الرئيسيةأخبارحوار مع الأستاذة فوزية عبدلاوي حول الفلسفة والرواية: تفاعل الفكر والسرد في بناء الوعي الإنساني

حوار مع الأستاذة فوزية عبدلاوي حول الفلسفة والرواية: تفاعل الفكر والسرد في بناء الوعي الإنساني

أضواء حول السرد الروائي
سلسلة أسبوعية جديدة تحت عنوان
“أضواء حول السرد الروائي”
وهي مبادرة حوارية مميزة تسلط الضوء على عوالم السرد الأدبي من خلال لقاءات مع نخبة من الروائيين والمبدعين. تهدف هذه السلسلة إلى استكشاف تجارب الكتابة الروائية، مناقشة القضايا الأدبية الراهنة، والتعمق في رؤى المبدعين حول فن الرواية وتحدياته. ستكون هذه الحوارات مساحة ثرية للتفاعل مع جمهور الأدب، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم الإبداع السردي في سياقاته المختلفة.
– الحوار الأول: الفلسفة والرواية: تفاعل الفكر والسرد في بناء الوعي الإنساني
مع الأستاذة فوزية عبدلاوي.

في عالم الفكر، تسير الرواية والفلسفة جنبًا إلى جنب، رغم اختلاف أدواتهما وغاياتهما. الرواية بحسها السردي وقدرتها على التخييل، والفلسفة بمنهجها العقلاني وتحليلها العميق للوجود، يبدوان كحقلين مستقلين، لكنهما يلتقيان في نقاط محورية حيث يصبح السرد وسيلة لنقل الأفكار الفلسفية، وتتحول الفلسفة إلى نسيج داخل النصوص الروائية، مما يمنحها أبعادًا أعمق وأكثر تعقيدًا. هذا التداخل بين الاثنين يخلق فضاءً ديناميكيًا من الأسئلة والتأملات، حيث يتجسد الفكر في شخصيات وأحداث، ويتحول المفهوم الفلسفي إلى تجربة إنسانية حية. فكيف يتجلى هذا التفاعل؟ وما الدور الذي تلعبه الرواية في ترجمة القضايا الفلسفية إلى عالم معيش؟
عن هذه الأسئلة وغيرها اتصلنا بالأستاذة فوزية عبدلاوي إطار تربوي بمدينة المحمدية، تشتغل كمفتشة اللغة العربية، رصيدها في مجال الإبداع ديوانين: الأول يحمل عنوان ” تقاسيم الريح” والثاني يحمل عنوان “سأرسم لك البحر”.
أستاذة فوزية مرحبا بك، أود في البداية لو تتفضلي بإعطائنا فكرة عامة عن طبيعة العلاقة بين الرواية والفلسفة ؟
شكرا للأستاذة الصحفية المتمرسة أمينة بنونة على حسن الاستضافة.
يمكن القول بداية أن الرواية والفلسفة، كما لو كانتا نجمين في سماء الفكر، يبدوان أحيانًا متباعدين، وأحيانًا أخرى يلتقيان في لحظات من التداخل العميق، حيث تنصهر الحدود بين العقل والوجدان، ليُخلق عالم جديد من الأسئلة والأجوبة التي لا تنتهي. في تلك اللحظات، يصبح اللقاء بينهما رحلة مُعقدة، تتنقل بين مُتاهات الوجود والمعرفة، متجاوزة بذلك كل ما هو تقليدي في التفريق بينهما.

لنقم بنبش أركيولوجي، هل يمكن القول إن الأسطورة تمثل إرهاصا أوليا لبداية تشكل الحكاية الروائية؟
يمكن للأساطير اليونانية وغيرها من الأساطير أن تُعتبر بذرةً تتفتح منها الزهور الأدبية للرواية، حيث إن الأسطورة هي بداية الحكمة الأولى، كما يراها مارتن هيدغر، الينبوع الذي تندفع منه جميع السرديات، وهو بمثابة مفاتيح العالم المغلقة. في الأسطورة، يتمازج الخيال مع الحقيقة، والمقدس مع العادي، والإنساني مع الكوني. هي قصة الحلم التي لا تنام، والشخصيات التي تتحرك على خشبة مسرح الحياة، بينما يظل صوتها يتردد في أرجاء الروح البشرية عبر العصور. والأساطير ليست مجرد خرافات أو روايات قديمة، بل هي “أدوات لفهم الوجود الإنساني”، كما وصفها كارل يونغ، حيث تُقدم رموزًا ودلالاتٍ تفسر ما يعجز العقل عن بلوغه، وتخلق حوارًا بين الإنسان وعالمه المجهول.

