بلوحاتها الحالمة، التي تطرح أكثر من سؤال، تكون الفنانة التشكيلية المغربية آمال الفلاح، قد فتحت شرفة فلسفية وابداعية للبوح الأنيق، لتترك الصورة بكل تجلياتها السيميائية تحكي الف حكمة وحكاية، وهي بذلك تحرض المتلقي على استكمال طرح السؤال، وتشويق القصة الى النهاية.
قصص لوحات الفنانة آمال الفلاح، التي عرضتها بمعارض فردية وجماعية كثيرة، تنكتب لوحدها بهيروغليفية لونية، فيها فيضا من الصمت والخرافة والأسطورة والحلم، بقطف فراشة من أعالي ليل ساهر، والانتشاء بقمر مضيء حتى اخر الفجر.
قصص لوحات الفلاح، ذاكرة مشبعة بنوع من المعاناة، والآهات، والجراح، والانكسارات، والكبوات، كمهرة تجري باتجاه المستحيل، ثم تسقط في اخر المحطات، حين تصهل احصنة مطهمة في الجوار.
المهرة، التي تنبض بالحرية والعنفوان على صهوة قصائد موحية، يمتطيها فارس بلا لجام، يطوف بقاع الأرض بحثا عن الخنساء التي كانت هنا، وعن ولادة بنت المستكفي التي حيرت شعراء الأندلس، فجاءت معها القصيدة مطيعة رقيقة، كفراشة تتهادى في رفتها كأنها سحر ملاك.
لوحات آمال الفلاح، من خلال سيمفونية الصمت التي عرضتها مؤخرا بالدار البيضاء، مواويل آسرة لها رنين الحنين والحب والسعادة، وميض أمل يشع في الزاوية الخفية من درب الابداع الجميل، انها باختصار اشعة لونية تبهر العين وتأسر الفؤاد، وحين يتاملها المتلقي، تضيء خصره فيشتهي بعدا لذة الحياة.
فنانة تتمرد على الواقع والمستحيل
انها نوع من سحر الذاكرة البصرية، التي تتفاعل معها روح آمال في كل وقت وحين، انها استنباث لشخوص لطيفة اسطورية، تعيش فيضا من البوح الهلامي، والسحر الشعري والجمالي الذي من خلاله تتمرد الفنانة على الواقع والمستحيل.
انها كائنات، لونية توجدها الفلاح على مقاس حلمها في أزمنة وامكنة محددة، انها اشراقات بهية، لروح انثوية، تحلم بان تصير حمامة تارة ، واخرى فراشة، وفي كثير من الاحايين كتابا مقدسا تتلوه على عشاق الحياة.
انها لوحات ساحرة من قديسة مبدعة تعرف لوحدها متى تلج محراب الابداع اللوني، لتصنع فيه ابهى اللحظات، واروع الكلمات التي تعلقها وشاحا انيقا على جيد اعمالها في كل معرض سواء في الدار البيضاء او مراكش او غيرهما.
هكذا هي اعمال آمال الفلاح، التي ترسم بكل فعوية وتقنية مجددة، وفي رسمها الف سؤال وسؤال، ونوعا من الحكمة الفنية التي لا يدركها الا الفنانون والنقاد الاذكياء، حكمة تخيط من العراء، ملسا لعناق الطبيعة بكل النقاء الروحي، الذي لا يخطر على بال.
الجسد في اعمال آمال الفلاح، تيمة فلسفية، لها فيض شخوص وكائنات غرائبية وواقعية في الان نفسه، انها على كل حال تفصح عن احاسيس ومشاعر توقض في المتلقي نبرة السؤال والتأويل، عما تحلم به تلك الكائنات الموغلة في الابهام والغموض، وعما تريد ان تعبر به الفنانة.
تلك اذن خصلة شعرية، توحي اكثر ما تقول الحقيقة، وتلقي باشاراتها الجذابة في بحر فلسفي، يصوغ من صوفية المعنى رموزا، بها تخيط الفنانة المجددة قشيبا تلبسه زينة في اخر الليل حين ينام الصبيان، فيحلو الرسم والسهر.
