تقديم
لم يغب المشهد الشعري المغربي بتجربته القديمة والحديثة، ولا برؤيته الإبداعية المتنوعة، عن بناء صرح الشعر العربي. فللمغاربة بصمات مشهودة في تأسيس هذا الصرح وإغنائه بالتجديد والتحديث والأسماء والأماكن والأزمنة. ورغم أن المشرق العربي حاول، من خلال بعض نقاده ومؤرخيه، أن يبخس حق المغاربة في امتلاك حساسية شعرية مغايرة عنه، وأن يصادر استقلاليتهم في نسج خيوط القصيدة، وأن يبسط رداء الوصاية عليهم، إلا أنه فشل في ذلك، بل وبات يشعر، بشكل أو بآخر، بضرورة الانفتاح أكثر على التجربة المغربية في القول الشعري وغيرها من تجارب القول الإبداعي الأخرى، وإفساح المجال لها إعلاميا وتعليميا وأدبيا.
إن الشعر المغربي، قديما وحديثا، اكتسب ألوانا خاصة به، وكانت له، ومازالت، أدوار كبيرة في تطوير وعي الإنسان المغربي أخلاقيا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا، بالرغم من أنه تطور بصورة بطيئة مقارنة بنظيره المشرقي، كما أنه لم ينجب لنا قامات شعرية إلا بعض مخاض كبير. ولكنه في المجمل؛ بات الشعر المغربي اليوم ذاكرة فنية، وذائقة روحية، ورسالة قيم من أجل تخليق الحياة والإنسان، ولعل هذا ما جعله ناجحا في الانتقال من السكون المحروس بخواء المعاني والجمل إلى الحركة المسكونة بتفجير أنظمة الانسياب والتدفق وأنساق الغواية الجميلة بمعانيها الواضحة وغاياتها الإنسانية الخيرة.
من هنا، ارتأينا في مجلة “طنجة الأدبية” أن نخصص ملفا عن الشعر المغربي، من باب التعريف ببعض أسمائه، دون أن نحاكمه إيجابا أو سلبا، أو نسائله في جودة إبداعه، أو ضعف مواهبه، أو قدرته على تجاوز اختلالات الشعر العربي المشرقي أو الغربي من غموض وغرابة واستلاب وخروج عن المعنى والسياق. وإنما من خلال استضافة ثلاثة أصوات شعرية من أجيال مختلفة، ومدارس متمايزة، في محاولة منا إلى الحديث عن هذا الشعر بلسان تجاربهم الغنية، ورؤاهم الجمالية المتعددة المداخل.
حاورهم و أنجز الملف : يونس إمغران
الشاعر حسن الأمراني: انتماء الشعر المغربي إلى الشعر العربي بعامة لا ينفي الخصوصية المغربية
1. أين يضع الشاعر الأمراني تجربته الشعرية ضمن النسيج الشعري المغربي، حيث الواقع والزمن والمكان والإنسان والحلم مغربيا ؟ أم ضمن الكيمياء الشعري العربي حيث القضايا تفرض ثقلها وحرارتها بنَفَسٍ هوياتي وحضاري ؟
دعني أولا أعترف بأن الحديث عن النفس يحرجني كثيرا. وأنني أوثر تناول القضايا المشتركة في الشعر والفكر. ولكن علمتنا العرب أن نقول: ( لابد مما ليس منه بد).
لا ينفصل الشاعر عن بيئته التي ولد فيها ونما وترعرع، ولا عن الزاد الثقافي الذي تلقاه صبيا ويافعا وكهلا. وقد كانت بيئتي الأولى، البيت، تشهد ما تزودت به أول مرة من شعر، مغربي وعربي، إن صح هذا التقسيم، حيث كانت قصائد مالك بن المرحل والسهيلي تنشد جنبا إلى جنبا مع قصائد البوصيري والبرعي، ومع شعر حسان وأبي العلاء، ومع نصوص المعلقات ومقامات الحريري. كل ذلك وجدته في خزانة البيت، جنبا إلى جنب مع ديوان أبي القاسم الشابي، نموذجا للشعر الرومانسي الحديث. ونمّت المرحلة الجامعية هذا التوجه ولم تلغه، إلا أنها عمقت الوعي الحضاري والسياسي أيضا في ذاتي، وأعطتني انتماء مباشرا للقضايا الوطنية، دون أن يكون ذلك على حساب قضايانا العربية المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين. ولكن الشعر لا يتحكم فيه عنصر واحد، وهو الواقع، بل يبلور نسيجه الفني مجموعة من العوامل، أهمّها التيارات الفنية والثقافية والفكرية. وهنا كنت واحدا من أبناء جيلي، الذي هو جيل التأسيس الشعري الجديد والامتداد معا، حيث كان من الصعب الفصل بين ما سماه النقد “الجيل الستيني”، و”الجيل السبعيني”، فالتداخل قائم بينهما، فنا وفكرا، وكانت كلية الآداب ــ ظهر المهرازــ بفاس خاصة، تجمع الشعراء المنتمين إلى المرحلتين، أساتذة وطلابا. أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، رحمهما الله، ومحمد السرغيني، وغيرهم، من أساتذة تلك المرحلة، إلى جانب عبد الله راجع ومحمد بندفعة ومحمد بنعمارة رحمهم الله، وغيرهم من الأحياء، من طلاب تلك المرحلة. كل أولئك صنعوا الشعر المغربي الحديث بالمغرب. ولم يكن بعض من لم يلتحق بالجامعة آنذاك، مثل عبد الكريم الطبال، ومحمد علي الرباوي، بعيدين عن ذاك الجو العام.
