منير بنرقية هو فنان تشكيلي ومؤدي مغربي، يستمد ممارسته الفنية من الفضاء-الزمن الرمزي للهوية الثقافية المغربية. يتأرجح بين الفنون التشكيلية والأداء الحي، ليُبدع عملاً تتداخل فيه الذاكرة، والتحول، والتساؤل كعناصر أساسية. بعيداً عن أي مقاربة فلكلورية أو زخرفية، ينخرط بنرقية في حوار شعري ونقدي مع رموز الماضي، يفككها ويعيد تركيبها بلغة تشكيلية معاصرة غنية بطبقات من المعنى.
يندرج مشروعه الإبداعي في مقاربة فلسفية عميقة، حيث يصبح الفن شهادة على الوجود الإنساني – على غرار أنسلم كيفر أو جوزيف بويز، اللذان يمنحان للمادة والرمز بعداً ميتافيزيقياً. كما تلتقي رؤيته مع نهج فنانات مثل غادة عامر أو شيرين نشأت، اللتين تطرحان تساؤلات حول التقاليد البصرية في سياق معولم.
النحت كلغة: الذاكرة متجسدة في المادة
تُقدم منحوتات بنرقية، التي غالباً ما تكون صغيرة الحجم، ككتابات أمازيغية ثلاثية الأبعاد. إنها تنتمي إلى جمالية التجزئة والأركيولوجيا الرمزية. كل شكل يبدو كأثر لأبجدية منقرضة، أو كطبعة لذاكرة منسية. سواء كانت من المعدن، أو الخشب، أو الطين، فإن هذه المواد تصبح حاملة للمعنى، على غرار أعمال لويز بورجوا حيث يتحول الرمز إلى تجربة ذاتية وإنسانية شاملة.
الرسم كفضاء وجودي
في لوحاته، يواصل بنرقية بحثه عن المعنى عبر اللون، والحركة، والخطوط المنحنية السميكة والمتراكبة. ويظهر اللون الأحمر كعنصر ثابت، يرمز تارة إلى الولادة، وتارة إلى الجرح، وأخرى إلى التجدد. تركيباته، التي تتكون من رموز وطبقات نسيجية، تذكّر بكثافة أعمال مارك روثكو التأملية: إذ تتحول اللوحة إلى سطح لإسقاط التأملات الفلسفية والعاطفية، داعية المشاهد إلى مواجهة داخلية عميقة.
الأداء الفني: الجسد كمكان عبور
يحتل الأداء مكانة محورية في ممارسته الفنية. فعند بنرقية، يغادر الفعل الفني جدران المرسم ليصير طقساً، وتجسيداً، وحضوراً. وعلى غرار مارينا أبراموفيتش أو آنا هالبـرين، يتحول جسده إلى وسيط، وذاكرة، ولغة حية. يتناغم مع أماكن مختارة لثقلها التاريخي أو الحسي، ويُعيد تفعيل حركات مستلهمة من التقاليد الأمازيغية والريفية، مما يضفي على كل حركة شحنة عاطفية وروحية مميزة.
سينوغرافيا طقسية: بين العضوي والمقدّس
تتخذ عروض بنرقية طابعاً سينوغرافياً مشبعاً بالرمزية والطبيعة العضوية. الأزياء التي يرتديها، المصنوعة من أقمشة خام وزخارف تقليدية، تذكّر بملابس طقسية تعود لأسلافه. يصبح اللباس هنا لغة، وتسجيل لهوية واستمرارية ثقافية. أما لوحة الألوان – التراب، الأسود، الأبيض، الأحمر – فهي بمثابة نحو بصري: حِداد، تطهير، صراع، قداسة… وهذه الدراماتورجيا الرمزية تستحضر روح الأعمال الطقسية لهيرمان نيتش.
لغة متعددة: الكلمة، الجسد، الصوت
تصبح الكلمة بدورها مادة فنية: حكاية هامسة، أنشودة أجداد، صرخة صامتة… كلها أشكال صوتية تنسج نسيجاً حسياً يتفاعل مع الحركة. تنتمي هذه الأعمال إلى مقاربة إدراكية وظاهرية، كما طورها الفيلسوف موريس ميرلو-بونتي، حيث الجسد والعالم في تفاعل مستمر. فالرسم، والفضاء، والأداء تتحول إلى أماكن لقاء بين الكائنات.
بين الجذور والانفتاح: جمالية التهجين
يستلهم بنرقية من جذور الثقافة المغربية، لا ليحبس أعماله داخلها، بل ليفتحها على بُعد كوني. فهو ينتمي إلى فكر إنساني وشاعري، حيث يصبح الحوار بين الثقافات شرطاً جوهرياً للإبداع. وهذه الرؤية تلتقي مع فكر إدوارد ﭬليسانت، ونظرته إلى “الكل-العالمي” حيث تتشابك الهويات ضمن دينامية مخلّطة.
هكذا، يتجاوز فن منير بنرقية الحدود الجمالية التقليدية. ليصير فعلاً وجودياً، حاملاً للغة حسية، رمزية، وإنسانية بامتياز. فن لا يسعى إلى إلغاء الاختلافات، بل إلى ربطها في تجربة مشتركة، شعرية وتحويلية.


الشويخ عبدالسلام – فرنسا