دار فضاءات للنشر والتوزيع بالأردن – الطبعة الأولى يوليوز 2024
ترجمة : محمد الجرطي
تقوم الفكرة المركزية لهذا الكتاب الذي صدر سنة 1966 للفيلسوف والناقد الفرنسي بيير ماشري على مقولة أساسية تبرز أصالته التي تعود أساساً إلى كونه حاول أن يفسر استقلال العمل الأدبي عن الإيديولوجيا التي يتدثر بها تفسيراً جديداً، لا يُفترض فيه قدرة الكاتب على معرفة الواقع مباشرة. يعيد بيير ماشري في هذا الكتاب التفكير في التصور الذي مغزاه أن الأدب مرآة، ويخلص إلى أن مرآة الأدب لا تتجاوز الإيديولوجيا عن طريق تصوير ميكانيكي للواقع مباشرة، ولكنها تبرز – دون حجج مقنعة، أو دون تفكير منطقي قائم على استدلال منهجي – حدود الإيديولوجيا وتخبطها، وتشير دون خطاب صريح إلى ضرورة القضايا التي أغفلتها الإيديولوجيا من الواقع. فالأدب، في منظور ماشري، ليس ضرباً من ضروب المعرفة، وإنما عملية تشكيل لعناصر إيديولوجية؛ ومن شأن هذا الشكل الذي يضفيه الأدب على الإيديولوجيا، أن يتيح لنا رؤية أوجه قصور الإيديولوجيا وعدم تماسكها، وأن ندرك امتداد الواقع وشساعته من وراء حدودها.
وكتاب ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” هو أول كتاب ألّفه بيير ماشري وظل غائباً عن المكتبة العربية لمدة 58 سنة رغم أن الكتاب تمت ترجمته إلى لغات عديدة (الألمانية، والانجليزية، والايطالية، والاسبانية، واليابانية، والكورية وغيرهما من اللغات، إلخ ). وهو كتاب غني بالمفاهيم والتصورات التي اكتمل بعضها وبقي بعضها الآخر في طور التشكل. ويمكن اعتباره بمثابة عمل مؤسس لنظرية الإنتاج الأدبي وإسهاماً أصيلا وأساسياً في مجال النقد الاجتماعي الذي يُعنى بخصوصية الظاهرة الأدبية وارتباطها بالإيديولوجيا والتاريخ دون أن يغفل أن للعمل الأدبي رغم تشابكه المجتمعي مجال يستقل به عن مضمونه الإيديولوجي، وعن المرحلة التاريخية التي يقوم بتصويرها. يضاف إلى ذلك أن بيير ماشري ينقد أفكار وتصورات نظرية الانعكاس وسوسيولوجيا المضامين ويطورهما، من أجل إرساء نظرية جدلية جديدة من العلاقة القائمة بين العمل الأدبي من جهة، والإيديولوجيا والتاريخ من جهة أخرى.
يتكون هذا الكتاب من ثلاثة فصول ” بعض المفاهيم الأولية “، ” نقد “، و ” بعض الأعمال “. يحدد الفصل الأول مشروع بيير ماشري العام وما يميزه عن غيره من نقاد الأدب. ويضم الفصل الثاني تحليلاً لمقالات لينين عن تولستوي حيث يرى ماشري أن أدب تولستوي هو مرآة لحقبة تاريخية محددة ارتبط بها الكاتب الروسي عن طريق إيديولوجيا معينة تعكس تناقضاً صارخاً في مواقفه. فالكاتب تولستوي كان أرستقراطياً بحكم انتمائه الطبقي ونشأته الاجتماعية، لكنه حاد عن طبقته بفكره وإنتاجه الأدبي، واعتنق إيديولوجيا الفلاحين. لقد بين فيلسوفنا – الناقد في هذا الفصل تاريخية إنتاج تولستوي الأدبي الذي يتسم بالتعقيد والتشابك والتناقض. فتولستوي ليس كلاً متجانساً، وإنما إيديولوجيته تشوبها في نهاية المطاف تصورات طوباوية، لكونها تغفل بعض جوانب الواقع الروسي وتمثل وجهة نظر محدودة. أما الفصل الأخير فيقدم شرحاً لأعمال جول فيرن وقصص الكاتب الأرجنتيني بورخيس ورواية ” الفلاحون ” لبلزاك.
يهدف كتاب ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” للناقد بيير ماشري إلى تكوين معرفة حقيقية عن الأدب؛ فطموحه يكمن في تأسيس علم للأدب يتميز عن النقد المعياري القائم على حكم الذوق، علم للأدب لا يقتصر على الملاحظة التجريبية والوصفية للنصوص الأدبية. لهذا يقيم ماشري مقارنة بين النقد الأدبي والعلوم الأخرى. فالعلم ينتج موضوعه، في حين أن النقد الأدبي له مجال موجود مسبقاً : هو دراسة الأعمال الأدبية. يجب على علم الأدب أن ينتج خطاباً مختلفاً بطبيعته عن الخطاب الأدبي. فعلم الأدب ينتج موضوعه المتمثل في دراسة النص الأدبي، لكن ليس المقصود هو العثور على المعنى المخفي في ثنايا العمل الأدبي. إن حالة العلم بشكل عام، في تصور ماشري، هي السؤال الذي يطرحه وهو ما يقود ماشري إلى رفض السؤال الذي يطرحه كل نقد مبتذل بطريقة ضمنية : ” ما الأدب ؟ ” ليقوم باستبداله بالسؤال ” كيف يتم إنتاج العمل الأدبي ؟ “.
ومن هذا المنطلق، من المهم التوقف عند بعض الخطوط العريضة التي ترتسم في نظرية بيير ماشري النقدية، والتي تقربنا من فكره إلى حد يسمح لنا بتلمس بعض العلامات الفارقة التي جعلت من كتاب ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” تعبيراً عن مرحلة انتقالية في التنظير للنقد الاجتماعي. إذ حاول ماشري تطوير آليات مقاربة النص الأدبي بعيداً عن الفلسفة الماركسية الميكانيكية وما قدمته من تصورات مرآوية للأدب، معتبرة إياه نتاجاً للواقع الاقتصادي والمادي، وحصيلة ما يجيش به المجتمع في حقبة معينة من تناقضات وصراعات طبقية. بل عمل ماشري على توضيح سيرورة الإنتاج الأدبي مبرزاً أن الشكل الأدبي كلما انزاح عن محاكاة الواقع الاجتماعي بطريقة ميكانيكية، وتباعد عن انعكاسيته، كلما تدثر بقوة خلاقة أكثر نفاذاً إلى عمقه، واستبصاراً بتعقيده. ولعل هذا ما حدا به إلى تخصيص مبحث في هذا الكتاب بعنوان ” عمق وتعقيد “. ولذلك فالعمل الأدبي من منظور بيير ماشري النقدي ليس مطالباً قسراً بالانغراس في تصوير تناقضات الواقع الخارجي، وصياغتها في كلية منسجمة للوعي متناغمة بجدليته التاريخية، بل يتسنى للأدب عبر هذا التباعد عن مطابقة الواقع النفاذ إلى جوهره. يرفض بيير ماشري نظرية الانعكاس الميكانيكية مشدداً على استقلالية العمل الأدبي الذي لا يتصل اتصالا مباشراً بالواقع على نحو ما يؤكده جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، بل هذه المسافة أو الفجوة التي تباعد بين العمل والواقع هي التي تكسبه حيويته ودلالته الخاصة.
ولعل هذا ما دفعنا إلى ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية لكونه أسس توجهات العديد من أعمال النقاد المستقبلية سواء في التنظير لسوسيولوجيا الأدب أو تيارات ما بعد البنيوية، مما يعطي هذا الكتاب أهميته الخاصة في إطار النظرية النقدية وحاجة النقد العربي للتفاعل الخلاق مع طروحات بيير ماشري ومقاربته للأعمال الأدبية.