ولكن ضمن هذا المسار المشترك الذي غلبت عليه سمة “الرفض والاحتجاج”، وقد غلب عليها الطابع اليساري، الذي لم يكد يسلم منه أحد، حتى إنني أهديت إحدى قصائدي في تلك المرحلة المبكرة إلى الزعيم الثائر (شي غيفارا)، كان عندي هاجس التميز الذي لا يخرج عن دائرة الرفض والاحتجاج، ولكن من منطلق حضاري، مرتبط بكياننا العربي والإسلامي، بعيدا عن الطابع اليساري، أو الغنوصي، الذي طبع معظم التجارب الشعرية آنذاك. وإذا كان بعض الشعراء اليساريين التمسوا في خيرة الصحابة من أمثال أبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، ما يستجيب لأطروحتهم اليسارية، فإنني حاولت التماس مظاهر التماس بين فكر شي غيفارا وبين رفض الظلم والاستبداد المؤيد بالوحي، قرآنا وسنة، مثلته قصيدتي :(لوحة على جدار برلين)، وذلك قبل أن أرعوي وأكتشف أن النموذج الذي أطلبه لا يحتاج إلى الضرب في الأرض بعيدا، لأنه قريب مني جدا، ويتمثل في عبد الكريم الخطابي وأضرابه من المجاهدين.
كانت المنابر الثقافية المشرقية، بادئ الأمر، هي التي احتضنت تجارب كثير من الشعراء المغاربة، وكنت من بينهم، وذلك قبل أن تستوي المنابر المغربية، انطلاقا من (العلم الثقافي) الذي صدر عدده الأول عام 1969، ليكون الأرض الخضراء التي تتخذ منها القامات الشعرية الجديدة مستقرا لها.
وانطلاقا من مغربيتي أبحرت نحو المشرق، قارئا وشاعرا، ولم يكد بلد عربي يخلو من تلقي شعري من خلال منابره. فقد نشرت في تونس والجزائر وليبيا ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين والعراق ودول الجزيرة العربية كلها تقريبا، من اليمن إلى السعودية والإمارات والكويت وقطر…. كما أقبلت بعض دور النشر في المشرق على نشر بعض دواويني، وكان نزولي ضيفا على كثير من القنوات الفضائية سببا في زعم بعضهم بأن شعري معروف في المشرق أكثر من المغرب، وما أظن ذاك صحيحا.
وعلى هذا، فأنا مغربي واقعا ومكانا ونشأة وحلماً أيضا، إذ الحلم المغربي يتجسد في أن يستعيد المغرب رسالته الحضارية، حيث كان هو الذي حمل الإسلام وحضارته إلى غرب إفريقيا، فيما سمي بالسودان الغربي، وساحل العاج ومالي وغيرها، بعدما شارك أبناؤه، قيادة وجندا، منذ نهايات القرن الأول الهجري، في حمل تلك الحضارة إلى الأندلس التي صارت على عهد الموحدين والمرابطين ولاية مغربية.
وأنا عربي إسلامي ثقافة وهوية وحضارة وجذورا، والفرع لا يتنكر لأصله أبدا. وأنا ممن يومنون بأن انتماء الشعر المغربي إلى الشعر العربي بعامة، لا ينفي الخصوصية المغربية، كما أن انتماء شعر نيرودا إلى ثقافة اللغة الإسبانية لا ينفي خصوصية انتمائه إلى الشيلي، ولا انتماء طاغور إلى الهند ينفي خصوصيته البنغالية، باعتبار اللغة التي كتب بها.
2. بين المغربي والعربي؛ تثار مفارقة غريبة، نحتاج معها إلى تفسير واضح ومقنع.. فعندما نتحدث عن شاعر من المغرب العربي أو نُخضِع قوله الشعري للدراسة والتحليل والتقييم، نقول عنه: إنه “شاعر مغربي”. بينما نصف الشاعر.. أي شاعر، من المشرق العربي، ودون تحفظ،، بأنه “شاعر عربي”! فهل الشاعر لا يكون عربيا إلا إذا كان مشرقيا؟
هذه قضية قديمة من جهة، ومتشعبة من جهة أخرى. فمنذ القرون الأولى كان النقد يتحدث عن شعراء العراق، وشعراء الشام، وشعراء المغرب. وكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي ناطق بذلك. ويؤثر عن المتنبي أنه قال وقد بلغه شعر ابن عبد ربه: “يا ابن عبد ربه، لقد يأتيك العراق حبوا”، وهذا اعتراف من شاعر العربية الأكبر بخصوصية الشعر العراقي آنذاك من جهة، وبشاعرية أهل المغرب من جهة أخرى.وفي عصر النهضة الحديثة كان هذا التوجه بارزا، وقد كتب العقاد كتابا عنوانه: “شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي”، ولم يقل: “الشعراء العرب في مصر”، ثم في الجيل الموالي كتب محمد مندور، وبصيغة أوضح: “الشعر المصري بعد شوقي”، ولم يكن يعني غير الشعر العربي في مصر. وكذلك صنع من تناول شعر العراق أو الشام أو غيرهما. فقد كتب أحمد بسام ساعي، على سبيل المثال، كتابه عن “شعراء سورية”، ولم يكن المغاربة بدعا في هذا عندما كتبوا عن الشعر المغربي، وكتاب العلامة عبد الله كنون قوي الدلالة في هذا الباب، عندما سماه:” النبوغ المغربي في الأدب العربي”، فجمع بين الصفتين: المغربي، والعربي.وقد خبرت هذا الأمر أثناء معاشرتي لأدباء من المشرق، فكان يقولون: الشاعر المصري، إذا تحدثوا عن صلاح عبد الصبور مثلا، والشاعر العراقي، عندما يتحدثون عن السياب أو البياتي. ومعظم الناس لا يذكرون أسماء محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان إلا مقرونة بصفة “الشاعر الفلسطيني”. ولكن لوثة بعضهم بأن يقولوا: الشاعر العربي، وهم يقصدون شاعرا من مصر أو لبنان، أو حتى من الجزيرة العربية، والشاعر المغربي، إذا جاءوا إلى ذكر المغرب، فمردها إلى اضطراب في الفهم من جهة، وقصور في النظر. ولكن الغريب أننا في المغرب نرسخ هذه الآفة، ولا سيما في بعض الدراسات الأكاديمية، أعني ما أشرتم إليه من أن الحديث عن شاعر من المغرب يأخذ صفة “الشاعر المغربي”، في حين يقتصرون في وصف شاعر من المشرق على صفة “عربي”، وعلى هذا فملاحظتكم صادقة من بعض الوجوه.وهناك سبب آخر وراء هذه الظاهرة، وهو جهل كثير من المشارقة بأدب المغرب، وهو جهل نابع عن الكسل، أكثر مما هو نابع عن تقصير أهل المغرب في التعريف بأدبهم، على ما لهذا العنصر الأخير من أهمية. فلذلك نجد بعض أهل المشرق يَسِمُون شاعرا ما بأنه مغربي، كأنهم يكتشفون أن بالمغرب شاعرا. وقد كنت ذات مرة مع شاعرة سورية، تعد من المثقفات، ومن المعنيات بالشأن الفكري والأدبي في العالم العربي، فقالت إن الرواية المغربية ناضجة، وأما الشعر فلا. فسألتها عمن تعرف من الشعراء، فلم تذكر غير اسم واحد، صاحبه كثير التردد على المشرق، وعلى الخليج بصفة خاصة. وذكّرتها بأسماء بعض الأعلام من الشعراء فلم تعرف منهم أحدا، لا من أصحاب المدرسة الكلاسيكية، كإدريس الجائي ومحمد الحلوي وعلي الصقلي وأحمد سكيرج، ولا من أصحاب المدرسة الحديثة. هذه وأمثالها معذورون، ورب عذر أقبح من ذنب، إذا تحدثوا عن الشعر المغربي في مقابل الشعر العربي!