فوزية عبدلاوي
فوزية عبدلاوي
الأساطير هي الأفق الذي يلتقي فيه ما هو فردي بما هو جماعي، حيث تحمل في طياتها الرمزية التي يعجز الزمن عن مسحها. إنها تلك القصص التي تعبر الحدود، تمزج بين الأبعاد النفسية والجمالية والعاطفية، وتفتح للقارئ أبوابًا نحو العوالم التي لا تنتهي. يمكن للأديب أن يستحضر الأسطورة ليغمس في معانٍ أعمق، فتُصبح الشخصيات الأسطورية ليس فقط كيانات خيالية، بل تمثيلات رمزية للروح البشرية، بآلامها، وأفراحها، وعجزها، وتطلعاتها.
أوديسيوس، ذلك البطل الذي لا يتوقف عن البحث، ليس مجرد شخصية في قصيدة هوميروس، بل هو رمز الإنسان الذي يسافر عبر الزمن ليبحث عن ذاته، في بحارٍ موحشة مليئة بالآلهة التي تختبره، بل وكأن رحلة حياته هي رحلة عقل الإنسان ذاته الذي يتساءل عن وجهته، وعن قيمته، وعن هويته. أسطورته حكاية العزيمة والإرادة، تلك التي تقاوم المجهول وتبحث عن الحقيقة وسط الزمان والمكان. في أوديسيوس نجد الإنسان الشارد في ملكوت الأسئلة الوجودية، والذي لا يبتغي الوصول إلى مراده إلا بتخطي الفوضى الداخلية التي تعصف به.
سيزيف، بطل الأسطورة اليونانية الذي يُحكم عليه بحمل صخرة إلى قمة جبلٍ فقط لتسقط منه مجددًا، هي الصورة الحية للتكرار العبثي. لكن من خلال هذا العبث، نجد في سيزيف تجسيدًا لروح الإنسان الذي يُجابه المجهول دون أن ييأس. العبث، في جوهره، ليس هزيمة، كما يقول ألبير كامو في كتابه “أسطورة سيزيف”. بل هو التمرد على الواقع القاسي، التمرد على فكرة القدر. ومن هذا المنطلق، تصبح الأسطورة ليست مجرد قصة لتسلية، بل تعبير عن تمرد الإنسان على التحديدات الكونية التي فرضها عليه قدره. ويصبح سيزيف في النهاية رمزًا للصراع المستمر، ككل إنسان يسعى جاهدًا للمعنى، مهما كانت النتائج.
الأساطير اليونانية، بل وكل الأساطير، تغذي الأدب وتمنحه أجنحةً ليرتفع بها إلى آفاقٍ جديدة. فكل أسطورة لا تتعلق فقط بما حدث في الماضي، بل بما يحدث الآن، و بما سيحدث. إنها لغة للروح الإنسانية المستمرة في الصراع مع مصيرها، في البحث عن الذات والوجود في عالمٍ متقلب. الفن الأدبي الحديث لا يُعيد الأسطورة إلا ليُقدّمها مراجعة جديدة، فيها يتجدد السؤال، ويُطرح من جديد بحث الإنسان عن معنى وجوده. الروائيون والفنانون يربطون بين الأسطورة والواقع، ليخلقوا واقعًا جديدًا يُعبّر عن المعاناة، والمقاومة، والتضحية، والأمل.
وفي أدبنا الحديث، نجد أن الأساطير ليست مجرد محاكاة للواقع، بل هي أسلوب جديد لرؤيته، وحكاية جديدة لتحويله إلى رمز عميق. فأسطورة أورفيوس، الذي ينزل إلى العالم السفلي بحثًا عن حبّه المفقود، هي أكثر من مجرد قصة عشق، إنها رحلة الوجود الداخلي الذي يواجه الظلام والموت. أورفيوس ليس فقط ذلك الرجل الذي يبحث عن حبّه، بل هو الإنسان الذي يُقاتل الحياة والموت معًا، في مشهد من الصراع الإنساني الأبدي. الأساطير تقدم لنا نوافذ إلى داخل الروح البشرية، ومع كل قراءة جديدة تفتح أمامنا عالمًا غير مرئي، من أسئلةٍ لم يُجب عليها بعد، ومن آلامٍ وأحلامٍ لا تنتهي.
الأساطير إذن، هي الخطوط الأولى التي يُرسم عليها أدب الرواية. إنها المصدر الذي يغذي الإبداع الأدبي، حيث يُمكن للأديب أن يستلهِم من شخصياتها وصراعاتها لخلق عوالم جديدة تُعبّر عن الإنسان كما هو، وأحيانًا كما ينبغي أن يكون.

أستاذة فوزية، ما طبيعة الاتصال بين الفلسفة والرواية؟
الرواية، في جوهرها، قد تكون الوعاء الذي يحمل الأفكار الفلسفية ويُلبسها ثوبًا إنسانيًا، كما لو كانت تُترجم أفكار الفلاسفة إلى معيشة، إلى شخصيات حية تعيش الصراع الداخلي بين الوجود والعدم، بين الحقيقة والوهم. هنا، الفلسفة تتجاوز حدود المفاهيم المجردة لتصبح تجارب حسية، تتمثل في الحوارات والمشاعر والقرارات التي يتخذها الأبطال. وتغدو الأسئلة الكبرى مثل: “ما معنى الحياة؟” و”هل نحن أحرار في اختياراتنا؟” و”كيف نصل إلى الحقيقة؟” ليست فقط أسئلة فكرية، بل صراعًا يعيشه كل شخص في الرواية، يجد نفسه في مفترق طرقه، معبرًا عن رؤية فلسفية بطريقة سردية حية. الرواية هنا تتحول إلى أداة لاستكشاف مفاهيم مثل “المعنى”، “الحرية”، و”المصير” التي كانت دائمًا جزءًا من اللغة الفلسفية، لكنها الآن تتحول إلى عاطفة، إلى تجربة إنسانية مشحونة بالتناقضات.

هل يمكن الحديث عن الانفصال بينهما؟
يمكننا أن نرى أن الرواية والفلسفة في بعض الأحيان تقفان على طرفي نقيض. الفلسفة، بأدواتها المنطقية والبحثية، تسعى إلى تحليل الواقع من خلال مفاهيم مجردة ونظريات عقلية عميقة. هي التفكيك والتحليل، محاولة الإمساك بالمعنى باستخدام الأدوات العقلية. أما الرواية، فهي توغّل في أعماق النفس البشرية لتكشف عن التوترات بين الوعي واللاوعي، بين الذات والمجتمع، وبين الفرد والمصير. في الرواية، لا تجد بالضرورة إجابات واضحة، بل تساؤلات وحيرة، تترك القارئ في حالة من التوتر الداخلي. إذن، بينما الفلسفة تسعى إلى الفهم والتمييز بين الصحيح والخاطئ، بين الحقيقة والخداع، الرواية تتنقل بين الرمزية والواقع، بين المجازي والحرفي، لتخلق عوالم مليئة بالتجارب الإنسانية التي لا يمكن اختزالها في أحكام منطقية.

جعلتنا نقف عند حدود الانفصال والاتصال، ماذا بشأن التكامل ؟
عندما يلتقي الفكر الفلسفي بالعاطفة الروائية، يُمكننا أن نرى كيف أن الرواية قد تصبح وسيلة للتعبير عن الفلسفة بشكل لا يمكن أن يقدمه أي خطاب أكاديمي بحت. الفلسفة في الرواية لا تتوقف عند الأسئلة؛ بل تنفتح على التفاعلات الإنسانية التي تجسد تلك الأسئلة في حياة كاملة. فالرواية هي عالم مشبع بالرمزية والميتافيزيقا، حيث تتداخل أفكار الفلاسفة مثل “سارتر” و”كانط” و”هيجل” مع عوالم من الخيال والواقع الحي، ليخلق كل جزء من الرواية حالة من “التأويل المتعدد”. بينما الفلسفة تعطي أدوات لرؤية أعمق للعالم، فإن الرواية تضفي على هذه الرؤية حياة فعلية تنبض بالجمال والإنسانية، لتكون منصة لاستكشاف قضايا الوجود عبر شخصيات تُجسد هذه الأسئلة في لحظات حية، غير محدودة بالقوالب التقليدية.
وبذلك، نجد أن الفلسفة لا تتسيد الرواية، بل تتكامل معها في تمازج رائع بين الفكر والشعور، بين العقل والجسد. هي علاقة ليست قطيعة ولا اتصالًا بسيطًا، بل هي عملية “تركيب فكري” حيث يتداخل المعنى الفلسفي مع الوجود الروائي ليُنتجا معًا نوعًا من التفكيك والتأويل المستمر، الذي يغذي فكر القارئ ويعيد تشكيل تجربته مع الحياة.

