** قوة الإعلام ليس في وسائله التي تطورت كثيرا فحسب، وإنما، أيضا، في رسائله التي يصيغها بدقة، وتؤطرها خلفيات فلسفية أو أدبية أو أيديولوجية. لذلك لم يعد الإعلام اليوم، في المجتمعات التي تعمل على ترسيخ مفاهيم التربية على حقوق المواطنة، وتحفيز مواطنيها على الانخراط في مشاريع التنمية والتقدم بروح التطوع والتضامن الجماعي، مجرد عامل ترفيه، أو عنصر تسلية، أو مؤسسة فلكلورية هدفها تزجية الوقت.
إن دور الإعلام خطير جدا، وعظيم الأثر في خدمة المجتمع، وبناء الإنسان، وترشيد الدولة. إذ بات مكونا أساسيا لكل مجتمع يستجيب لخطابات التحديث والتطور والوعي الحضاري. ولا يُتَصور أن يحقق أي مجتمع معاصر نموذجه في التنمية والتقدم بمعزل عن الإعلام بمختلف وسائله التقليدية منها أو التكنولوجية الحديثة. وهذا الأمر يقتضي أن يندمج الإعلام في السياسات الحكومية أو أنشطة المجتمع المدني، أو يتم التحالف معه بما يحقق علاقة تفاعلية إيجابية في سبيل بناء آليات الكرامة والحرية والسلام والتعايش والتعاون بين أفراد المجتمع وجماعاته.
ولا يخفى على أحد أن الإعلام يعتبر، اليوم، من أكثر الوسائل مساهمة في إثارة المشاكل والفتن اجتماعيا، والحروب والأزمات سياسيا. كما أضحى سلاحا شرسا لا يهدأ ولا يتورع عن ارتكاب جرائم القذف والسب والتجريح والكذب والشائعة والزور والبهتان.
كيف إذاً يمكن للإعلام أن يكون مشروع نهضة أخلاقية وحضارية؟ وما هي السبل التي تجعله يتحول من أداة ارتكاب هذه الجريمة أو تلك، إلى أداة لتنمية الإنسان والمجتمع والدولة؟ إنها أسئلة معقدة ومهمة في آن واحد، قد تساعدنا على التفكير جديا في توجيه الإعلام وتحديد مساحة تحركه وانتشاره. فالإعلام لا يؤدي دوره بمعزل عن الإنسان ورؤاه ورغباته وتطلعاته وأهدافه، كما أنه ليس مؤسسة تشتغل خارج قواعد القانون وضوابط أخلاقياته المهنية.
ونحن هنا لا نتحدث عن الإعلام الرسمي الذي تتحكم في خيوطه الدولة، وتحرص على تسيره وفق خططها وأهدافها السياسية والأيديولوجية، وإنما نعني به، أولا وأخيرا، إعلام الخواص الذي يحتمي بمصالحه المادية والمالية والرمزية، ويراهن على إحراز تقدم داخل “مربع” الدولة للتأثير في قراراتها، أو الضغط عليها بما يحقق له التوازن في مواجهتها.
إن إعلام الدولة نادرا ما يقترف جرائم اجتماعية من سب وقذف وتجريح في حق الناس البسطاء، ولكنه، بالمقابل، لا يتردد في إطلاق الشائعات والبهتان في حق معارضي الدولة. وهو الأمر الذي يختلف عند إعلام الخواص الذي لا يراعي أي اعتبار أخلاقي أو ثقافي أو سياسي أو ديني أثناء إفرازه لممارساته المهنية، بحيث يمكنه أن يستهدف، إجراميا، راعي غنم ! أو فلاحا صغيرا !كما يمكنه أن يحارب بشراسة كبيرة رجل دولة أو فاعلا سياسيا بالحق أو بالباطل !لأن ما يهمه هو تحقيق الربح المادي المالي أولا، ثم خدمة أجندته السياسية أو الثقافية أو الأيديولوجية ثانيا.
وقد لا نجد مقياسا ملائما لإقامة علاقة تفاعلية بين القائمين على الإعلام والمجتمع، لكننا نستطيع أن نوظف الإعلام بشكل جيد لخدمة المجتمع، وبذلك نؤسس لعلاقة متينة أو مميزة بينهما. وتوظيف الإعلام لا يكون إلا بتعديل أدواره بتحويله من وسيلة ناجحة في إثارة المشاكل والأزمات إلى أداة مؤثرة في تخليق الحياة العامة والخاصة، ومراقبة المسؤولين في أعمالهم العمومية ومتابعة عوراتهم وإخفاقاتهم السياسية، ومناهضة العنف والجريمة بين الناس، والدعوة إلى الخير والفضيلة والأمانة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.. أي أن إقامة شراكة حقيقية بين الإعلام والمجتمع؛ بنوعيه السياسي والمدني، ينبغي أن تقوم على تمثل أخلاقيات المهنة خلال الممارسة الإعلامية في التغطية والكتابة والنشر، وذلك باستحضار الكلمة السديدة والعبارة الأمينة، والخبر الصادق، والمعلومة المستوثق بها، والحياد في التحليل والتعليق، والعدالة والنزاهة في إبداء الرأي، أو الحكم على الناس رمزيا، والإخلاص في بناء المواطن، وتنمية المجتمع، وترشيد الدولة.
وإذا كانت أهداف الإعلام والمجتمع متجانسة أو متقاربة، فإن المنتصر لن يخرج عن هؤلاء الثلاثة:
• مواطن / مجتمع يخدم قضايا بلاده بإخلاص وأمانة وإتقان ووطنية.
• حقيقة يصعب طمسها أو تزييفها أو التلاعب بها؛ سواء في مجالات الحكم أو القضاء، أو التنمية الاجتماعية.
• أخلاقيات مهنية متجذرة في الضمير، تسمح بالكتابة والتعبير والتحليل والنقاش والإخبار والترفيه والتسلية وتشكيل الرأي العام.