3. نعود إليكم كذَاتٍ معرفية شعرية.. إن أي حديث عن الشاعر حسن الأمراني لا يتم إلا مقرونا بوَصْفٍ بات علامة دالة عليه: إنه “شاعر ملتزم” ! ما معنى الالتزام هنا؟ وهل الشعراء الآخرون كالخمار الكنوني أو عبد الله راجع أو حسن نجمي، على سبيل المثال لا الحصر، ليسوا شعراء ملتزمين؟
هذا تصنيف يلزم من وضعه، وأنا لم أصنف نفسي يوما بأنني “شاعر ملتزم”، ولم أنزع صفة “الالتزام” عن أحد، ولا نازعت أحدا في هذه الصفة. فلينعم إذن بصفة الالتزام من اطمأن إليه، شاعرا كان أو ناقدا. أما أنا فقد اخترت طريقي، تنظيرا وإبداعا. لطالما استعملت، في كتاباتي التنظيرية، صفة “المسؤولية” بدلا من “الالتزام”، ودعوت إلى “الأدب المسؤول”، استنادا إلى الآية الواردة في سورة “الإسراء”: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا). فإن كان الأمر كذلك في حق كل إنسان، فهو في حق الأديب ألزم، لأنه أوتي أداة ينصرف أثرها إلى غيره من الناس، إذا كان غيره من الناس مسؤولا عن نفسه فقط. وقد بينت أن الفرق بين “الالتزام” وبين “المسؤولية”، هو أن “الالتزام” ــ كما طبق في عدد من النظريات الأدبية، ومنها الماركسية مثلا ــ كان مقترنا، بالإلزام، أي بالإكراه، إذ دلت الوقائع التطبيقية على أن “الدولة” كانت تلزم الأدباء والفنانين بخطوط حمراء ليس لهم أن يتعدوها، بل ليس لهم أن يقربوها. وقد غضب ستالين يوما عندما طبعت الدولة ديوان غزليا وقال: “كان عليكم أن تطبعوا من هذا الديوان نسختين فقط: واحدة للشاعر والأخرى لحبيبته”. وكلنا يعلم سيف زجادينوف الذي كان مسلطا على رقاب الأدباء والفنانين، وذلك هو الذي أدى ببعض الأدباء، أو الفنانين في روسيا، إما إلى الانتحار الجسدي، وإما إلى الانتحار المعنوي، وهو الصمت، وإما الفرار خارج الوطن. نحن نعرف على سبيل المثال مصير ماياكوفسكي (انتحر في 14 ابريل عام1930 )، وباسترناك، وسولجنتستين (غادر الاتحاد السوفييتي ثم عاد بعد انهياره الاتحاد إلى بلده). وأما الوجودية، التي نادى زعيمها سارتر بالالتزام، فقد جعلت الالتزام هلاميا لا معنى له، بسبب إفراطها في الفردية والحرية الشخصية.
وقد كان سيف مكارثي في الولايات المتحدة يقوم بما كان يقوم به سيف زجيدانوف في روسيا، إلا أن مصير الأدباء في الغرب كان مختلفا من بعض الوجوه عن مصير زملائهم في الاتحاد السوفياتي، ذلك بأن المخابرات الأمريكية كانت تقوم بتصفية المعارضين جسديا، أو التضييق عليهم ولو كانوا ينتمون إلى أقطار أخرى. ومثل شاعر الشيلي نيرودا ناطق. وقد فضحت فرانسيس ستونرسوندرز في كتابها: (الحرب الباردة الثقافية: من دفع للزمار؟)، كثيرا من تلك الفضائح والفظائع.
لقد أسست الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1950، “منظمة الحرية الثقافية”، وقد أصدرت هذه المنظمات عشرات المجلات الثقافية، وربما المئات، عبر العالم، ومنه العالم العربي. فمن المجلات التي كانت تصدرها في العالم العربي مجلة (الحوار) التي كانت توزع جوائز مهمة، حتى على الأدباء والفنانين اليساريين إن كانوا يخدمون أهدافها، ولم تكتشف حقيقة هذه المجلة، وارتباطها بالمنظمة الأمريكية، إلا بعدما نال جائزتها الروائي المصري يوسف إدريس (ينظر مقال د. حلمي القاعود: اليسار الحظائري، المنشور في جريدة “الشعب الجديد” الجمعة 24 فبراير 2017). ومن خلال هذه المنظمة تعددت أنشطة جهاز المخابرات الأمريكية، ثم استطاع السيناتور مكارثي، عام 1953، تكوين لجنة في الكونجرس خاصة بالنشاط الثقافي والفني المعادي للولايات المتحدة، وتمرير قانون للرقابة الثقافية. ومن خلاله عملت الولايات المتحدة إما على اغتيال عدد من الأدباء والفنانين، وإما على التضييق عليهم ودفعهم إلى الانتحار، كما حدث مع الروائي الأمريكي الشهير إرنستهمنجواي، الذي أصيب بالاكتئاب نتيجة شدة مراقبة الــ f.b.i. قبل أن يقدم على الانتحار.
وأما الشاعر الشيلي بابلو نيرودا، فقد سعت تلك المنظمة الأمريكية على حجب جائزة نوبل عنه عام 1964، وعندما نالها عام 1971، عملت على اغتياله بعد عامين من فوزه بالجائزة.
وعلى هذا فإن سيف الرقابة في كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كان واحدا، وكل تلك الجرائم كانت تقع باسم الالتزام والدفاع عن الحريات. وأما “المسؤولية” فتعني أنه لا رقيب على الأديب إلا رقيب وحيد، وهو إيمانه بأن هنالك ربّا يحاسب على الصغيرة والكبيرة: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرى شرا يره). وهذا اليقين يهب الأديب حرية واسعة، حيث يشعر بأنه ليس لمخلوق عليه سلطان، وهو لذلك مستعد للتضحية في سبيل الكلمة.
لذلك كنت أقول دائما: لست شاعرا ملتزما، بالمعنى المتداول عند كثير من الناس. أنا شاعر مسؤول، محرض. التحريض هو الوظيفة الأساسية للشعر. والتحريض هنا أبعد ما يكون عن القضايا الآنية، السياسية أو الاجتماعية، بل هو يعني التحريض ضد كل ما هو قبيح في سبيل ترسيخ قيم الجمال والمحبة والأخلاق، ليس بالمعنى الطوباوي، ولكن بما يمس حياة الناس. الشعر يحرض الناس من أجل الانتصار للجمال. وقمة الجمال الحرية والعدالة والصلاح والخير، وعلى عكس من ذلك فإن الاستعباد والاستبداد والفساد والشر هي أجلى صور القبح التي يسعى الشعر إلى تدميره. التدمير طريق إلى البناء. ومن هذا المنطلق جردت قلمي للدفاع عن المستضعفين في الأرض، ووقفت ضد المستكبرين، وبشرت بالجمال المطلق، ولا يمكن للشاعر أن يبشر بالجمال المطلق ما لم يحرص على أن يكون شعره هو نفسه مشتملا على قدر كبير من الجمال. هذا الجمال الذي قد نراه في وردة، أو فراشة، أو امرأة، أو طفل، أو نخلة، أو نهر، نراه كذلك في العدالة، والحق، والقيم الإنسانية المثلى.
4. أتعتقدون أن الشعر مازال يملك – في حياة الإنسان العربي خاصة والكوني عامة – دورا ؟ كيف ؟ وفي ضوء أية رؤية.. سياسية ؟ أم اجتماعية ؟ أم عقدية ؟
يتوقف الشعر وينقرض من حياة الإنسان عندما يتوقف البشر عن التنفس. الشعر ملازم للحياة، والله تعالى لم يخلق الإنسان منشغلا بطعامه فقط.. هناك ما هو أعلى من ذلك.. أشواق الروح.. وهذه لا يغذيها إلا ما هو سام ونبيل، الدين، والشعر، والفلسفة، والفن.. كل أولئك لا يمكن أن يمحى من حياة الإنسان، وإلا لم يعد إنسانا. و”ولكن” هذه عريضة.. متى يقوم الشعر برسالته الإنسانية؟ لا يقوم بذلك إلا إذا كان مخلصا لطبيعته، وصادقا في وظيفته، وجميلا في تعبيراته، ومبلّغا عن صاحبه.. ولا يكون مبلّغا إلا إذا كان بليغا. البلاغة والبلاغ شيئان مقترنان ومتلازمان، ومتى تعطل أحدهما تعطل الآخر. وهكذا عندما تحسّ أن الشعر كفّ عن أداء رسالته، ولم يعد له دور في حياة الناس، فاعلم أنه فقد أحد عنصريه اللذين بهما يطير، حيث لا يطير الطائر بجناح واحد، ويومها لا نتهم الشعر، بل نتّهم المتشاعرين الذين يحجبون عن الناس رؤية الحق والجمال. ليس الشعر هو الذي فقد دوره، بل كثر الغثاء حتى زكم الأنوف، وأفسد أذواق الناس، فانصرفوا عن الشعر لأن الشعر قليل. الذين يقولون إن الحياة المعاصرة لم تعد بحاجة إلى الشعر بخاصة، والأدب بعامة، ونحن بحاجة إلى العلوم لا إلى الآداب، لنلحق بالركب الحضاري، هؤلاء لا ينظرون إلى أبعد من أرنبة أنوفهم. إنّهم ينظرون إلى الأمم المتقدمة بسطحية، ولا يعلمون الدرجة الرفيعة التي تحتلها الآداب والفنون عند تلك الدول. بل إنّ الذين يرسمون واقع تلك الأمم ومستقبلها هم أقطاب ما يسمى (العلوم الإنسانية)، وأمامنا برنارد لويس وناعوم تشومسكي وبرنار ليفي وكينيث وايت وإريك برلين، الذي فاز بأهمّ جائزة بريطانية عن قصيدته «مهمة ليلية» حيث ما زالت الدول المتقدمة ترصد الجوائز القيمة للشعراء. لو خيرت بريطانيا بين مستعمراتها التي كانت لا تغيب عنها الشمس وبين شكسبير لما فرطت في شاعرها. وقد حضرت، عام 1986، احتفاء فرنسا بالذكرى المئوية لوفاة فكتور هيجو، وعرفت مقدار احتفائها شعبا وقيادة بشاعرها العظيم.
5. ما معنى أن نصف الأدب بـــــ “الإسلامي” ؟ في الوقت الذي نجد فيه أصواتا تتعالى حول اعتبار الأدب آلية تعبير متحررة من التصنيف الإيديولوجي أو الإثني أو المذهبي ؟ وبماذا يمتاز الأدب الإسلامي عن غيره، وخاصة على مستوى القيم ؟ أو بعبارة أخرى: ماذا عساه أن يضيف للإنسان والمجتمع ؟ حيث عجز الأدب الآخر عن تقديم هذه الإضافة ؟
لا ينكر أحد أن النقاد يصنفون الآداب بحسب المدارس، وهذا التصنيف إما أن يكون لاعتبارات فنية خالصة، وإما لأسباب إيديولوجية محضة. فعندما سادت الواقعية الاشتراكية، قبل أن تسقط مع سقوط المعسكر الشرقي، كان مرجع ذلك إلى الإيديولوجيا لا إلى الفن. ولأن الإسلام جاء إلى الناس كافة، وتنزل من ربّ الناس كافة، فإنه من الطبيعي أن يكون له حضارته المتميزة، وقد سبق الذكر أن الأدب من أهم مقومات الحضارات، والإسلام ليس إيديولوجية، إذ الإيديولوجيات عرضة للزوال. الإسلام دين خالد، وهو في الوقت نفسه له مقاييسه وقيمه المعنوية والجمالية. وقد كتب الأجانب قبل المسلمين عن حضارة الإسلام بآدابها وفلسفتها وفنونها وتشريعاتها، ولم ينكر أحد شيئا من ذلك. ولكن”المتأدلجين” هم الذين أنكروا ذلك. ولأن الله تعالى خلق الناس جميعا على الفطرة، فمن الطبيعي أن يكون الأدب الإسلامي متوجها إلى الناس جميعا، لأنه أدب الفطرة. وإن تجلى في بعض نماذجه بعض القصور، فهو قصور مرده إلى منتجه، لا إلى الأدب نفسه كمفهوم. وكما أن الأدب الإسلامي يتمنع عن التصنيف الإيديولوجي، فأولى له ألا يخضع لا للتصنيف الإثني ولا إلى التصنيف المذهبي. ألا ترى أن هذا الأدب قد شاركت في إنتاجه واستهلاكه شعوب شتى، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، بل حتى ولغاتهم، وهو أيضا أدب ممتد في الزمان وفي المكان، فأنت عندما تتحدث عن الأدب الإسلامي لا تتحدث عن فترة معينة ولا عن بقعة جغرافية معينة، وهو الأمر الذي لم يتحقق لغيره من الآداب. لقد وجدنا أعلام هذا الآداب يكتبون بالعربية والفارسية والتركية والأردية، وباللغات الغربية نفسها. كما أن هذا الأدب معترف به عالميا. هل يعلم أبناء جلدتنا أن هناك بالغرب مراكز خاصة لدراسة شعر محمد إقبال، أكبر شاعر إسلامي في القرن العشرين؟ ولماذا؟ لأن شعر محمد إقبال يحمل من القيم الإنسانية، جماليا وفكريا، ما يجعل الناس على مختلف مللهم ونحلهم يقبلون عليه، بالدرس والترجمة. ومع ذلك إقبال لم يتجاوز قيم الوحي في شعره. وما يقال عن إقبال يقال عن شعراء آخرين، تمتد أسماؤهم من أقصى شرق الأرض إلى غربها، مثل جلال الدين الرومي وغالب والأميري وحافظ وسعدي ويونس إمرة ومحمد عاكف والشاعرة الهندية ثريا كملا، والشاعر الأمريكي دانييل مور وغيرهم. إن كل هؤلاء، وغيرهم كثير، قدموا آثارا خالدة من الأدب الإسلامي، أخذت بمجامع القلوب، ولا يضيرهم أن يجهلهم أو يتجاهلهم أبناء جلدتهم.
6. متى يصبح الأدب العربي أو الإسلامي عالميا ؟ هل هناك شروط محددة ؟ مواصفات حقوقية أو دينية أو علمانية معينة لإسباغ هذه الصفة عليه ؟ أم أن الأمر يتوقف على استجابته للمعايير التي لا يراها ولا يسبر غورها إلا القائمون على منح جائزة نوبل للآداب ؟
إن الأسماء التي ذكرتها آنفا تؤكد عالمية الأدب الإسلامي، وكلها كانت تنطلق من الوحي، في تحرر تام من كل المواصفات المذكورة، مثل المواصفات الحقوقية أو العلمانية أو غيرها، بل على عكس من ذلك تماما، فمحمد إقبال يردد في شعره انتقاده المستمر للقيم التي تقوم عليها حضارة الغرب، بما فيه ذلك العلمانية، ويحاور في عدد من قصائد عددا من أعلام تلك الحضارة، بشقيها الرأسمالي والشيوعي، فقد انتقد أنانية نيتشه، كما انتقد إلحاد لينين. وإذا كان إقبال لم ينل جائزة، فإن ابن بلده طاغور، وقد نال تلك الجائزة، ما فتئ يشيد ببراعة إقبال وتفوقه الشعري. إن جائزة، مثل جائزة نوبل، لا ينبغي أن تكون مقياسا للعبقرية، ونحن نعرف جيدا حيثيات الجائزة. فقد نال عدد من مجرمي الحرب جائزة نوبل للسلام، ومنهم مناحيم بيغن، ومنهم رئيسة ميانمار الحالية التي ازداد مع ولايتها التنكيل بمسلمي الروهينيجا. كيف الاطمئنان إذن إلى موضوعية هذه الجائزة؟
7. ما هي طبيعة القضايا التي ترون أنكم لم تتناولوها في شعركم ودواوينكم، وأنكم، اليوم، في حاجة ملحة إلى طرحها ؟
لطالما حلمت بكتابة “الملحمة المغربية”، ولكن الكتابة عندي لا تخضع للرغبة وحدها. لحظة الاحتراق شيء جوهري عند كتابة القصيدة، وهي لحظة لم تتحقق بعد بالنسبة لذلك المشروع. ربما تحول دونه الآن المآسي التي نعيشها في عالمنا العربي والإسلامي، ولكنها قد تنبجس في أي لحظة، دون إعداد سابق.