إن هَمّ فيلسوفنا – الناقد ليس استعراض النظريات النقدية ولا التجريدات الفكرية أو العموميات، وإنما كما أكد مراراً في هذا الكتاب على أن النظرية الأدبية لا تهدف إلى إعداد استهلاك نتاج الكاتب بالتعليق على النص الأدبي وشرحه، وهو ما يفعله النقد المبتذل الذي تعرض له ماشري بالنقد حين تطرق للوهم المعياري والوهم التجريبي والوهم التأويلي، ولكن موضوعها هو دراسة إنتاج العمل الأدبي وصياغته. في هذا الكتاب، كما في عمله اللاحق الموسوم ب ” بمَ يفكر الأدب ؟ تطبيقات في الفلسفة الأدبية ” وقف بيير ماشري ضد النقد المبتذل الذي يتملص من مشكلة الإنتاج باعتباره حقيقة الإبداع. ولذلك تجدر الإشارة إلى أن بيير ماشري يضع نقده قبل كل شيء في مجال نظرية الإنتاج الأدبي. ومن ثَمّ فطموحه هو أن يضع حداً للنقد المعياري، أي النقد الذي يكتفي بالقول ” هذا عمل جيد، هذا نص جميل “؛ ففي نظر ماشري، في الأساس، كل نقد غير علمي هو بمثابة نقد قائم على حكم الذوق.
وبما إننا نتعامل مع فيلسوف ومُنظّر للنقد السوسيولوجي، يمكننا أن نتساءل ما هي، في نظره، العلاقات القائمة بين الأدب والعالم الواقعي. تكمن أصالة ماشري وجِدة فكره النقدي في كونه لم يطور نظرية ميكانيكية للانعكاس، بل يحافظ على فكرة استقلالية العمل الأدبي. فسوسيولوجيا المضامين، في منظور ماشري، قاصرة لا تحيط بالموضوع الأدبي ولا ترى منه سوى جانب واحد ولا تحقق الهدف المنشود في تلقي النص الأدبي. ذلك أن العمل الأدبي ليس نظاماً مكتملاً، مكتفياً بذاته، بحيث يؤلف بنية مغلقة، بل هو قوة متجددة، ولا يتحقق إلا في انفتاحه على تعدد المعاني والدلالات؛ فهو نسيج من العلاقات المتشابكة التي تتوالد باستمرار، ولكون العمل الأدبي كذلك، فهو لا يتضمن أجوبة جاهزة عن أسئلة مطروحة سلفاً. ولعل هذا ما بينه ماشري بوضوح في المبحث المعنون ب ” أسئلة وأجوبة “. فالعمل الأدبي هو هذا النوع من الإنتاج الذي يخضع ويستجيب لعدد غير نهائي من القراءات التي تكشف عن إيحاءات متعددة لانهائية، وهو إذا منح دلالته الحقيقية على ضوء أي مقاربة نقدية، سيكون نتاجاً ميتاً، وبالتالي سيفقد علة وجوده. إن العمل الأدبي يتم إنتاجه من عناصر لغوية، ومواقف إيديولوجية ومواد سيرذاتية، في التاريخ الأدبي، لكنه لا يُختزل في هذه العناصر، حسب ماشري، بل يقوم بتحويلها، لأن اللغة ليست مُعَدة لتقول الأشياء التي يفكر فيها الكاتب بالضرورة.
إن الفكرة المحورية في كتاب بيير ماشري ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” هي أن الأدب يمتح في الآن نفسه من اللغة العلمية واللغة اليومية والإيديولوجيا دون أن يتم اختزاله في أي منهما. لقد طرح بيير ماشري مسألة القراءة والكتابة، وخلخل استخدامنا للغة، نافياً أن يكون هناك تماثل بين عالم الأشياء وعالم الكلمات. لقد زعزع المفهوم الذي ترسخ عن اللغة مؤكداً عجز الكلمات على أن تقول الأشياء كما هي.
ومن هذا المنطلق، يرى بيير ماشري أن العمل الأدبي معقد في علاقته بالإيديولوجيا. لقد أوضح ماشري أنه حتى عندما يكون لدي الكاتب مشروع إيديولوجي كما هو الشأن مع جول فيرن الذي كان لديه مشروع إظهار غزو الطبيعة، فإن الحلول التي اختارها الكاتب لتشكيل عمله ” الجزيرة الغامضة ” جعلت الكتاب يقول شيئاً آخر غير ما أراد قوله الكاتب في البداية. فمنظور بيير ماشري مثير للاهتمام حيث يؤكد أننا لا نستطيع بكل بساطة نقل إيديولوجيا أو نظرية علمية إلى عمل أدبي. فهذا الأخير يتميز باستقلالية جمالية قائمة على التخييل والانزياح اللغوي الكفيل بتحويل الإيديولوجيا وتحريف مقصدية الكاتب.
أما في نقد ماشري للمنهج البنيوي الذي وسمه ب ” قبر البنيات “، فإنه يرى أن العلم الأدبي يجب أن يسائل اللسانيات البنيوية للتعرف على مادة العمل الأدبي. لكن في نظره لا يجب أن نطبق على الأدب الأسئلة نفسها التي تطبقها اللسانيات على اللغة. لأن المشكل ينشأ من التركيز على اللغة التي تتميز بلعب في نظام دلالاتها؛ فالناقد، مثل الكاتب، يستخدم مثله المواد نفسها واللغة نفسها، ومن هنا ينشأ الخلط بين القراءة التي هي شكل من أشكال الكتابة، والكتابة التي هي أيضاً شكل من أشكال القراءة، بالمعنى الذي يكون فيه الكاتب هو القارئ الأول لعمله.
ومن هذا المنطلق تبرز أهمية كتاب بيير ماشري ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” الذي قمنا بترجمته إلى اللغة العربية بعد مرور ما يقارب ستة عقود على صدوره في منشورات ماسبيرو (1966)، مشددين على مكانته داخل حقل سوسيولوجيا الأدب. تتجسد القيمة الحقيقية لبيير ماشري في كونه انتشل سوسيولوجيا الأدب من المقاربة الانعكاسية التمثيلية التي كانت تركز في دراستها للنص الأدبي على بعده الاجتماعي معزولاً عما هو فني وتخييلي، لأنه بالرغم من الجهد الذي اطلعا به جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان في تطوير سوسيولوجيا الأدب على صعيد القراءة الجمالية المحايثة للنص الأدبي، لكنهما لم ينجحا على صعيد الممارسة التحليلية، لكونهما ظلا أسيريْ الجمالية الهيغلية مما جعلهما يبحثان عن الوحدة والانسجام داخل الأعمال الأدبية.
ومن هذا المنظور فالمنعطف النوعي الذي اختطه ماشري في سوسيولوجيا الأدب يتمظهر تحديداً في انطلاقه من داخل البنية النصية اللغوية والسردية لإبراز كيف يفكك النص الايديولوجيا الجاهزة ويترك من خلال هذا التفكيك الذي تقوم به اللغة بياضات وفراغات وفجوات تسمح للمؤول اكتشاف الإيديولوجيا المغيبة. وهكذا استطاع بيير ماشري أن يزود النقد الاجتماعي بآليات تحليلية جديدة أدت لتطوير قراءته لكيفية تفاعل الاجتماعي والأدبي داخل البنية اللغوية للنص متقاطعاً مع ذلك مع بيير زيما الذي قام بالدور نفسه في تاريخ النقد الاجتماعي.
ويمكن أن نعُدّ كتاب ” من أجل نظرية في الإنتاج الأدبي ” من أهم الكتب في تفكير بيير ماشري النقدي قبل أن ينتقل إلى مرحلة أخرى من تفكيره مدارها الاهتمام بفلسفة سبينوزا والدراسات الفلسفية. تنبع القيمة الحقيقية لكتاب ماشري في كونه ظل محافظاً براهنيته وجِدته رغم تعاقب مناهج ما بعد البنيوية على النظرية الأدبية، لأن ماشري في تأكيده على أن النص الأدبي أثناء استدعائه للإيديولوجيا وتسريدها داخل النص الأدبي لا يحافظ لها على جهوزيتها، بل ينزاح عنها ويفككها بواسطة اللغة منتجاً إيديولوجيا جديدة تشي بها التفافات السرد وانزياحاته اللغوية والأسلوبية. إن بيير ماشري بتأكيده على هذا الطرح اختط الأرضية الأساس للتفكيك الذي ناهض بدوره كل المقاربات التي تنظر للنص باعتباره تمثيلاً لدلالات ناجزة معتبراً ذلك نوعاً من التمركز القبلي أو ما سماه جاك دريدا ميتافيزيقا الحضور منادياً بالمقابل بأن اللعب الحر للدوال يجعل دائماً الدلالة منزاحة ومراوغة باستمرار لحدية التأويل. وهنا يتقاطع بيير ماشري مع جاك دريدا في التأكيد على عدم جهوزية الدلالة داخل العمل الأدبي واتسامها بالانفتاح والتأجيل وتعددية القراءة، كما يتقاطع ماشري مع الناقد الألماني فولفغانغ إيزر مُنظّر جمالية التلقي في التشديد على أن المعنى ليس ناجزاً داخل النص، وإنما هو حصيلة سيرورة القراءة التي تحرره بدوره من القصدية الجاهزة، ويكون حصيلة للجهد التأويلي الذي يبدله الناقد في تنشيط بياضات النص وفراغاته لتوليد دلالات جديدة.
استناداً لكل هذه المعطيات تتجسد أوجه التقاطع بين بيير ماشري ونظريات ما بعد البنيوية في رفض القصدية الجاهزة للنص، وأيضاً في التنبيه لدور اللغة في إعادة إنتاج إيديولوجيا النص إنتاجاً جديداً ينزاح بها عن الأحادية ويشرعها على الانفتاح والتعدد.
وبالرغم من أن النقد العربي على صعيد ترجمة الأعمال النقدية الهامة داخل سوسيولوجيا الأدب قد قام بترجمة أعمال هامة لكل من جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وميخائيل باختين وبيير زيما، إلا أنه لم يلتفت للقيمة الحقيقية لهذا الكتاب مما جعله لا يستفيد كثيراً من كشوفاته في توصيف دور اللغة في التحرر من الايديولوجيا الجاهزة للكاتب وإنتاج إيديولوجيا نقيض تشي بها انزياحات اللغة والسرد.
ويمكن تفسير هذا القصور في ترجمة هذا الكتاب الذي حرصنا على ترجمته إلى اللغة العربية بكل ما يقتضيه الأمر من أمانة ودقة بعوامل عدة أولها أن بيير ماشري، حتى على صعيد المقاربة النظرية، لم يحظَ في النقد العربي بدراسات مستفيضة وجادة تضيء حقيقة إبداله التأويلي في تاريخ النظرية الأدبية والسوسيولوجية كما حظي بذلك بعض أعلام النقد الاجتماعي كجورج لوكاتش ولوسيان غولدمان وميخائيل باختين وتيري إيغلتون، باستثناء بعض دراسات جابر عصفور ومحمد برادة وحميد لحمداني، وهو ما جعل النقد العربي لا يستوعب حقيقة المنعطف الذي اختطه بيير ماشري داخل حقل سوسيولوجيا الأدب. وثاني هذه العوامل أنه في الوقت الذي نضجت فيه الترجمة العربية وبدأت تواكب تحولات النظرية الأدبية الغربية على صعيد التنظير والعمل على ترجمتها إلى اللغة العربية خلال الثمانينات من القرن العشرين، هيمنت مناهج ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة على النقد العربي مثل جمالية التلقي والتفكيك والسيميائيات، مما جعل النقاد العرب يرون في هذا المد المحتفي بالانفتاح الدلالي للنصوص ولانهائية التأويل تعارضاً مع دفاع بيير ماشري في هذا الكتاب عن ضرورة وصول المؤول في نهاية المطاف للمرجعية الحاسمة المتعلقة بالإيديولوجيا النقيض التي هي بمثابة لاوعي النص المغيب.
ومن هذا المنطلق أدى انبهار النقد العربي بمناهج ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة إلى عدم الالتفات لكشوفات هذا الكتاب ومكتسباته تنظيراً وإنجازاً. وفي هذا السياق تأتي أهمية ترجمتنا لهذا الكتاب، حيث ننشد من خلال ترجمته إلى اللغة العربية تحقيق الرهانات التالية :
أولاً الإشارة إلى حقيقة المنعطف النقدي الذي اجترحه بيير ماشري داخل سوسيولوجيا الأدب والذي يتقاطع عبره مع الناقد بيير زيما. وثاني هذه الرهانات التأكيد على أن هذا الكتاب لازال يحتفظ لليوم براهنيته وجِدته ولا يتقاطع فقط مع التفكيك وجمالية التلقي، بل حتى مع الدراسات الثقافية في تبئيرها آليات التأويل على الجوانب المقموعة والصامتة داخل العمل الأدبي. وتأسيساً على كل هذه المعطيات، من شأن هذا الكتاب أن يختط أمام الباحثين في النقد العربي منافذ وآليات جديدة لتعميق مقاربتهم لكيفية تقاطع الاجتماعي والأدبي داخل البنية اللغوية للنص ومن ناحية أخرى منحهم استراتيجيات جديدة لتأويل الدلالات المغيبة وراء مناطق الصمت والغياب في الأعمال الأدبية.