عوالم انثوية ساحرة
تلك الكائنات، التي يتماهى معها المتلقي حد الاشتهاء، صور ناطقة بالجمال، ايقونات فنية يلج عبرها الملتقى الى محراب السحر والتأمل، هي بكل اختصار نوافذ لوحات مشرعة على اريج حبق بري تعشقه العذارى في فصل الربيع وموسم جني الرمان.
بفضاء تلك الكائنات ما يشبه عطر الحناء، والقرنفل، ومساحيق لونية، تعشقها عذارى القبيلة حين تعدن من الحمام وبتلابيبهن عطر الورد، وفي المساء تتحول حضرتهن الانثوية الى عشاء احلام فيه الكثير من الرقص والحلم والفرح واريج الريحان.
بهذه الطقوس والمشاهد الفياضة بالحنين والأمل والحين، تكون الفنانة، قد صنعت من روحها الفنية، مجسما ابداعيا راقيا لواحدة من فنانات المستقبل، انها لا تريد ان تكبر في جلباب ابناء وبنات عمومتها في المجال، باسم التجديد في الفن التشكيلي، بل تريد ان تنطلق من عوالمها الانثوية الخاصة، للاحتفاء بجنس لطيف تدرك جيدا مشاعره ومعانيه وطموحاته، ونبض فؤاده حين يفرح وحين يغضب ويثور.
هكذا تفرد الفنانة آمال الفلاح، حيزا وافرا وبسخاء للاحتفاء بالمرأة في عز احاسيسها هنا وهناك، بكثير من الحس التحرري، الذي يعطي للمراة في زمن ذكوري قاسي، فسحة للحم والتعبير والانشراح.
ان لوحاتها في هذا السياق تشكل باكورة احلام ومشاعر سخية، وليتحول الجسد، الى رمز وايقونة ونسق فني، للتعبيرعن كثير من المواضيع والقضايا التي تؤرق هذا الجسد، وهذا الكائن الجميل والمقهور.
انه تعبير عن عوالم اسطورية، ترتبط ارتباطا وثيقا بشمولة عواطف كونية وإنسانية، واشكال هلامية تجسد معاني القوة والعنفوان والشهرة والطموحات.
ليس الجسد هنا، تعبير شبقي موغل في ظنون الخطيئة والغفران، وما يرافقها من حكايات تتبخر مع اطلالة الصباح، بل الجسد هنا، تعبير سوريالي وتجريدي، عن سحر الفنون، واثيرية الانسان، كانثى، في صنع الجمال، وقدرته على الحلم، وإنتاج المعنى، والتمرد على العادات والطقوس البالية، وإنتاج المعنى واخصاب الابداع برمته، من خلال تعدد قراءاته من قبل الجمهور.
تجريد لا يخطر على بال
انه نوع من العري الطاهر، الذي يتحدى العقلية الذكورية بكل تفاصيل الحلم الذي ينهض فيه ما خمض من مشاعر جياشة، وصهيل مهرات اسطورية لا تكبل احلامها قوة “الشكيمة” والقيود.
آمال الفلاح في حضرة هذه الفروسية الباذخة، تتحول الى فارسة تصول وتجول، تركب ارق الصهوات، “تتبورد” بريشتها بطريقتها القبلية كما تشاء، تعدو مزهوة بالشموخ في اتجاه المستحيل بالوانها الساحرة، لتطلق بارود خط النهاية بانتصار.
آمال الفلاح في لوحاتها تنتصر لقيم المرأة، بكل تفاصيل الحلم الذي يصنع منها فنانة من كوكب آخر، بهذا يتوحد الصهيل مع لغة الانتصار، والعري مع الطهر وبلاغة الحقيقة الكونية مع الجمال، كلغة تقارب الابداع بفيض من التجريد الذي لا يخطر على بال.
فلوحات آمال أحلام قصص تروى على صفحات حكاية شهرزاد وشهريار، ترقب على صخرة سزيف لاصطياد فراش تعلقه على معصم العزوبية، ركوب صهوات جياد مطهمة بحثا عن نخوة المجد وزهو الفروسية.