8. ما هو الجنس الأدبي الأقدر على معالجة قضايا الإنسان والمجتمع.. الشعر أم الرواية ؟ علما أن عددا من الشعراء تجرؤوا – باقتدار ملحوظ – على ارتياد عالم الرواية ؟ أم أن عصر الشعر بات مجرد ذكرى في ظل “الانتصارات” المتوالية لجنس الرواية ؟
ليس هناك جنس أدبي من غيره أقدر على القيام بذلك. ولكن كل ميسر لما خلق له، وقديما قال بعض النقاد العرب، ومنهم الجاحظ، أن الجمع بين جنسين، عند قلم واحد، ممكن جدا، إلا أن ذلك لا يتحقق معه النبوغ، في أي من الجنسين. ربما تتحقق الجودة إلى حد ما، وأما النبوغ فلا.. ولنقل نحن، حتى لا نجزم كما جزموا، إن النبوغ في الجنسين نادر. نحن نعرف أن هناك من الشعراء المعاصرين من جرب كتابة المسرحية مثلا، لا الرواية، ولكن لا أحد يذكر شيئا من تلك المسرحيات.. كتب البياتي مسرحية: “محاكمة في نيسابور”، وكتب نزار قباني مسرحية: “جنونستان”. من يذكر ذلك؟ ربما لا يذكر بعض القراء حتى عناوين تلك الأعمال. كتب عبد الرحمن الشرقاوي الرواية والمسرحية والشعر، ولا أحد يذكره شاعرا.
وأسألك: الذين هاجروا من الشعر إلى الرواية، وحققوا حضورا روائيا مشهودا، ماذا بقي لهم من الشعر؟ الشعر لا يقبل “الضرات”، إنما أن تخلص له فتكون شاعرا، وإما أن يهجرك بلا رجعة. أنا لا أتحدث عن “التوسط في الجودة”، فقد يكون ذلك متحققا، وقد عاب نقادنا القدماء ذلك، وقالوا: ألا يكون لك شعر خير من أن يكون لك شعر متوسط.. أنا أتحدث عن النبوغ. لا يمكن أبدا أن تجمع بين الجودة في الشعر والجودة في الرواية.
أما القول بأن عصر الشعر أصبح مجرد ذكرى فلا.. الشعر نفيس، والنفيس دائما قليل.. وغريب أيضا. ويرحم الله أبو الطيب القائل:
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كان كانا.
الشاعر محمد بلمو ل “طنجة الأدبية”: الشاعر مطالب بأن يكون صوت العالم ولسان الإنسانية وضميرها
1. بداية كيف يمكن لمحمد بلمو أن يحدثنا عن اللبنات الأولى التي أسست لبنائه الشعري ؟ وعما يميز تجربته الشعرية عن تجربة الجيل الذي سبقها والجيل الذي أعقبها ؟
عندما خرجت للحياة في ستينات القرن الماضي، كان ذلك في بيت قديم من الطراز المريني مع ملامح معمار القصبات بالجنوب المغربي، في قرية جبلية بمقدمة جبال الريف اسمها “بني عمار”، منذ طفولتي المبكرة المفعمة بالفضول، وأنا أنجذب إلى صندوق خشبي كبير مركون في أحد غرف الدار وفوقه تضع والدتي حقائب وأغطية، لذلك كان ميعاد فتح أمي لذلك الصندوق يوما مشهودا في حياتي، كان مملوء بأنواع وأحجام من الكتب بالعربية والفرنسية… كنت أصغر بكثير من أن أعرف قيمتها المعرفية، لكن ذلك العالم الذي غرقت بين أغلفته وصفحاته كان قد سحرني تماما.. بدأنا نقلب أنا وأخي فؤاد الذي يكبرني بسنتين في الكتب، وقد شدتنا محتوياتها من خطوط وحروف مختلفة وأيضا مما يحتويها البعض من صور. هذا الانجذاب لعالم الكتب ولد رغبة لي في تقليد الخطوط والرسوم ثم الكلمات والجمل فالأبيات الشعرية بقلم صعب وعنيد… عندما انتقلت إلى مدينة مولاي ادريس زرهون لمتابعة دراستي الإعدادية والثانوية، قادني عشقي للكتاب إلى البحث عن مكتبة ولم تكن هناك إلا واحدة صغيرة يبيع صاحبها الكتب والمجلات، كنت أجمع بعض الدراهم من عملي مع أبي في الحقل خلال نهاية الأسبوع والعطل لأقتني بها الكتب من صاحبنا “بن عشراق”، هكذا اقتنيت كتب المنفلوطي التي عمقت عشقي للكتاب، وسلسلة جرجي زيدان من روايات تاريخ الإسلام، وأيضا سلسلة اللص الظريف “أرسين لوبين”… ومجلات الطليعة وآفاق العراقية والعربي الكويتية… وتجرأت يوما للبحث عن مكتبة في مكناس حيث اقتنيت كتابا سجاليا بين طه حسين والعقاد، وكانت بدورها قراءته ممتعة وشيقة. في الثانوي بدأت أكتب خربشاتي، وأنشر بعضها في مجلات حائطية بمقر جمعيتنا المحلية وداخلية الثانوية بزرهون.
بالنسبة للشطر الثاني من سؤالكم، لست حقيقة في حكم من يستطيع أن يتحدث عما يميز شعره عن شعر من سبقوه، ومن لحقوه، فذلك دور النقاد، أما ما قد يميزني فهو الذي كنت ولا زلت وسأبقى أبحث عنه في كتاباتي الجديدة، على اعتبار أنني لم أكن يوما مقتنعا تماما بما أكتب.
2. من هم الشعراء الذين حرضوا الشاعر بلمو على المضي قدما في طريق الغواية الشعرية ؟
من الشعراء الصعاليك والمعلقات في العهد الجاهلي إلى المتنبي والمعري…إلى الشابي وإليا أبو ماضي.. إلى السياب ومعين بسيو والمجاطي والبياتي ونزار قباني ومحمود درويش والسرغيني وعبد الكريم الطبال…، كل هؤلاء حرضوني على الكتابة.
3. أصدرتم لحد الساعة ثلاثة دواوين شعرية، أولها كان “صوت التراب” سنة 2001، و”حماقات السلمون” بالاشتراك مع الشاعر عبد العاطي جميل سنة 2007، و”رماد اليقين” سنة 2013. فهل يمكن لنا أن نتحدث عن ثلاث مراحل متمايزة – بالنظر إلى هذه الدواوين وتباعدها النسبي من حيث زمن صدورها – في تشكيل المعالم الأساسية لتجربتكم الشعرية ؟
يجب أن أوضح أن بعض النصوص التي كتبتها قبل تلك الواردة في “صوت التراب”، لم أنشرها إلا في “حماقات السلمون” والبعض منها لم أنشره حتى الآن، ليس لشحنتها السياسية الطاغية، ولكن لعدم تناغمها مع المجاميع الثلاث، رغم أنني نشرتها في جرائد، مثل “هذيان شهريار في خليج الحرب”، و”مطر أيار البليغ” و”رائية أهل الكهف والضوء” وهي نصوص طويلة نسبيا وقد أنشرها لاحقا في ديوان.
في “صوت التراب” انتقيت له آخر ما كتبت في تلك الفترة من التسعينيات. وبعد ست سنوات جاءت مجموعة “حماقات السلمون” وقد اخترت لها نصوصا كتبتها مع بداية الألفية الثالثة وأضفت لها نصا على الأقل سبق أن نشرته بجريدة المسار الثقافي في أواسط التسعينيات هو “بيانات للحزن والفرح”، وكان الاختيار قائما على أساس نوع من التحاور والتفاعل مع نصوص الشاعر عبد العاطي جميل الذي تبقى هذه التجربة المشتركة معه منحوتة في الذاكرة والتجربة معا. وفي 2013 صدر لي ديوان “رماد اليقين” وأغلب نصوصه كتبت في المرحلة ما بين 2006 و2013، ومنها نصوص قليلة كتبتها قبل النصوص الواردة في “حماقات السلمون”. ما أريد قوله هو أن كل مجموعة من المجموعات الثلاث تتضمن وتتجاوز في نفس الوقت ما قبلها، فليس هناك قطائع بينها ولكن هناك امتداد وتجاوز.
4. كيف هي طبيعة الأشياء والأمكنة والأزمنة وقضايا الحياة والموت والفرح والحزن والماضي والحاضر والمستقبل في الدواوين الثلاثة المشار إليها آنفا ؟
تتحول الأشياء والأمكنة والأزمنة وقضايا الحياة والموت والفرح والحزن والماضي والحاضر والمستقبل في تجربتي المتواضعة إلى حيوات وكائنات تتنفس في القصيدة وتتعالق مع بعضها في اللغة لتقدم شهادتي على العصر.
5. هل – مازال – بإمكان الشعر أن يشكل سلطة مقاومة وممانعة في وجوه الفساد والاستبداد والتخلف والفقر والجهل والمرض ؟ أم بات في وقتنا الراهن مجرد قناة ضيقة لتصريف هموم الشعراء الذاتية وتطلعاتهم الصغيرة ؟
كان الشعر في الماضي البعيد لسان وصوت وضمير قبيلته، وفي العقود الماضية لعب في الغالب دورا مشابها إلى حد ما، حيث كان لسان وصوت وضمير حركات التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار والإمبريالية، ثم أصبح لاحقا لسان حزبه أكان في السلطة أو المعارضة. لكن اليوم لم تعد الأحزاب في حاجة إلى الشعر والشعراء، لأنها ترتاب وتتحفظ من الشعر، ولم يعد الشاعر – وقد فتحت قنوات التواصل الكوني على مصرعيه بين يديه الهشتين – في حاجة إلى مظلة وهو العدو اللدود للانغلاق والقيود والانتماء الضيق والأعمى.
الآن، اعتقد أن الشاعر مطالب بأن يكون صوت العالم ولسان الإنسانية وضميرها، متموقعا في نفس خندق الحرية والسلام والعدالة والكرامة والازدهار لكل البشرية، وضد الظلم والقهر والإقصاء والاستعمار والاستغلال والفساد من أي كان وفي أي مكان وزمان. على الشعر اليوم أن يكون صوت ولسان الإنسان فيه.
هناك من يرى من النقاد، والقراء أيضا، على أن “الرواية” أقدر على استرجاع الماضي لتفكيكه وإعادة صياغته على نحو مفيد، وعلى محاكاة الواقع والدفاع عن حق الإنسان في الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة من “الشعر”.. ولعل حجتهم، في ذلك، تتكئ على قوة انتشار الرواية عالميا، وارتفاع منسوب الاهتمام بها اقتناءً وقراءةً وتحويلاً إلى خيال درامي وسينمائي.. كيف تنظرون إلى هذا الرأي وحجته ؟.
يستند هذا الموقف على حقيقة نلمسها في الواقع، فالرواية توفر مساحة أوسع للتعبير عن مشاغل واهتمامات الكاتب، كما أن دور النشر والجوائز تمنحها الأسبقية وتمنحها جاذبية استطاعت أن تستقطب إليها العديد من الشعراء من بينهم مغاربة، بسبب الإقبال عليها، لكن ذلك لا يمكن أن يشكل بتاتا للبعض سندا كافيا لإعلان موت الشعر أو التقليل من أهميته في حياة الأفراد والمجتمعات، لأن الشعر سيضل حاضرا وفاعلا رغم كل التحولات التي يعرفها العالم.
6. كيف تقرأون الشعر المغربي ؟ وإلى أي شيء تعزون الانبهار بالشعر المشرقي ؟ وما هي العقبات التي تقف في وجه الامتداد المغربي على مساحة الشرق الشعرية ؟
اعتقد أن الشعر المغربي بخير، يعرف حركية متواصلة على مستوى الكتابة والنشر، مغتنيا بجديد مختلف أجياله واتجاهاته، وطبعا فالوضع لا يخلو من كتابات لا علاقة لها بالشعر، لكن حاجة المطابع إلى السيولة يجعلها تنشر أي شيء تحت يافطة الشعر. أما ما تسميه بالانبهار المغربي بالشعر المشرقي فقد تقلص كثيرا عما كان في القرن الماضي، والدليل على ذلك الاهتمام المتزايد لدور نشر شرقية بنشر الشعر المغربي خلال السنوات الأخيرة.
7. هل تعتقدون أن الحركية النقدية المغربية تواكب – بنجاح – حركية الإبداع الشعري ؟
من الصعب القول بأن الحركة النقدية المغربية، تواكب حركية الشعر المغربي بنجاح، فالكثير من الإصدارات الشعرية لا يلتفت إليها النقاد، رغم أهميتها. لكن بروز أصوات نقدية جديدة يخفف من ذلك النقص الكبير في المتابعة النقدية ويجعل الأمل معقود عليها للنهوض بالحركة النقدية الشعر المغربي.
8. نأمل منكم إبداء رأيكم – في جمل مقتضبة وشديدة الاختصار – حول أسماء الشعراء الآتية:
عبد الرفيع الجواهري ؟
شاعر وصحفي مغربي تعلمنا منه كثيرا في المجالين.
مليكة العاصمي ؟
شاعرة مغربية وفية لتوجهها في الكتابة والحياة.
حسن الأمراني ؟
شاعر مغربي له توجهه المحترم في الكتابة الشعرية.
حسن نجمي ؟
شاعر وصحفي مغربي، صديق عزيز يواصل بنفس حيوية الشباب عطاءه.
إدريس علوش ؟
شاعر مغربي من نفس جيلي، صديق جمعتنا العديد من الذكريات واللحظات واللقاءات الجميلة.
الشاعرة فتيحة النوحو ل “طنجة الأدبية”: في غياب النقاد يقوم الشعراء والصحفيون بالمتابعة النقدية لشعري ولشعر غيري
1. إذا حاولنا تقديم تعريف مغاير عما يعرفه القراء عن الشاعرة فتيحة النوحو: فمن أي زاوية يمكنك فعل ذلك ؟ وكيف نفصل بين الإنسان والشاعرة من داخل كينونتك الوجودية ؟
قد أقول أنني ذات قلقة وان لم يكن ما يستدعي ذلك، بوهيمة الهوى، عبثية المعنى، صادقة في أنسنة الحياة، متوجسة من الآتي والماضي.. بالنسبة لي أنا لبوس من الغموض.
2. من بَاغَث الآخر في الإعلان عن هويته: الشعر أم الشاعرة ؟ بمعنى هل كانت لك علاقة بالشعر قبل أن تكتشف الشاعرة بداخلك؟ أم أن شاعريتك أجبرتك على ارتياد عيون الشعر وبحوره ؟
هوية الشاعرية لدي كانت تتراءى في اللامبالاة والجحود الذي كنت اشعر به تجاه الحاضر، لكن لم تكن لدي موهبة الشعر منذ نعومة أظافري، بل ما كان شائعا هو تقليم الأظافر والأجنحة، وهي السبل التي كان يسلكها المجتمع آنذاك في ترويض الجانحين عن صراط العشيرة، لكن طبعا لم أكن لقمة طيعة لهذا المنع، فالتمرد صاحبني إلى أن تبدى وترجم نظما.
3. ما هي طبيعة السياقات المختلفة التي أتيت، من خلالها، بديوان “إليك أيها الظمأ كل هذا الارتواء” أولا، ثم بديوان “لن يستلنا العدم” ثانيا ؟
الظمأ رويت به شبقية الحروف في علاقتها باستيهام المجاز، وهذه العلاقة كان العدم فيها من وحي الرماد الروحي الذي عشته قبل ان ينفجر النص الذي تفتتح به الأضمومة والمعنون ب ” هل من رحيل محتمل؟” طبعا هو تحدي لليأس الذي هو في النهاية موت مجازي.
4. بماذا يختلف هذان الديوانان الشعريان ؟ هل يتمايزان من حيث اللغة؟ أو من حيث الانشغالات الإنسانية؟ أو من حيث ما احتواه أحدهما، بخلاف الآخر، من التنبؤات الاستشرافية ؟ وهل هما تعبيران عن مرحلتين مختلفتين في التعبير الشعري عند فتيحة النوحو؟
اجل يختلفان في اللغة بين ايروتيكية “إليك أيها الظمأ كل هذا الارتواء” وروحانية “لن يستلنا العدم” فالكتابة انشغال لا واعي بانفعالات باطنية في علاقتها مع الانا والانا الاعلى، وبخلفيتك النفسية والفكرية والثقافية التي هي في صيرورة، وفي حالة تغير حسب المرحلة، طبعا، يتم تدبير ذاك النزاع الداخلي ليُقذف في هيئة نص شعري او سردي.
5. بعد الديوانين الآنفي الذكر، فاجأتنا الشاعرة النوحو بمنتوج ثالث تم توسيمه بالعنوان الآتي “غبن أن نهوي”.. لكن الملاحظ أن هذا المولود الإبداعي الجديد فَضَّل أن يؤسس لغته بمنطق السرد بعيدا عن لغة الشعر الانسيابية.. كيف تم الاهتداء إلى ذلك؟ وهل يمكننا أن نقول: أن لغة الشعر قد تعجز في بعض الأحيان عن بناء مواقف إنسانية ما، لذلك “يَفِرُّ” الشاعر إلى شكل آخر من الكتابة؟ ومنطق مغاير للتعبير عما بداخله ؟
غبن أن نهوي ينطوي على السرد الشعري، لم اتخلص من اللغة الشعرية في كثير من الصفحات لكن طفت لغة تنطوي على بعد سياسي في بعض المقاطع، ربما يعزى هذا الأمر لتكويني الأكاديمي في مجال العلوم السياسية. لكن ما يمكن الجزم به هو أن نية السرد لم تكن واردة.. ربما لان البوح كان اكبر من حجم البناء الشعري المختزل والمكثف.
6. ما هي الأسماء الشعرية التي كانت ذات تأثير إيجابي على ذاتيتك الشعرية ؟
لم أقع تحت تأثير أحد. نعم قد أتهم بالغرور، لكن اعتبر نفسي كائنا ليس سهل الانقياد، اطلع على ما استطيع من التجارب الشعرية، فأستمتع بالكثير منها، و قد تدهشني اخرى، وأتذمر من بعض الكتابات التي لا علاقة لها بالموهبة، لكن عندما اكتب نصا فهو يشبهني.
7. كيف تعامل النقاد المغاربة مع أعمالك الشعرية ؟
لا اذكر أنني قرأت مقالا موقعا من قبل أحد المشتغلين بالنقد، لكن كل ما يكتب عن شعري وشعر غيري هو عبارة عن قراءات لكتاب شعراء وصحافيين عرف عنهم اهتمامهم بهذا المجال، ومتابعتهم للمشهد الثقافي المغربي عموما.
بيت ابي الطيب هو :
وهكَذا كُنتُ في أهْلي وفي وَطَني إنّ النّفِيسَ غَريبٌ حَيثُمَا كَانَا
وليس كما جاء في المقال .وشكرا.