحضارية، وغير من مظاهرها ونمط عيشها.
وهي بذلك تكسر، اجتماعيا وثقافيا سياق وسيرورة الزمن الموضوعي وتعاقبية أحداثه، داخل فضاء جغرافي غير متحول وشبه ثابت هندسيا، وخلق تداخل وتشابك بين الأقانيم الزمنية الثلاثة (الماضي_الحاضر_المستقبل) داخل إطار خطاب متداع سياسيا،ومتوتر وجدانيا يستدعي مجموعة من الرؤى الفكرية والمعرفية من أجل إعادة تشكيل زمن سردي جديد يقوم على مجموعة من الثيمات الحفرية المستترة باجترار ديناميكي لمجموعة من الأحداث التاريخية، وقراءتها قراءة ذات بعد معرفي تحليلي/ تشريحي يتقصى إعادة بناء تاريخ شفشاون بناء حداثيا، ويقوم أيضا على مجموعة من الأحلام التي تؤطرها العديد من الرؤى والأفكار الجديدة الأكثر إدراكا لحيثيات الحاضر، والأكثر وعيا لتداعيات المستقبل. كل هذا التناغم الحتمي يحوطه التمرد نظريا ومحاولاته واقعيا.
والملاحظ أن الساردة تنسب العادات والتقاليد المتبعة والضوابط الاجتماعية إلى شفشاون وليس إلى الآباء أو المجتمع (شفشاون تفرق بين ذكرها…- شفشاون تخاف على نسائها… تراقب رجالها)، وهي بذلك حاضرة كوعاء فضائي، وكإحدى شخصيات المجموعة السردية. فالمدينة بجميع مظاهرها الأخلاقية والاجتماعية تشكل رقابة لا شعورية على المرأة، وهي كمجتمع شبه منعزل جغرافيا، ومحافظ اجتماعيا يضع العديد من الحواجز والضوابط الأخلاقية أمام كل ممارسة سلوكية للأفراد.
إن فضاء المدينة هنا، ليس كمدلول مكاني، وإنما كمكون اجتماعي يساهم في تشكيل رؤية أخلاقية ثقافية للفرد، فعالم المدينة هنا يختلف كليا عما ألفناه لدى المبدعين وموقفهم السلبي من المدينة الحديثة، والمفرغة من بعض الثوابت الأخلاقية.
في المحور الأول تحدد الساردة التموقع الجغرافي لمدينة شفشاون الذي يلعب دورا مهما في تحديد الأجواء السردية التي تموقع فيها شخصياتها وأحداثها، منطلقة من الصدمة التاريخية التي عرفتها المدينة إبان الاستعمار الاسباني، وترتد بين الفينة والأخرى إلى الوراء لاستحضار الأزمنة الجميلة التي عاشها الجيل الأول قبل الاستعمار، وترصد في نفس الوقت التغييرات التي طرأت على جميع مظاهر المدينة وسلوك ساكنتها الاجتماعي، وتأثير مخلفات الاستعمار الثقافية على الحياة اليومية فيها. وفضاء المدينة بكل مكوناته الجغرافية، وكانتماء مكاني خضع إلى ثلاث مستويات زمنية غيرت من سيرورته التاريخية وهي: فترة ما قبل الاستعمار وتمثل الماضي لشفشاون منذ تأسيسها واشتراكها الحضاري مع الأندلس بكل إشراقاته التراثية، وفترة الاستعمار الاسباني وتمثل انقطاع الاتصال بالماضي التراثي، وقيام صراع سياسي دفاعي لصد ثقافة امبريالية غربية وافدة على المدينة، وطرد المستعمر. ثم فترة ما بعد الاستعمار تمثلت في التداعيات الثقافية والسلوكية اليومية التي خلفها المستعمر على نمط العيش ومظاهر الحياة في شفشاون، وهي الفترة التي تعيشها الساردة بكل تناقضاتها.
إن استحضار زمن الطفولة عند المبدعين هو بمثابة ملاذ للهروب من خيبات الحاضر المتكررة، لكن الساردة هنا تنطلق من زمن طفولتها الذي أمضته في فضاء المدينة يغيب فيه الوعي بالذات، ولا يشكل “الجسد الطفولي الأنثوي” أية انتكاسات وجودية ونفسية. وهذا الزمن لديها حاضر بكل دهشته العفوية والحماسية في وصف تفاصيله، ولذلك تنتقل من طفولتها المنفتحة على كل الايحاءات الطفولية، والحياة التلقائية لتتحدث عن نفسها كامرأة ناضجة «وأنا كنت قد انسللت من أصحاب الصغر.. وانضممت إلى الحريم الشفشاوني» غير أن هذا الانضمام شكل لديها عقدة اجتماعية تتعلق بوضعية المرأة وسط مجتمع محافظ يرصد تحركات الأنثى «وشفشاون تفرق بين ذكرها» وعلاقة المرأة بالمدينة علاقة حواجز «وبين دارها وخارج مدينتها شبابيك ونوافذ»وهذه العلاقة يشوبها الخوف من الآخر/ الإفرنجي «وشفشاون كانت تخاف على نسائها من فتنة الإفرنجيات»والساردة لا تتحدث عن الأسرة والمجتمع كمؤثرين رقابيين، وإنما تتحدثعن شفشاون التي هي خلية معمارية تمثلها مجموعة بشرية هي التي تؤثر في حياة الفرد وسلوكياته.
بعد هذا الرصد الاجتماعي التاريخي لمدينة شفشاون تنتقل للحديث عن شخصية “سلام”، وفي خضم ذلك ترصد بوضوح علاقة الشخصيات العابرة بالأمكنة مثل: جلسات الشيوخ على عتبات المساجد والزوايا، وهي رموز معمارية للوجود الديني،وتتكئ على تاريخ مثخن ومثقل بذكريات حرب الريف وحكاياتها المتعددة تحت تأثير اكتظاظ الذاكرة بجروح الماضي واختلاطها بأحداث سياسية شهدها المغرب، ويرفض سلام واقع المدينة ويلجأ إلى الجبل في خلواته قائلا: “لن أتابع العيش بين أناس المدينة.. إنني اخترت العيش على ترعات الجبل العالية لأطل على الخارج في شتى امكانياته الغائبة والممكنة”. وسلام يمثل فئة الشباب المثقف الذي ارتاد الجامعة وتشبع بالأفكار الثورية التي حملتها رياح الاتحاد السوفياتي آنذاك، وهو المتزعم لهذه الفئة المتمردة على الواقع فكريا وثقافيا في مدينة شفشاون.
المدينة بمكوناتها البشرية لا تستوعب أحلام سلام، ولا يتيح له فضاؤها الانفلات من رقابة الآخر، كما لا يمثل له أي قيمة في تهريب أحلامه، وتحقيقها على أرض الواقع. فينتقل إلى علية جغرافية (الجبل) تمثل في رمزيتها سمو الشخصية السردية فكريا وثقافيا واجتماعيا، وهو تحقيق ايديولوجي هرمي يحفز على التشبع بأفكار ثورية تحررية. فطبيعة المكان تخلص الذات الانفعالية المليئة بطاقة تفكير وشيكة على الانفجار، وللجبل قيمة مكانية علوية تتيح الإطلال على أمكنة شاسعة مفتوحة.
وترصدالساردة حياة المرأة الشفشاونية في سيرورة زمنية من زمن الصبا إلى زمن النضوج في علاقتها بمظاهر الحياة في المدينة، وحياة الرجال (كبار السن) الذين يمثلون التاريخ المثخن بالجراح والهزائم، وقسمت الشباب إلى فئتين: الأولى يمثلون الحاضر ويعكسون ذلك في استماتتهم لكسب قوت عيشهم اليومي، وتدخين الحشيش دون التفكير في الغد،والفئة الثانية يمثلون المستقبل وهم الجيلالمثقف الذي ارتاد الجامعات وتشبع بالأفكار الثورية، وكبديل لهذا الانعطاف التاريخي والاجتماعي تبني أفكارا تقوم على مجموعة أحلام ورغبات ونظريات في تغيير الواقع من أجل التأسيس لمستقبل ديموقراطي متحرر من قيود الجهل.