انها استراحة راقية على صحراء الروح، عناق مشوق لبياض الاحبة مهما كان الوصال مقطوع اللسان، انها رقصات باليه ممتعة، يذوب على شفاهها الدافئة، صقيع الوحدة القاتلة، في حلبة ليست كالحلبات.
لوحات آمال، الوان بنفسجية تفكر في مصير أمة، تبحث عن الحقيقة في كل اتجاه، حمامة ترفرف في الاعالي، فيما قرص الشمس معلق في الهواء كحبة برتقال، انه قلق يساور حبيبة الدرب القديم، حيث رحل فارس الاحلام الى ضفة الفردوس المفقود ولم يعد.
انها لوحات تتزين بلون الزمرد، وعروس بهيئة ملاك لها ظفيرة تمتد الى تخوم اخر الدنيا، انها انطلاق فني مموسق، تحت سوط الموج الأزرق الذي عذب بمطره عيون عبد الحليم، انها طقوس وعادات للتخلص من فوح الخطيئة، انها باختصار صناعة لجمال يتكلم في حضرة صمت الألوان والفنون.
كم لهذا الجسد من دفء وعنفوان
تلك اذن لوحات الفلاح، التي تشكل في قراءتنا العاشقة، تجسيد لطموحات تربط الجسد الفني لديها، بنسق القوة وملمح الفرح الانفتاح، انه اشبه بلعبة انثوية تبحث لها عن وميض مخلص على سطح القمر.
بهذا الكم الفائض لمعاني اعمال آمال الفلاح، يمكن اعتبار الفنانة المثقفة والمبدعة، رسامة خلاقة، ترسم وفي رسمها ترسيخ لثقافة مشروع فني وتشكيلي، ينتصر لقيم المراة، في ارتباطها بكيونتها وانسانيتها وصوفيتها، وجسدها العجيب، وبملمس الحرير.
انه بوح لوني، قادر على الانتصار على العقلية الذكورية المتسلطة في كثير من الأحيان هو نافذ مشرعة على عطر الحبق الذي يروق العذارى، لفنانة تدرك جيدا، كم لهذا الجسد من دفء وعنفوان، وحق في الحياة، ومن اشراقات فلسفية، لها الكثير من الجمال والحكمة والاسرار.
بهذا تظل المرأة في اللوحة عند الفلاح، حاضرة بعقلها وروحها وباحلامها وبمشاعرها، وبعاداتها في الزمان والمكان، وتبحث لها من خلال تلك التشكيلات من تحقيق نوع من المعادلة الموضوعية والانصاف في هذا العالم.
آمال الفلاح، برسمها لعوالم المراة في أوقات وامكنة محددة، فيها الكثير من بصمات العدالة الاجتماعية، والاحتفاء بهذا الكائن الجميل، كما ان الضغوط الاجتماعية والالتزامات، في ظل هذه الظروف التي يعيشها العالم، منح المراة المبدعة فسحات كبيرة للحلم والابداع والتحرر، فكانت اللوحة التشكيلية زاوية مضيئة لرسم كثير من المعجزات.
تجربة آمال الفلاح، لا يمكن مقاربتها بنوع من الابداع الواحد السائد، انها فنانة مشاءة بين الفنون، حيث تقنيتها التي لا تخلو من ابتكار، وهي تضيف الى صباغتها كثيرا من المكونات الطبيعية، فتاتي اللوحة طائعة وجميلة الى ابعد الحدود.
هي واحدة من الفنانات المجددات في المادة الفنية، لتكون اكثر تميزا، اذ يمكن اعتبارها فنانة بحس فلسفي تجريدي وسوريالي، وهو ما يمنح لاعمالها هوية مبتكرة، وبعدا كونيا ومفهوما خصبا للحياة بكل تمظهراتها الجمالية والابداعية الخلاقة.
الى هنا يمكن اعتبار آمال الفلاح، امل الفن التشكيلي النسائي المغربي، المنفتح على كثير من الدلالات والرموز، التي لا يمكن تصنيفها في خانة واحدة، ففي اعمالها، فيض سحر أخاذ، ومعاني تتجاوز الواقع والملموس، وعلامات تزهر بالورود والعطر والضوء، والسمر الذي تحلو معها أغاني الخلود.
المصطفى الصوفي