هل يمكن اعتبار الرواية ضرورة معرفية؟
نعم، الرواية ضرورة معرفية ، لكنها ليست معرفةً بالمعنى الصارم للكلمة، بل معرفةٌ تتلبّس ثوبَ الوهم، تتسرّب كالماء بين الأصابع، وتترك أثرًا لا يُرى بالعين، بل يُحسُّ في الروح. إنها ليست علمًا يُدرَّس، ولا فلسفةً تُحاكم المنطق، لكنها سفرٌ في خبايا الإنسان، حيث الحقيقة ليست نقطةً تُبلغ، بل متاهةٌ تُرتاد.
إن كانت الفلسفة تسائل الوجود، والعلم يفكك عناصره، فإن الرواية تزرع الفوضى في صرامة المنطق، وتحيل الفكر إلى مرآةٍ تتكسّر عند كل زاوية. إنها ليست بابًا نحو المعرفة بمعناها الأداتي، بل هي كما قال كونديرا: “فنُ الكشف عمّا يخفيه الوجود”. الرواية لا تعطي أجوبةً، بل تفتح جراح الأسئلة، تجعلنا نرى العالم بعينٍ زجاجية تلتقط الاحتمالات، لا الثوابت.
الرواية معرفةٌ مُغايرة، لا تقدم الحقائق جاهزةً كما يفعل العلم، ولا تنشغل بالصرامة المنهجية كما تفعل الفلسفة، لكنها تُحاكي ما يسميه باشلار بـ*”حلم اليقظة”*، ذلك التيه الساحر بين الواقع والخيال، بين ما هو كائن وما كان يمكن أن يكون. إنها ترينا العالم من زوايا لم ننتبه لها، تجعلنا نعيش حيوات لم تُكتب لنا، تُسائل مسلماتنا، وتهزُّ يقيننا.
إذن، هي ضرورة معرفية، لكنها ليست معرفةً تُقاس بالأرقام، بل تجربةٌ تُعاش بالحواس، سفرٌ في شرايين المعنى، حيث يصبح كل شيءٍ سؤالًا، وحيث المعرفة ليست سوى نهرٍ بلا ضفاف، يجرفنا نحو احتمالاتٍ لا تنتهي.

هل تمتلك الرواية قدرة الانفتاح على أجناس معرفية أخرى؟
الرواية نهرٌ، لا ضفاف له إلا خيال الكاتب، ولا منبع له إلا ظمأ المعرفة. إن انغلقت على ذاتها، تحجّرت كماءٍ راكدٍ في بئرٍ منسية، وإن انفتحت على الأجناس المعرفية الأخرى، سالت كجدولٍ ينهل من الفلسفة والتاريخ والعلم والأسطورة، حتى تصير كما وصفها إمبرتو إيكو “آلةٌ لإنتاج التفسيرات”، حيث يتقاطع العقل مع الحلم، ويتحاور الفكر مع العاطفة.
الرواية التي لا تعانق الفكر تظلّ جسدًا بلا روح، مسكونةً بالسطحية، لا ظلّ لها سوى الحكاية، ولا صدى إلا الصمت. أما حين تفتح أبوابها لرياح المعرفة، فإنها تتجلّى كما قال ميلان كونديرا “فنُّ تعقيد الإنسان”، حيث لا تقدم أجوبةً جاهزة، بل تزرع الحيرة، وتكشف هشاشة اليقين. إنها ليست مقالةً أكاديمية، لكنها كما وصفها سارتر “التزامٌ عبر الجمال”، التزامٌ لا بالأيديولوجيا، بل بحقيقة الإنسان في تعقيداته، بضعفه وجبروته، بحيرته الوجودية التي تساءل المعنى دون أن تدّعي امتلاكه.
حين تمسّ الرواية التاريخ، لا تصير سردًا للأحداث، بل “حفرياتٌ في الذاكرة”، كما قال ميشيل فوكو، حيث الماضي ليس مجرد وقائع، بل شبكةٌ من التأويلات. وحين يعانقها العلم، لا تتحوّل إلى درسٍ في الفيزياء أو البيولوجيا، بل تصير كما تخيّلها بورخيس “متاهةً من الاحتمالات”، حيث الزمن لا يسير في خطٍّ مستقيم، وحيث الحقيقة ذات أوجهٍ متعددة. وحين تتداخل مع الفلسفة، فإنها تصبح سؤالًا يمشي على قدمين، تكرارًا لمأساة سيزيف في بحثه العبثي عن الخلاص، أو امتدادًا لمأزق نيتشه في مواجهته لـ”موت الإله”.
الرواية التي لا تنفتح على المعارف الأخرى تظلّ مرآةً تعكس وجهًا واحدًا، أما التي تغترف من ينابيع الفكر، فتصير “نصًا مفتوحًا”، كما سماه رولان بارت، حيث لا نهاية، بل احتمالات لا تنتهي، وحيث كل صفحةٍ ليست إجابةً، بل بابٌ نحو مجهولٍ جديد.

