الفصل فصل الصيف، واليوم يوم عطلة، على عتبة منزل الجيران يجلس محسن ويوسف، يتبادلان أطراف الحديث، يتحدثان في كل شيء، ولايعرفان أي شيء، كلاما صافيا بعيدا عن الحياة ومشاكلها، وفرح يغمرهما، في الكُتاب الصيفي كان لقاءهما، ومن هناك بدأت صداقتهما، يمر الأب عليهما على غير عادته، مع ابتسامة علت محياهما، وقلق ملأ خواطرهما، مرت الساعات والدقائق، فبدأ اللون الأرجواني الممزوج بالأزرق يلطخ كل شيء، فتفرقا إلى حال سبيلهما، على موعد مع الغد…
في وقت تنفس الصبح، دحرجة من سطح المنزل لأسفله، وخفقان للقلب وتسارع لضرباته، أحس بهزة رهيبة من أخمص قدميه حتى أوقفت شعيرات رأسه، فتح الباب وركض في اتجاه المجهول، توقف لهنيهة وحدد الوجهة، فلم يجد غير منزل الخال وجه .. لم يكن قد أفاق تماما، فاختلط المشهد بكابوس استيقظ منه لحظة النداء والصراخ، رأى نفسه في الحلم وإخوته يهوون من شاهق لا قرار له، كان يرتعد ثم سمع مناداة أمه عليه. قرع للباب بسرعة، ودق للجرس، ومناداة بأعلى الصوت، هلع تملك الجميع، استيقظ المنزل برمته على صوت الطرق المحموم، طرقات على الباب مع صوت مذعور؛
– من يقرع الباب بهاته الطريقة !! لا أحد يعرف ماذا يحدث؟ أم ماذا وقع؟
ينتفض الخال وأولاده من مضاجعهم، متوجهين نحو الباب. حالته دالة على كل شيء، كل عضلاته ترتجف، كما ترتجف ورقة في شجرة هبت عليها رياح الخريف، ووجه شاحب، اختفت منه البسمة، مطرقا إلى الأرض وقد اغرورقت عيناه بالدموع وعلقت كلماته، ثم ارتمى في حضن خاله مجهشا بالبكاء، انفجر الحزن، وزلزلت الصدمة زلزالها، وأرعد في المنزل صوت النحيب …
الثامنة والنصف صباحا؛ ومناد يناد ويدق الجرس، ردت الأم وأخبرته أن ولدها لايزال نائما .. يستيقظ متأخرا كعادته، وتخبره بمجيء صديقه في وقت مبكر على غير عادته، يخرج من المنزل باتجاه بيته، أفكار من هنا وهناك، ويتساءل في نفسه ما السبب الذي سيأتي بصديقه مبكرا، يلمحه وسيماء الحزن والألم علا وجهه البرئ …
توجه نحوه والدمع يملاء مقلتيه، عينان مبللتان تعبران عن حزن دفين فيهما، أحس وكأن الدنيا تدور من حوله، وقف مذهولا مشدوها، أسرع في اتجاهه، شده والأسى يقطر من نبراته الحزينة:
– لنتحرك من هنا، أُفضل المشي لعلي أجد منه راحة …
شعر بقلبه يثب إلى عينيه ويسيل دموعا كحبات الجمان، رقراقة على خده الصغير، لازال لحد الآن لم يستوعب ما حصل، وهل ما وقع حقيقة ! أسئلة كثيرة تدور في رأسه، راح يمضي في الغابة الكثيفة من علامات الاستفهام، وكل سؤال تتصدع له الجبال الرواسي، يجاوره يوسف وهو منصدم مثله، هل من شارح يشرح ما حدث ! أم هل من موقظ يوقظه من هذا الكابوس !! ويفتح عينيه على صبح مشرق والفرح يعلو وجهه، استغرقا في المشي؛ فهو المتنفس الوحيد للتخفيف من بعض الضغوطات، ابتعدا كثيرا عن المنزل، لم يرهقهما التعب، إنما وجب عليهما الرجوع كي لا يكون الألم آلاما، وينشغل بال أهلهما عنهما …
استغرقنا في المشي ولم أخبرك يا يوسف بما حصل ! لقد مات أبي ! كان الصخب يملأني وأنا أسمع محسن، توقعت أن أسمع كل شيء إلا خبرا صادما كهذا، انهارت كل القصص التي نسجتها، كان لهذه الكلمات المعدودة وقع الصاعقة علي، واجما مرتعد الأوصال في مكاني، في محاولة مني لعدم تصديق ما قاله .. بالأمس رأيته فكيف يموت اليوم !! وهل الموت قريب إلى هذه الدرجة !!
استيقظت على صراخ أمي و بكائها، وهي تطلب مني أن أصعد إلى سطح المنزل، فأنا الابن الأكبر، رغم صِغر سني، لأرى مشهدا ليس كباقي مشاهد الحياة .. كيف للحياة لها أن تذيقنا مرارتها ونحن لم نعلم بعد ماهي ! سمعنا سابقا عن الموت، ولكننا لم نره من قريب ولا من بعيد يدخل دارنا، بالأمس عندما رأيناه وهو خارج من المنزل، كان ذاهبا ليشتري حبلا، فبعد حادثة السير التي كانت وقعت له، تدهورت صحته وعانى بعدها كثيرا، ليقضي سنوات ليست باليسيرة تحت الرعاية الطبية، ومنذ ذلك الوقت لا يخرج إلا برفقتنا، تحت مراقبة أمي، ومراقبتنا جميعا .. أما إذا خرج وحده فتراه يوزع المال على كل من يلتقي به، وبالكاد يتذكر مقر سكناه، مؤخرا استبشرت أمي بحالته خيرا، وظنت أن حالته قد تحسنت، بعدما توقف عن تناول الدواء، فسمحت له بالخروج .. ليغادرنا من غير وداع …
مسح الدموع الساخنة المترقرقة على خده بظهر كفه، ازدرد ريقه ثم استدرك يقول؛لم أسمح لإخوتي بالصعود إلى سطح المنزل ليروا ذلك المنظر المريب؛ يكفي أني رأيته جثه هامدة والحبل ملتف حول عنقه وحفر في ذاكرتي ذاك المشهد .. لازالوا لحد الآن لم يستوعبوا ما حدث، شاردين في ركن المنزل، والدار في اضطراب، تعج بالمعزين، الكرب يزلزل الصدور، والحزن والأسى باديان على الوجوه، حاصرنا الهم والغم مبكرا، وقذفتنا رياح اليأس إلى دهاليز مجهولة.
فريد الخمال