الرئيسيةأعمدةإطلالات: توبة فلان وفستان فلانة… ملأ الدنيا وشغل الناس!!!

إطلالات: توبة فلان وفستان فلانة… ملأ الدنيا وشغل الناس!!!

الدكتورة نزهة الماموني

لقد أصبحنا نعرف عن فساتين المهرجانات أكثر من محتوياتها ، هل تم افراغها من المحتويات التي تستحق الدراسة والبحث ؟؟…

ثم من هو فلان قبل أن يتوب ،وما همنا فيه بعد توبته؟! والغريب هو تجند جيوش للتعليقات والفتاوى لا تجد ربعها مع محتوى مفيد للإنسانية .التوبة هي فعل بين الانسان وخالقه ،لم تحولونها الى محتويات تفرضونها بكثرة المتابعين والمشاهدات ؛أهي صدفة هذه الأمور؟أم يتم التخطيط لها بخطط مرسومة لممارسة سياسة الالهاء؟!

في كل عصر، هناك شخصيات تترك بصمة لا تمحى في تاريخ البشرية، من خلال أعمالهم المبدعة التي تُخلد في الأدب والفكر. ولكن ما يثير العجب في عالمنا اليوم هو كيف يمكن أن تشغل الأخبار الإعلامية الناس، ليس حول شخصيات أثرت في تاريخنا الثقافي والاجتماعي، بل حول أولئك الذين لا يمتلكون ما يقدمونه سوى تفاصيل تافهة عن حياتهم الخاصة. قد يبدو الأمر غريبًا، ولكن عندما نبحث عن أوجه المقارنة، نجد أن هناك مفارقة لا يمكن تجاهلها.

لنأخذ مثالاً صارخًا على ذلك: المتنبي، الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بعبقريته الأدبية:

في زمنه، كانت معاركه الشعرية هي حديث الناس، وكانت كلماته تَسكن في قلوب الأجيال على مر العصور. المتنبي لم يكن مجرد شاعر عابر، بل كان يحمل في طيات شعره رؤية فلسفية عميقة، وينقش بكلماته عواطف الأمة وتطلعاتها. كان يخوض معارك مع خصومه بالشعر، وأحيانًا كان يرفع سيفه في ساحة المعركة، لكنه لم يكن يسعى فقط للانتصار المادي، بل كان يطمح لإيصال رسالة تتجاوز الزمان والمكان.

المتنبي كان قدوةً في تقديم الإبداع الأدبي الذي ينير العقول، وكانت كلماته تُلهم الأجيال وتُحفزهم على التفكير والتطور. لذا كان طبيعيًا أن تُشغل الناس معاركه الشعرية، لأنها كانت تثير الفكر وتغذي الروح. كان يتحدى الأسوار ويجعل من قوافيه سلاحًا يشحذ همم الناس ويخاطب عزائمهم، في سعيه لتحفيزهم على التأمل في معنى الحياة ومغزاها.

أما اليوم، فها نحن نعيش في عصرٍ تشغل فيه الناس “توبة” شخصية مثيرة للجدل، لا تعدو كونها مجرد لمحة عن حياتها الشخصية التي ليست لها أية قيمة تُذكر إلا في إطار الفضول الإعلامي. والمفارقة هنا تكمن في أن نفس الوسائل التي كانت تُستخدم لتسليط الضوء على قادة الفكر والإبداع قد أصبحت اليوم تُعنى بنقل أخبار “التوبة” المفاجئة لشخصيات ليست لهم أية بصمة في الحياة الفكرية أو الثقافية. إنها مجرد ضجة فارغة تستهلك الوقت وتستولي على اهتماماتنا، حتى أصبحنا نجد الناس يتداولون تفاصيل حياة شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي كما لو كانت موجهة لإحداث تغيير ثقافي عميق في المجتمع، بينما هي ليست إلا تعبيرًا عن حالة ضبابية من الفوضى.

ما الفرق بين معركة المتنبي الشعرية مع أقرانه وأبطال السوشيال ميديا اليوم؟ المتنبي كان يخوض معارك فكرية تُغني العقل وتدفعه للبحث والتفكير، بينما الأبطال اليوم ليسوا أكثر من دمى تُعرض على مسرح السوشيال ميديا لتثير ضحكاتنا أو ربما استفزازنا، دون أن تساهم في تطوير الفكر أو تقديم شيء ذي قيمة. معركتهم تدور حول تعزيز الذات على حساب المحتوى الثقافي والفكري، حيث تذوب المبادئ في مستنقع من التفاهة واللامبالاة.

 

إن الفارق بين تلك الشخصيات يكمن في المسار الذي سلكته كل واحدة، فالمتنبي، على سبيل المثال، قد وجد في كلماته قوة لا حدود لها، بينما اليوم نجد أن الناس أصبحوا مشغولين بتفاصيل لا تجلب إلا العبث والتهريج، الأمر الذي يعكس تراجعًا ملحوظًا في أولويات الإعلام والثقافة العامة.

لكن المفارقة الأكبر التي نعيشها اليوم تتجلى في الطريقة التي أصبحنا نرسم بها خريطة المستقبل للأجيال القادمة.  لم يعد لدينا اهتمام كبير بالإنجازات الأكاديمية أو الفكرية، بل أصبحنا نعيش في عصرٍ ربما نُفكر فيه في استبدال الدروس الأكاديمية التي تُعنى بتطوير الفكر وتعليم المهارات بالأمثلة التي يقدمها “أبطال السوشيال ميديا”. فبدلًا من أن نشجع الأجيال على الاهتمام بالدراسة والتحصيل العلمي، نراهم يلهثون خلف المتابعات على منصات التواصل الاجتماعي، مما يجعل من التفاهة والشذوذ سلوكًا يُحتذى به، وتصبح الأضواء مسلطة على هؤلاء الذين يعبرون عن أنفسهم من خلال الفضائح أو التصرفات الشاذة.

وفي الوقت نفسه، نرى أن الأساتذة الجامعيين الذين بذلوا سنواتٍ طويلة من العمل والبحث العلمي، قد أصبحوا يعانون من التهميش والإحباط. فالدكاترة الذين حملوا على عاتقهم نقل العلم وإثراء العقول، باتوا يُشعرون بأن علمهم قد أصبح غير ذي قيمة في عصرٍ تسيطر فيه السوشيال ميديا بكل تفاهاتها ومتابعيها الأكثر تفاهة من أبطالها. من هنا يأتي سؤالنا الملح: إلى متى سيستمر هذا التراجع في أولوياتنا؟ وهل من الممكن أن تسيطر تلك الشخصيات عقيمة العطاء المفيد على عقول الأجيال القادمة بشكل أكبر من العلماء والمفكرين؟

ناقوس الخطر يدق .. وأجيالنا في خطر .. هل من مغيث للعلم والأخلاق والذمم .. هل هناك من ينضم الى رأينا ويؤكد بأننا  نحتاج إلى مراجعة هذا التوجه، وإعادة ترتيب أولوياتنا. يجب أن نعيد النظر في الدور الذي تلعبه الأكاديميات في تشكيل المستقبل، وأن نعلم أجيالنا أن النجومية الحقيقية لا تأتي من وراء تجارب تافهة أو تمجيد التفاهة، بل من الإبداع والإنجاز العلمي الذي يساهم في نهضة الأمم.

الدكتورة نزهة الماموني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *