*** من الأشياء والأمور التي دأب كثير من الوزراء على نهجها بمجرد تحملهم لمسؤولية تسيير قطاعاتهم الحكومية، هو الإعلان عن برنامج عمل مكثف وشديد التفريعات والتدقيقات والتجزيئات، بما يصعب معه – ولو كان الأمر يتعلق بعقل إنسان يجيد ويحسن بيسر وطلاقة حل المعادلات المجردة أو المعقدة أو الملغزة – استيعابه والإلمام بماهيته وتفاصيله ومراميه.
والواقع، فإن هذا التكئيف ليس أمرا اعتباطيا وإنما هو محاولة مقصودة لسد الطريق على كل من يحاول ملاحقة هذا البرنامج أو ذاك بالنقد والتقييم والتقويم، ولعل وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي أحد هؤلاء الوزراء الذين استهوتهم لعبة التكثيف والتلغيز وهو يحضر لمشروعه حول الثقافة ببلادنا.
وقد بدا ذلك واضحا في ميزانية قطاعه برسم سنة 2013 التي قدمها أمام مجلسي البرلمان في الآونة الأخيرة، حيث تحدث عن استراتيجية ما أسماه بـ”المغرب الثقافي” ثم انتقل إلى مشروع “التراث 2020″ وبعده إلى ما أسماه بـ”الصناعات الثقافية الإبداعية” وختم مشاريعه الضخمة والمكثفة بمشروع رابع عنونه بـ”منهجية جديدة للشراكة”.
وبين كل هذه المشاريع المتفرعة من حيث الآليات والإطارات العامة والمنظومات القانونية والمنطلقات والإجراءات والأهداف، تتيه المناقشات والسجالات بعيدا عن واقع الثقافة المريض والمثخن بجراحات وندوب الحكومات السابقة.. ونعتقد في هذا السياق أن الوزير الصبيحي كان يدرك جيدا وهو يعرض مشروعه المكثف، أن هدفه السامي هو تعويم النقاش بعيدا عن القضايا الجوهرية المتعلقة بالثقافة، كمسألة المرجعية الثقافية وهويتها، ومسألة الدعم المالي واللوجيستيكي الممنوح للجمعيات الفنية والمسرحية والتظاهرات والمهرجانات الموسيقية والترفيهية، والآخر الممنوح للمجلات والدوريات والمواقع الثقافية.
بل إن إصرار الوزير الصبيحي على إثارة النقاش فقط حول مفاهيم فلكلورية من قبيل ثقافة القرب، ودعم القراءة والكتاب، وبناء المكتبات العمومية، وتشجيع الأنشطة التشكيلية، إنما هي محاولات يائسة ومكشوفة، للهروب من موضوع “كيفية تصريف المال العام وإنفاقه على المرافق الثقافية”.
إن الريع الثقافي هو أكبر المعضلات التي واجهت عملية إصلاح القطاع الثقافي، وفي غياب الإرادة السياسية، ويقظة الضمير التنفيذي، سيظل هذا الريع مصدر إخفاقات متتالية لأي برنامج عمل مهما كان مكثفا ومركزا، ونعتقد في هذا الصدد أن بعض وزرائنا في الحكومة الحالية لا يحسنون سوى فن الكلام، وإطلاق الشعارات، والإعلان عن مشاريع ضخمة ولكنها غير قابلة للتطبيق.. وأملنا أن يكون محمد الأمين الصبيحي واعيا بهذا الأمر، ومستعدا بالعمل والحركة والضمير المهني على تفنيده ودحضه.. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
طنجة الأدبية