الفئة الأولى اختارت العيش البسيط بين أروقة المدينة، ورعي الجديان وصيد أسماك الوادي وزرع نبتة الحشيش أو التسكع على طريق سبتة وتطوان في انتظار سائح يقوده إلى المدينة ليأخذ منه بضع “بسيطات” أو علبة سجائر افرنجية، أما الفئة الثانية فقد اختارت تغيير واقعها المزري عبر الحلم والتشبع بالأفكار الثورية فالتحقت بسلام في الجبل من أجل الاستعداد لخوض معركة التغيير «في الليل.. كنا نقرأ كتب الثوار.. ونستمع إلى الرفاق الثوريين.. وهم يحكون حكاياتهم عن الوطن والحرية ألحانا.. فكبرنا في الحلم» والملاحظ أن هذه الأفكار نبتت وأينعت في مجتمع يختلف تماما عن مجتمعنا العربي «وننبش في كتب “دار موسكو” ذات الأغلفة الحمراء»، فكان سلام يحلم بتغيير واقعه من منطلق أفكار غربية «ويحلم بحاضر يعتصره من شيوعية روسيا وأشعار رامبو»لكنه يهرب من المدينة، التي تمثل التاريخ والحاضر، إلى الجبل فيدخن الحشيش الذي هو هروب من الواقع ومحاولة لنسيان انتكاساته الايديولوجية والاجتماعية. فمدينة شفشاون كانت قبل الحرب «رقعة أندلسية.. ولولا أن أجداد فرانكو اعتدوا على الأسماء العربية فبقيت هي الأخرى أندلسية». ولأن هؤلاء الشباب الذين يمثلون المستقبل لم يعيشوا تاريخ أجدادهم.. لكنهم رأوه يحتضر على صينية الشاي التي يجتمع حولها شيوخ شفشاون.. ولأنهم كبروا على هذا الاحتضار المتكرر للزمن اختاروا العيش على هامش المدينة، وهو هروب من واقع يعكر صفوه ذكرى الحرب والاستعمار ومخلفاته.
وسلام لم يعش أحداث الماضي التاريخية المتمثلة في الحرب ضد المستعمر من أجل تحرير المغرب، وإنما استقى أحداثها وترسخت في ذاكرته من خلال أحاديث شيوخ المدينة ورجالها «كبر سلام وأصبح لغز المدينة.. لم يكن يعيش وسطها.. ولكنه كبر على هامشها.. في الليل كان يقرأ الثوار ويستمع لأغاني الرفاق الثوريين الذين كانوا يغنون للوطن والرغيف والحرب»فتشبع بأفكار الأجداد وطعم هذا الاشباع بأفكار ثورية تحارب الظلم وتندد به، وهو ما كان يعيشه الأجداد في ظل الاستعمار، ليتولد لديه حلم بتغيير الواقع «وظل يبحث عن ولادة جديدة ويعزف لشفشاون ألحانا غيفارية لأن في زمنه كان شباب المدينة يتصاعدون عشقا نحو براري غيفارا»
ولم يكتف سلام بالحلم بل «اجتمع بشباب المدينة وجعلوا لهم مقرا يلتقون فيه ليتحدثون ويحلمون وينادون على بعضهم البعض ب “يا رفيق” وجعلوا لمقرهم اسم “خلية أصدقاء غيفارا” وبينهم وبين غيفارا هذه المسافة من الحلم والارادة في الكينونة».
فالمدينة كفضاء حضري آهل بالسكان له جذوره التاريخية بما فيه انتكاسته السياسية المتمثلة في الثغرة الزمنية الاستعمارية، لم تستوعب، أو بالأحرى، لم يكن بمقدوره احتضان الأفكار التحرريةالقادمة من الغرب، وهي الخارجة حديثا من براثن الاستعمار، كما أن ارتواء ثقافة سلام وتكوينه السياسي من التاريخ، وتشبعه بالأفكار الثورية عبارة عن « خليط فوضى من جنون فرانكو الافرنجي.. وتلك الصرخة الموشومة على جباه شيوخ المدينة»
كان سلام يصطحب معه الساردة وهي في عمر الخامسة عشر إلى الخلية «ليبدأ فعل الولادة معي»وكان يؤثر عليها فكريا وثقافيا غير عابئ بتقاليد المجتمع «لم يكن يريدني أن ألتحف الإزار الأبيض والبلغة الحمراء.. وإنما أرادني أن أتعرى للرفض والذات»فحياة الذكر الذي يقضي معظم يومه خارج البيت تختلف عن حياة الأنثى التي تحياها من الداخل… يفصلها عن المدينة شبابيك ونوافذ «ولا تكشف عن وجهها.. وتغلف جسدها بالإزار… وتتقن فعلالانتظار.. ويوم السبت تصعد إلى سطح دارها لتشاهد بعضا من الاسبانيات يتنزهن بين أركان المدينة، ويلبسن التنانير القصيرة مع أحذية بكعب عال» فالساردة ترصد الحياة الطبيعية للمرأة الشفشاونية داخل مجتمع تخلص حديثا من براثن الاستعمار، والمرأة في هذا الوقت كانت تعيش حياتها في استكانة «وتفرح لحياتها داخل الأسوار» والساردة المتشبعة بالأفكار المنفتحة والمتمردة في دواخلها رفضت هذه الحياة المستكينة داخل فضاء مغلق هندسيا وإيديولوجيا وثقافيا واجتماعيا حيث تقول: «لم أستطع أن أحيا شفشاون من جوانبها»ورفضت وضع النساء وهن يمارسن حياتهم اليومية، ويغنين المواويل الجبلية بعيدا في أقاصي المدينة «لكن لم يكن يعرفن حرقة ذاكرة المدينة» وتتجلى هذه الحرقة في شيوخها الذين كانوا يعودون في الماضي إلى المدينة بأرجل وأياد مبتورة يبكون أيام الحرب الأهلية في إسبانيا..وبذلك تمثل الساردة المرأة المثقفة والمتشبعة بالأفكار الثورية المنفتحة، فنجدها ترفض هذه الحياة المستكينة والمقيدة بعادات وتقاليد مدينة شفشاون.
تتمرد الساردة على كينونتها كأنثى وتكسر الحواجز التي تفصلها عن الخارج، وتلتحق بسلام في الجبل، ولكن ليس كباقي إناث شفشاون «فاخترت أيضا اللحاق بالأصحاب (…) ومسحت عن جسدي كل العلامات التي كونت سفر تكوين الأنثى في.. وانضممت إليهم، أنثى في جبة الذكر.. لتمنحني تأشيرة مروري نحو الانتفاضة الجميلة التي ستولد بين أعالي جبل المدينة». وحالة التمرد الأنثوي والانتفاضة المتضمنة رفض الذات هي في الحقيقة حالة انعتاق من سيرورة أجيال النساء اللواتي ألفن الحياة داخل الأسوار في استكانة، وانفلات ايديولوجي متوتر يرتكز على اطلاع الأنثى على الفكر الثوري الذي ضم بين طياته دعوة صريحة لتحرير المرأة. لكن هل بمقدور المرأة المتشبعة بالانعتاق والتحرر أن تتخلص بسهولة من هذه القيود التي طوقتها على مر الأزمان؟ وهل من السهل التخلص من رقابة “شفشاون”؟ لن يتحقق كل هذا إلا بمغادرة الساردة شفشاون إلى مدينة الدار البيضاء، وهي مدينة متحررة لا تفرض رقابتها بنفس الحدة كما في شفشاون.
إن انسلاخ الساردة عن الحياة داخل البيت وعدم الالتزام بدورها كأنثى أمام انسلاخ سلام ورفاقه عن الحياة الاجتماعية في المدينة هو انسلاخ عن التاريخ أيضا، هذا التاريخ الذي يمثله شيوخ المدينة في جلساتهم الطويلة على عتبات المساجد والزوايا يبكون ذكريات الحرب، ويجترون خيبة انهزاماتهم.
وما أن أعلن سلام عن مشروع إكماله حلم الخطابي حتى كان له ضابط الشرطة بالمرصاد فقبض عليه وعلى أعضاء الخلية في مخبئهم السري ليختفي بعدها سلام الذي أخذ للسجن بعيدا عن المدينة «ومنذ ذلك الوقت لم أر أخي سلام».
وإذا كان أبو الغيلان كشخصية أمنية يسهر على حماية المدينة واستتباب الأمن فيها، فإنه من الناحية الشخصية لا يتوانى على تلبية غرائزه “الحيوانية” ولا يراعي الأخلاق في علاقته مع الشخصيات التي لها ارتباط بالقضايا التي كان يحقق فيها، حيث يرسل رسالة مجهولة إلى الساردة باسم أخيها ويدعوها لملاقاته سرا في مكان معين بالجبل خارج المدينة حيث اعتاد سلام أن يقضي فيه آحاده.
وعندما تذهب إلى المكان تجد أبو الغيلان في انتظارها في لباسه المدني، بعد إحالته على التقاعد، وشرع يمطرها بالأسئلة عن أصدقاء سلام وعن انخراطها في الخلية، وما هذا إلا مقدمة للوصول إلى غرضه الحقيقي الذي سرعان ما كشف عنه عندما هاجمها محاولا الاعتداء عليها، لكنها تحتال عليه وتتخلص منه بعدما عضته من خده «وكانت تلك محاولتي الأولى في نحت أشكال التصدي والعصيان ص25»تعود مسرعة إلى البيت لتجد رفيقي سلام قد خرجا من السجن، وعندما تسأل عن أخيها: “لماذا لم يخرج سلام بعد؟”
يجيبها أحدهما قائلا:
– «يبدو يا راشدة أنك لم تكتسبي بعد وعيا كاملا بما يجري داخل الخلية من اختلاف الآراء في بلدنا… مدة السجن تساوي حجم الرأي. وآراء سلام كانت بحجم جبال المدينة”.
وسلمها ظرفا يحوي صفحات كثيرة يحكي فيها أبجدية اعتقاله وأحلامه… وفي آخر صفحة طلب منها أن تتوقف عن قراءة الكتب التي كان يحفظ فهرسها، وطلب منها أن ترحل عن المدينة.
وتختم الساردة الجزء الأول بقصيدة شعرية بعنوان “الأغنية الأخيرة لسلام”.
في هذا الجزء خضبت الكاتبة فضاءها السردي بمجموعة من الأمكنة المتنوعة والمختلفة، وكان لكل مكان دلالته العميقة في انتشال مجموعة من الالتباسات المعرفية لدى الشخصيات في علاقتها بالمكان، فالمرأة الشفشاونية مستكينة في مكان مغلق يمثل جمالية اجتماعية تفرضها تقاليد متوارثة عبر التاريخ، وإن كانت الساردة التي تمثل المرأة المتشبعة بالأفكار التحررية، ترفض هذا المكان المغلق وتعتبره قيدا لحريتها، وفي هذا الشأن تتنكر لأنوثتها التي تفرض عليها الانصياع لسلطة الأمكنة، في حين نجد الشيوخ يرتادون أمكنة منفتحة خارج البيوت كأبواب المساجد والزوايا والمقاهي. لكنذاكرتهم مقيدة بانتكاسة الماضي، وهم بذلك يعيشون في فضاء مغلق ذهنيا. وبالنسبة للشباب المنشغل بكسب قوت يومه فإنه يهرب من واقعه عن طريق تدخين الحشيش الذي يجعله يشعر بأبعاد المكان وتأثيراته الجمالية. أما الشباب الذي يمثل الجيل المثقف فهو يرفض فضاء المدينة الذي لا يستوعب تطلعات أفكاره وأحلامه فيهرب إلى الجبل كمكان علوي يطل على واقع المدينة، ورغم رغبة سلام في الانفلات من فضاء المدينة، واختيار الجبل كملجأ للعزلة، فإنه في الأخير يتم حبسه في السجن، وهو مكان مغلق هندسيا وفيزيولوجيا وبسيكولوجيا، وهو في الحقيقة تضييق على الأفكار التي يؤمن بها.
