من بين أكثر الآلات الإيقاعية ارتباطًا بالوجدان الجمعي للأمازيغ، يسطع البندير كرمز لا يُختزل في مجرد أداة موسيقية، بل كصوت يحمل في نبضه صدى الطقوس، ومرافئ الحكايات، وتنهيدات الجبال. فالبندير، الذي استقر في القلب النابض للثقافة الأمازيغية، يمتد عبر الحضارات والخرائط، ليصبح واحدًا من أعرق تجليات الطبل الدائري في التاريخ الإنساني. هو آلة بسيطة في بنيتها، معقدة في دلالتها، تتردد في الأعراس، والجنائز، والرقصات الجماعية، وفي مواسم التعبّد والتصوف، مؤدية بذلك أدوارًا جمالية وروحية واجتماعية لا تُحصى.
البندير في الثقافة الأمازيغية: هوية تتكلم بالإيقاع.
في المغرب الكبير، وخاصة في مناطق سوس والأطلس والريف، يشكل البندير أحد الأعمدة المركزية للطقوس الاحتفالية. ويؤكد الباحث المغربي محمد شفيق أن “البندير ليس فقط طبلًا، بل لسان الجماعة حين لا يكفي الكلام للتعبير”، ويضيف أن حضوره في طقوس “أحواش” و”أحيدوس” و”العيساوة” و”كدرة” و”ركادة” و”لعلاوي” وغيرها، دليل على مدى رسوخه في الروح الأمازيغية.
إنه ليس أداة فنية فحسب، بل وعاء لذاكرة جماعية؛ تنقر عليه النساء في المناسبات الدينية وطقوس الزواج والخصوبة، ويواكب به الصوفيون جلسات الذكر. وهو، بحسب الإثنوموسيولوجي الفرنسي جيل لومون، “ينتمي إلى الفئة الآلاتية التي تُستعمل لا للموسيقى وحدها، بل للطقس العلاجي وللتأثير في الجسد والنفس.”

دلالات رمزية: البندير بوابة بين العوالم.
البندير دائري الشكل، وهذه الدائرة ليست محض مصادفة شكلية، بل هي، كما يذهب الباحث حسن الورديغي، “صورة كونية تتكرر في الثقافات الطقسية منذ فجر الإنسان”، فهو يحاكي دورة القمر، وعجلة الزمن، ويُمكن أن يُقرأ كبوصلة روحية تشير نحو المركز، أي نحو الذات.
وقد ارتبط البندير في المتخيل الأمازيغي بقدرات طقسية شافية، وبدور نسائي لافت؛ إذ إن النساء غالبًا ما يكنّ حاملات هذه الآلة في طقوس “الطْلْبة” و”التبريك”، في مشهد يزاوج بين الجماليات الصوتية والطاقة الكامنة في الأنوثة كرمز للخصب والتجدد.
البندير في الثقافات العالمية: صوت يعبر الحدود.
لا ينحصر البندير في جغرافيا المغرب أو الأمازيغ وحدهم، بل يمتد عبر حضارات المتوسط مرورًا بالهند، والأمريكيتين، والدول الإسكندنافية، واليابان وغيرها، حيث يُعرف بأسماء متعددة مثل الـ frame drum في الغرب، و”الدف” في العالم العربي، و”الريكا” في الأناضول.
وقد عثرت الحفريات الأثرية في بلاد الرافدين ومصر القديمة على نماذج للبندير في أيدي نساء وموسيقيين، مما يدل على عالمية هذه الآلة وارتباطها منذ الأزل بالطقوس، لا سيما الطقوس المرتبطة بالخصب والموت والإنبعاث.
يقول المؤرخ جون كريستوفر راسل في كتابه Origins of Ritual Drums: “الدائرة التي تصنع منها الطبول الإطارية ليست مجازًا فحسب، بل استعارة بصرية للانبعاث، ترددها النساء في لحظات التبدل الروحي.”
من الإيقاع إلى الهوية: البندير كتوقيع ثقافي.
في زمن تتداخل فيه الهويات وتُستلب فيه الرموز الثقافية، يظل البندير علامة مقاومة للزمن. فبينما تتحول بعض الآلات إلى مجرد فلكلور سياحي، يبقى البندير في الثقافة الأمازيغية محتفظًا بدوره المزدوج: أداة للفرح وللصمود.
ولقد اشتهر الجنود المغاربيون الشجعان، إضافة إلى بسالتهم في أرض المعارك، برقصات أحيدوس وطريقة القرع على البندير إبّان الحرب العالمية الثانية، بحيث حملوا معهم ثقافتهم وأهازيجهم إلى شمال إيطاليا وأوروبا.
واحتفظت النساء في الريف بالبندير كحامل للهوية واللغة وآثار الأجداد.
وهو، كما ترى الباحثة الأمازيغية فاطمة إيمدياز، “نواة سردية تعبر عن صوت الأرض، حين تعجز الكلمات عن حمل الحزن أو الشوق أو الرغبة”. لهذا ليس غريبًا أن نشهده في جميع المشاهد الثقافية الأمازيغية، وأن يُستخدم في المسرح والموسيقى المعاصرة كأداة للتعبير عن الهوية المهددة.
البندير في الفن التشكيلي: من الإيقاع إلى التشكيل.
في حقل الفن التشكيلي، أخذ البندير مكانته بوصفه رمزًا بصريًا ذا دلالة عميقة. فالشكل الدائري الذي يميّزه استُثمر في لوحات فنية عديدة كعلامة على التكرار الإيقاعي للزمن، وكنافذة إلى الروح الجماعية التي يحملها. كثير من الفنانين الأمازيغ المعاصرين يستلهمون البندير ليس فقط في مواضيعه، بل في بنياته التركيبية، حتى بات يُستحضر ضمن التركيبات التشكيلية كـ”دائرة مقدّسة” تعانق اللون والصوت والذاكرة.
وقد رسم بعضهم نساء يحملن البندير في لحظة نشوة روحية أو طقس احتفالي، ليُجسد بذلك البعد الجمالي والسيميائي للأنوثة المرتبطة بهذه الآلة. أما آخرون فقد حوّلوا البندير إلى منحوتة دائرية أو كولاج صوتي بصري، معتبرين أن “الإيقاع يمكن أن يُرى كما يُسمع”، وهو ما يمنح الفن التشكيلي مدخلًا جديدًا لفهم الصلة بين الموسيقى واللون، بين الجلد والخط، بين الصوت والتجسد.
حين يتكلم الجلد والخشب باسم الذاكرة
ليس البندير آلة، بل كائن صوتي حي، يدق على جدران الذاكرة، ويذكّرنا أن الموسيقى ليست فنًا فقط، بل نمط وجود. في الثقافات الأمازيغية كما في غيرها، يصبح البندير بمثابة “أرشيف إيقاعي”، يُشركنا في طقس جماعي من الحنين والتجدد.
وحين نُنصت إليه، فإننا لا نسمع مجرد إيقاع؛ بل نسمع صدى الجدات، ودقات الأرض، ونبض من عبروا قبلنا وما زالوا يغنون داخلنا.
“حين يدق البندير، يصمت العقل، ويتكلم الجسد.”
ـ من حكمة أمازيغية قديمة .

فنان تشكيلي وباحث في الجماليات
منير بنرقي – المغرب
فنان تشكيلي وباحث في الجماليات

