*** هل نقول أن وفاة محمد عابد الجابري هي وفاة للعقل العربي؟
قد يكون السؤال «صدمة» ولدها خبر الوفاة.. وفاة مفكر عربي ارتبط إسمه بالعقل، واشتغل على العقل، في سبيل صناعة عقل جديد، مازالت الأمة العربية والإسلامية تحتاج إليه، راشدا متنورا مبدعا ثائرا جسورا مجتهدا.
ماذا خسر المغرب والوطن العربي برمته، بوفاة هذا الصرح المعرفي والفكري المترامي في العرض والطول؟
ألم يكن حريا بمؤسساتنا الرسمية أن تعلن الحداد لمدة ثلاثة أيام حزنا وألما على رحيل هذا المفكر النادر؟ بدل الاكتفاء بقراءة الفاتحة على روحه تحت قبة البرلمان؟
أليس من الجميل والعرفان، أن نتساءل حول من ستناط به مهمة الحفاظ على مشروع الجابري النهضوي، والعمل من داخله، والاجتهاد من خلال إيقاعه المنهجي، ورؤيته الفكرية، ومقولاته الواعية الاستراتيجية؟ نحن هنا لا نعني شخصا بعينه، ولا نرمي إلى البحث عن تلامذته.. وإنما قصدنا إنشاء مؤسسة علمية تحافظ على التراث الفكري الأصيل والمتجدد الذي أنتجه الجابري، وتعمل على تطويره وفق مستجدات الفكر الإنساني وتحولاته المتصاعدة، وسيرورته المنتظمة الخلاقة.
لقد فقدنا في رحيل محمد عابد الجابري عقلا جبارا، كان يمدنا بالعون في معرفة أسباب انحطاطنا، وشروط إقلاعنا..
في معرفة ذاتنا، والخروج بها من الأزمة والاكتئاب الحضاريين..
في الوعي بوجودنا، وإعادة كشف مداراته ومعاركه..
في صياغة السؤال، واستشراف دهاليزه ومسكوتاته وتجلياته..
في فهم السياسة، والاستفاقة من وهمها..
في التمسك بخيار المواطنة، والصمود في وجه العبودية والاستبداد والرجعية..
فقدنا برحيل الجابري الوعي بلحظات التأسيس والانخراط في لهيب معارك الانتماء والتحرر الفكري والسياسي والاجتماعي..
بيد أن ما نخافه ونتوجس منه، هو أن تبتلع آلة النسيان هذا «السور العظيم» من الأفكار الجيدة والعميقة، كما ابتلعت بالأمس روادا آخرين كمحمد عزيز الحبابي، والمهدي بنعبود، والمختار السوسي، ومحمد الفاسي، وغيرهم من الذين خلدوا المغرب في ذاكرة التاريخ والشعوب والدول.. رغم أننا مقتنعون بأن الجابري أكبر وعصي عن أي محاولة لتغييبه كفكر ومشروع ومنهج.. بل لأنه ليس حفيد ابن رشد، وإنما هو ابن رشد زمانه.. ولأنه أحيا العقل العربي بعد اضمحلاله وذوبانه.. ولأنه عقل حي مليء حد العطاء.. عقل رغم وفاة صاحبه يأبى الفراغ، ويرفض الانصياع لسكون الموت…
رحم الله محمد عابد الجابري..
طنجة الأدبية