في الجزء الثاني المعنون “أشلاء أنثى” تنتقل الساردة إلى فضاء آخر لمدينة أخرى تختلف كليا عن مدينة شفشاون، وهي مدينة الدار البيضاء أكبر مدينة في البلد، وهي بالنسبة إليها عبارة عن «فم غول يملأ الهواء بدخان الشاحنات والسيارات وتعفن المصانع…»وتشفق عليها:«مسكينة هي البيضاء انتفخت بعدوى فيروس الحداثة فتورطت ضجيجا وصخبا وغموضا وفوضى في توزيع الديار والأراضي والمناصب».
وفي رأي الساردةفإن هذه المدينة «تقفل نهارها في وجه ذوي الحظوظ السيئة.. وتفتح ليلها في وجه من لا نهار له » ورغم انتقال الساردة إلى فضاء جديد فإنها تعمل على تكسير الرتابة في السرد عبر تقنية الاسترجاع (Flash-Back)باستحضار مكونات الفضاء الأول بأمكنته وشخصياته وأزمنته.وتطرح سؤالها: «وأنا الآتية من مدينة تمنح نهارها وليلها في حب نيلجي كلون حيطانها، كيف لي أن أحل معادلة البيضاء مع الزمن والفضاء؟»وتصطدم بالفضاء الجديد وتعود بذاكرتها إلى فضاء شفشاون وتقارن الحياة في المدينتين «وهكذا في مدينتي الصغيرة.. بسيطة ومن عزلتها عن خريطة الوطن تؤثثت جغرافيتها بهدوئها وفرحها وقناعتها… شفشاونمنحتني جواز المرور إليها نهارا وليلا».يرتفع إيقاع الحياة في مدينة الدار البيضاء، الكل يركض في جميع الاتجاهات، تثير أعصاب زائريها، وتبعث في نفوسهم النفور، فيقررون العودة بسرعة من حيث أتوا، ويصعب كثيرا التعايش مع مظاهرها بسهولة.
إن المكان والزمان يختلفان هنا في البيضاء عن مثيليهما في شفشاون، ففي مدينتها متسع من الوقت للقاء الأصدقاء لنسج القصائد وتأسيس مفاهيم جديدة حول الكلمة.. حول الذات.. حول العالم.. حول الأنثى.. حول الذكر، وتشعر فيها بالأمان ليلا ونهارا ولا تفتأ الساردة تذكر الشباب دائما منتشين بالكيف وتفخر بهم لأنهم لا يعاكسون الفتاة بفظاظة كأنهم حفدة طرفة بن العبد في الدفاع عن شرف أنثيات قصائده.
وشفشاون بالنسبة إليها «قصيدة سرمدية تسكنني وأسكنها»في المقابل تتحدث عن مكونات فضاء الدار البيضاء «لا يرعبني الفضاء.. أذهب إلى البحر ليلا.. أمارس الرياضة في الصباح الباكر دون خوف من لا شيء.. أدخل الحانات وأستمع إلى هذيان السكارى.. أشاهد فيلما في السينما في حصته المسائية.. أتجول في دروب هذا الوطن العتيقة دون خوف من لا شيء»
في كتابها “شفشاون وحلم سلام: نصوص في مسودتها الأولى” تكاد الكاتبة رشيدة محزوم أن تلامس تجليات الديستوبيا في رصد مجموعة من الصور السردية التي تلتقطها من خلال تصورها الفكري والثقافي والمعرفي والتاريخي واستشرافها لمستقبل المدينة (شفشاون) عبر مقاربة ابستمولوجية وكرونولوجية حكائية لمدينة ثانية هي الدار البيضاء عبر شخصية متوترة وثائرة هي سلام، وتقوم بتهريب مجموعة من التوجسات والانثيالات الثقافية من الماضي عبر قناة الحاضر مستشرفة غموض آفاق المدينة الحديثة في ظل البطالة والتعثر السياسي للأحزاب…وتعج المجموعة بصفة عامة بنصوص متوترة تثير زوبعة من التساؤلات وتنقل القارئ ذهنيا وتضعه في خضم الأحداث وسط واقع مليء بالمتناقضات.
رضوان السائحي