تمثل العتبات مفتاحًا رئيسًا لقراءة المنتَج الفكري، ويُعَد التوافق بين العتبات وبين المنتَج ملمحًا بارزًا من ملامح الجودة، وحين نطالع ديوان (فلا تعتب عليهم) للشاعر والناقد المصري حسن عبد الفتاح الحضري؛ تستوقفنا أولى عتبات الديوان؛ وهي العنوان، وكي نربط بين هذه العتبة وبين قصائد الديوان لنعرف مدى التوافق؛ ننظر أولًا في دلالة مفردات هذه العتبة التي جاءت بأسلوب النهي المسبوق بحرف الفاء؛ مما يعني أن ثمة علاقة سببية بين هذه الجملة وبين كلامٍ مضمرٍ قبلها؛ وذلك المضمر في العنوان مسطور في صفحات الديوان، الذي يضم سبعًا وثلاثين قصيدة ومقطوعة، في أغراض متعددة من أغراض الشعر، وقد سجَّل الشاعر في ديوانه تاريخ كلٍّ منها، وهو منهج له يتبعه في جميع دواوينه المنشورة، كما رتَّب الشاعر قصائد هذا الديوان حسب حروف الروي ثم حسب الحركات، فإذا استوت قصيدتان في ذلك فإنه يبدأ بالأقدم كما ذكر في مقدمة ديوانه، الذي قال قصائده في المدة مِن بعد منتصف سنة ألفين وثلاث عشرة حتى أوائل سنة ألفين وخمس عشرة، وهو الديوان السادس في جملة دواوينه التسعة الصادرة حتى الآن، إضافة إلى مؤلفاته النقدية وأبحاثه ودراساته التي ينشرها في عدد من كبريات المجلات العلمية والثقافية.
وبالعودة إلى موضوع الدراسة وهو ديوان (فلا تعتب عليهم)؛ نجد أن العنوان من حيث الدلالة باعتباره أولى عتبات العمل كما أسلفنا؛ يُحمَل على أحد معنيَيْنِ؛ الأول: التماس الشاعر العذر لمن يوجِّه إليهم العتاب، وليس هذا هو المعنى الذي يقصده الشاعر؛ أما المعنى الثاني فهو تَرْك العتاب بشكلٍ عامٍّ؛ لأن ما فعلوه أكبر من العتاب، لذلك جاء العنوان بأسلوب النهي الصريح، وهذا المعنى هو الذي يقصده الشاعر كما سيتضح في السطور اللاحقة.
وبمطالعة الديوان نجده يبدأ بمقطوعة عنوانها (بانت وكان البين)، وفيها يقول حسن الحضري: [من الكامل]
بانَتْ وكان البينُ آخِرَ عهدِها | وكذلك الأيامُ في أخطابِها | |
لا تَركننَّ إلى الزمانِ فإنَّهُ | صرَّامُ وصلٍ جدَّ في إخصابِها | |
إنَّ التي زعمتْكَ يومًا كاذبًا | سَتَرَى صُنوفَ الويل مِن كذَّابِها | |
أسلِمْ إلى الرحمنِ أمْرَك إنَّه
|
علَّامُ أفئدةٍ تضجُّ بما بِها
|
وليس في هذه المقطوعة ذِكرٌ للعتاب أو التماس العذر، لذلك تنطبق عليها الدلالة الثانية من دلالتَيِ العنوان كما بيَّنَّاه في السطور السابقة؛ أي إن التوافق موجود بشكلٍ واضح بين العتبات وبين المنتَج.
وفي قصيدة عنوانها (دع عنك كل منافق) يقول الحضري: [من الكامل]
دَعْ عنكَ كلَّ منافقٍ كذَّابِ | إنَّ النِّفاقَ وسيلةُ الأوشابِ | |
ضلَّتْ بهِم أحلامُهم فهَوَتْ بهِمْ | أقدامُهم ومَضَتْ لِشَـرِّ مآبِ | |
نسجوا ستارًا زائفًا مِن مَكرِهِم | والمكرُ يَهدِمُ كلَّ صرحٍ نابِ |
وهؤلاء الذين يصفهم الشاعر بهذه الصفات؛ ليس ثمة مجال لالتماس العذر لهم في شيء، وهذا يعني أن مراد الشاعر من النهي عن عتابهم؛ أنهم بلغوا فوق ما يوجب العتاب؛ لأن العتاب يكون في الأمور التي يمكن التسامح فيها، أما هؤلاء فقد بلغوا حدًّا كبيرًا من سوء الخُلُق وسوء الفكر كما نفهم من أبيات الشاعر.
وفي قصيدة (الثقة والغرور) يقول حسن الحضري: [من الكامل]
نُبِّئتُ أقوامًا تَلُومُ بلا سَبَبْ | قد كانَ في هذا مثارٌ للعَجَبْ | |
زعموكَ مغرورًا، ولستَ كذلِكُمْ | لكنَّها ثقةٌ تبدَّتْ عن كَثَبْ | |
إنِّي امرؤٌ سَطَّرتُ مَجدِي واثقًا | أحدُو الطَّريف بمُتْلَدٍ صافِي القَشَبْ |
هكذا افتتح الحضري قصيدته متعجبًا ممن يلومونه بغير حق ويتهمونه بالغرور، موضحًا لهم سوء فهمِهم حيث ظنوا الثقة غرورًا، وحين يكون الأمر بهذا الشكل فإنهم لا يستحقون العتاب؛ لأن موقفهم لا يقتصر على سوء الفهم؛ بل يتعدى ذلك إلى الحقد والغيرة، لذلك فإن دلالة عنوان الديوان تكون بالشكل الذي تم تبيِينه سابقًا.
وفي قصيدة عنوانها (إلى منكري السنة النبوية الشريفة) يقول حسن الحضري في مطلعها: [من الطويل]
عَجِبتُ لِقومٍ أطلَقوا سهمَ مكرِهم
|
ولمْ تُغنِهم مِمَّن مَضَوْا كلُّ عِبرةِ
|
|
يُداهِنُ منهم كلُّ وغدٍ بلُؤْمِهِ
|
لإطفاءِ نورٍ أو لإشعالِ فتنةِ
|
وفيها يقول:
فما قَدَرُوا رَبَّ البرِيَّةِ حقَّهُ
|
ولا عرَفوا فَضْلَ النَّبيِّ لِلَحظةِ
|
|
ومَن يَعْشُ عن ذِكر الإلهِ يكنْ له
|
قرينٌ من الشيطانِ يُدْلي بخطَّةِ
|
|
فما السُّنَّةُ الغرَّاءُ إلا بوحيِهِ
|
وليس يُنالُ البِرُّ إلا بهمَّةِ
|
|
وحسبُكَ منهم جهْلُهم ونفاقُهم
|
وفي النُّور حتمًا تنجلي كلُّ ظُلْمَةِ
|
ويختتمها الحضري بقوله:
دعوناكُمُ للحقِّ والحقُّ واضحٌ
|
وليس وراءَ النورِ غيرُ الدُّجُنَّةِ
|
ولا شك في أن هؤلاء الذين يَعنِيهم الشاعر في هذه القصيدة لا يَصلُح معهم عتاب، وكأنَّ الشاعر يقول: من كانت هذه صفاتهم فلا تعتب عليهم فإنهم لا يستحقون العتاب ولا يُجدي معهم، وما فعلوه أكبر من أن يعاتَبوا عليه.
وفي قصيدة بعنوان (سرَى الشوق والسهاد) يقول حسن الحضري: [من المضارع]
فَدَعْ عنكَ مَن تولَّى
|
بحِقدٍ لهُ اتِّقادُ
|
|
فإنَّ المعادَ آتٍ
|
وكلٌّ لهُ معادُ
|
والبيت الثاني منهما سببٌ للأول؛ فإن المعاد المرتقَب لعقابهم في الدنيا أو في الآخرة؛ هو الذي جعل الشاعر لا يُبدي أي اهتمام بهم، واكتفى بقوله (فَدَعْ عنكَ مَن تولَّى)، ومعناه قريب من قوله في عنوان الديوان (فلا تَعتِبْ عليهم) مبنًى ومعنًى، وفي هذا البيت يقصد معنًى واحدًا؛ هو عدم المبالاة بهم، وهو المعنى الذي يصبُّ في تيَّار المعنى العام المقصود من عنوان الديوان، كما تم تَبْيِينه في الأمثلة السابقة.
ولذلك لا نجد في هذا الديوان قصيدة تحمل العنوان العام للديوان (فلا تعتب عليهم)، وكأنَّ الشاعر استخلص عنوان الديوان من مضمون قصائده، وقد جاءت عدة قصائد ومقطوعات أخرى في الديوان بهذا الشكل الذي يوضح القدرات البلاغية الكبيرة عند الشاعر حسن الحضري، الذي يوجِّه سياق الكلام في شعره إلى المعنى الذي يريده، من خلال أسلوب قوي وبناءٍ محكم، في إطار الشعر العمودي المحافظ؛ حيث يتمسَّك بقواعد الشعر ويمتلك أدواته ويَجُول بها في أغراضه وموضوعاته.

محمد العربي
باحث وتربوي- مصر