هل يمكن اعتبار الفلسفة مصدرا لرؤية العالم للأديب ولغيره من الفنانين؟
الفلسفة ليست مجرد تأملٍ نظري، بل هي “رؤيةٌ للعالم”، كما وصفها هوسرل، بوصفها أداةً لتفكيك الوجود وإعادة بنائه في أذهاننا. إنها الضوء الذي يشعل المساحات الغامضة، والمطرقة التي تهدم المسلّمات، والنهر الذي لا يكف عن الجريان، حاملاً معه الأسئلة أكثر مما يحمل الأجوبة.
بالنسبة للأديب، الفلسفة ليست ترفًا فكريًا، بل نظّارةٌ يرى بها العالم، فهي التي تمنحه عمقًا يتجاوز السرد المباشر، وتدفعه إلى كشف ما وراء الظاهر. حين كتب دوستويفسكي، لم يكن يروي قصصًا فقط، بل كان يحفر في النفس البشرية كما يفعل عالمُ النفس، ويجادل المصير كما يفعل الفيلسوف، فجاءت رواياته صرخاتٍ وجودية تسائل الخير والشر، الحرية والجبرية، الإيمان والعبث. وكذلك فعل كافكا حين جعل من اللامعقول فلسفةً في السرد، حيث الإنسان كائنٌ هشٌّ، تبتلعه البيروقراطية وتذوّبه عزلة الوجود.
أما الفنانون، فقد كانت الفلسفة نهرًا جارفًا أغرق لوحاتهم وموسيقاهم وأفلامهم. فان غوغ لم يكن مجرد رسامٍ، بل كان يرى العالم كما يراه نيتشه، حيث الجمال وليد الألم، وحيث الجنون ليس سقوطًا، بل تحررٌ من الأطر الضيقة للعقل. وستانلي كوبريك لم يكن مجرد مخرج، بل كان فيلسوفًا سينمائيًا يسائل الزمن كما فعل هايدغر، ويواجه الفراغ الوجودي كما فعل سارتر.
لكن الفلسفة ليست وقودًا للأدب والفن فقط، بل هي أيضاً مرآةٌ لكل إنسانٍ يبحث عن معنى. إنها “فنُّ العيش”، كما وصفها مونتيني، ذلك النور الخافت الذي لا يبدد العتمة، لكنه يجعلنا نرى خلالها بشكلٍ أوضح. وحين يواجه الإنسان العالم بسؤالٍ فلسفي، فإنه لا يطلب يقينًا، بل ينفتح على اتساع الاحتمالات، كما لو أنه يقف أمام لوحةٍ سريالية، حيث كل تفصيلٍ يحوي عالمًا، وكل ظلالٍ تخبئ ضوءًا.
نشكرك أستاذة فوزية على هذا الحوار الغني والثري بالأفكار والتساؤلات، نشكرك كذلك على الوقت الذي خصصته لهذا اللقاء حيث تشرفنا بتواصلك الجميل.

أجرت الحوار: الأستاذة الاعلامية أمينة بنونة

أمينة بنونة
أمينة بنونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *