صدر للكاتب المغربي الزبير مهداد كتاب “محطات في تاريخ الفكر والتربية في الغرب الإسلامي”، عن دار نشر المعرفة بالرباط سنة2024م. وقد اختار أن يقسم الكتاب إلى حقب زمنية، حددها في أحد عشر حقبة، تبتدئ من القرن الثالث الهجري، وتنتهي في القرن الثالث عشر الهجري وقد نسب كل قرن إلى علم من أعلام الفكر والتربية في الغرب الإسلامي، حسب الترتيب الآتي: ابن سحنون، ابن الجزار القيروان ابن حزم، الإمام الباجي، ابن العربي، البلوي، ابن رشد، ابن عبدون، ابن الحاج، ابن الخطيب، الشاطبي، ابن خلدون، ابن الأزرق، الشوشاوي، المغراوي، ابن عرضون، ابن ميمون الغماري، اليوسي، العياشي، السلطان سيدي محمد بن عبد الله الحنبلي، الطرنباطي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الحقب مصدرة بمقدمة مركزة يليها مدخل عرف فيه الكاتب بأهم المصادر التي اتخذها متنا لدراسة الشروط التاريخية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، التي تحكمت في الموسوعة الفكرية، والذخيرة التربوية والعدة المنهجية، لأعلام الفكر والتربية في الغرب الإسلامي. والمتفحص لهذا السجل التحقيبي سيلاحظ خلو الفهرس الذي وضعه الناشر في الصفحة الأولى من الكتاب من مصطلحات درج الدارسون عادة وضعها في فهارسهم، من قبيل: الفصول، والأبواب، والأقسام، والمباحث. وهذا يدل على أن القارئ الفطن سيجد نفسه ملزما بتصنيف هذا الكتاب في زمرة الكتب التحقيبية التي تعتمد المدد الزمنية الطويلة في التأريخ لأعلام الفكر والتربية، التي نبغت في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية سياسيا على أساس أن الاستقرار السياسي يصاحبه نهضة ثقافية واجتماعية وتربوية، وهذه الفرضية قد تكون صحيحة في بعض جوانبها، ما جعل المؤلف ينطلق منها مقترحا هذا التحقيب الذي أسعفه إلى حد ما لتحديد الأعلام الرواد الذين نبغوا في الفقه، أو التعليم، أو الحوار، أو التسامح، أو فقه المقاصد، أو علم اجتماع التربية، أو التقليد، أو الثقافة. وقد اعتبر أن نبوغ هؤلاء الأعلام لم يكن ليتم على الشكل الذي تحدثت عنه المصادر لو لم يكن مقرونا بفكر موسوعي يقترن أساسا بالمناهج التربوية والتعليمية المعتمدة في الحقب التعليمية التي تعاقبت على الغرب الإسلامي والمقارنات التي لجأ إليها ابن العربي في هذا السياق بين الفكر والتربية في المشرق وبين الفكر والتربية في الغرب الإسلامي تندرج في إطار المفاضلة بين الحقب التاريخية التحقيبية ليس إلا.
إن الترجمة لعلم من أعلام الفكر والتربية في الغرب الإسلامي تتطلب عملا استدلاليا ينطلق من متن فكري وتربوي نشأ في حقبة تاريخية تنوعت معارفها، وثقافاتها، وعلومها العقلية، والنقلية، وهذا ما انبرى له المؤلف الزبير مهداد، فهو لا يطلق الكلام على عواهنه، بل يصوغ الأدلة والحجج، من مظانها، ومن ثمة كان لابد من صياغة مدخل تمهيدي، تناول فيه مفاهيم التربية، والتعليم، والتي استنبطها من الحقب التاريخية التي تحكم فيها ما هو سياسي، وخفت فيها الثقافي، والفكري، بشكل لافت. ولكي يعلي من الفكر الإسلامي والمناهج التعليمية، والتربوية، والدينية، حدد المصادر التي اعتمدها في تدقيق مفاهيم التربية، ونفض الغبار عنها، إيمانا منه بأهميتها في استجلاء المناهج التعليمية وصياغة مصطلحاتها بما يلزم من الدقة والموضوعية، وتنقيتها مما علق بها من أفكار مشرقية لم تجد موطئ قدم لها في الغرب الاسلامي، وخاصة في الأندلس، فالمثاقفة التي حصلت هنالك في مناهج التربية، والتعليم، نتج عنها مفاهيم مبتكرة، استجلاها المؤلف ووقف عندها مليا، شارحا، ومؤولا، وقارئا نموذجيا، لا يكتفي بالمرور عليها مرور الكرام، بل فحصها، وحللها تحليلا علميا استقرائيا، واسلوبه الحجاجي كان سلاحه لعقد مقارنات ذكية بين الثقافة التربوية المشرقية والثقافة التربوية في الغرب الإسلامي في القرن السادس الهجري حيث اتخذ من نموذج البلوي مثالا يحتذى.
لقد استوى عود المدخل التمهيدي في ثماني صفحات، فصل فيها المؤلف القول في مصادر الفكر التربوي كما صاغها الفقهاء، والمتصوفة الذين وضعوا قواعد السلوك، وكذا الأصوليون الذين نظروا للعقل. ثم انتقل للحديث عن الأدب، ومكارم الأخلاق، معرجا على الطب ورعاية النمو، فالفلسفة التي لم يعر لها كبير اهتمام، وأشار إليها باقتضاب شديد. وقد جال وصال في علوم التصوف لما لها من حضور في الفكر والتربية (من الصفحة10 إلى الصفحة16). وأعتقد أن هذا المدخل كان ضروريا ما دام أن المصنف قد استهواه التحقيب التاريخي للمناهج التربوية والتعليمية بشكل لافت.
إن المؤلف كان واعيا بأهمية تصنيف المناهج التعليمية والتربوية في القرن الثالث الهجري باعتبارها حقبة تربوية هامة في الغرب الإسلامي، ولم يجد بدا من منح ابن سحنون الريادة في فقه التربية، ومعنى الفقه هنا يقتصر على فهم البرامج التعليمية المستنبطة أساسا من تعاليم الإسلام، وقد اعتبرها مداخل لا مناص منها لوضع منهاج التعليم في الكتاتيب القيروانية؛ منهاج ينبني على تعليم وتحفيظ القرآن الكريم للناشئة، بالتركيز على القراءة الحسنة، والترتيل، والإعراب، وتعلم الأدب الذي يكسب الأخلاق المؤهلة للاندماج في المجتمع، وفق الخبرات الحياتية، ومعايير السلوك، أما باقي المواد التعليمية فلم تكن إجبارية، وإشراك الآباء في هذا الاختيار كان أمرا مرغوبا فيه، وقد الح ابن سحنون على جعل مسألة تدريس قواعد اللغة العربية بشكل مستقل عن حفظ القرآن الكريم مسألة اختيارية بالنسبة للصبيان، ولم يجبر الآباء على تعليم أطفالهم النحو، والكتابة، والخط، والشعر العربي العفيف. وأحرص ما كان يحرص عليه هو أن تقوم البرامج التعليمية والتربوية بوظيفة التنشئة الاجتماعية وفق معايير منظومة التعليم الإسلامي الذي لا يقتصر على تحفيظ النص القرآني، بل يتعداه ليشمل تدريس مواد اللغة، والآداب، والثقافة العربية، وتقنيات التواصل، والرياضيات. (ص 24-25).
وقد صار ابن الجزار القيرواني، الطبيب المربي، في الحقبة التربوية المعتمدة في القرن الرابع الهجري على النهج نفسه الذي صارت عليها الحقبة التربوية على امتداد القرن الثالث الهجري في الإعلاء من شأن المناهج التعليمية المرتبطة بالتنشئة الاجتماعية المحصنة بقواعد السلوك في فترة الطفولة المخصبة للعادات القوية التي تؤثر في الشخصية ؛هذه المناهج التي تحرص على تفادي التقصير في التربية لأن من شأن ذلك أن يجعل الصبي ينساق وراء المعتاد ويفقد البوصلة للاقتداء بالجماعة المتحلية بالعمل التربوي فيعسر عليه الرجوع إلى جادة الصواب ؛أي إلى الحياء، والألفة، والصدق، وابن الجزار هنا يقتدي بالمناهج التعليمية التي يتبناها الفلاسفة الأطباء الذين لا يكتفون بتقبل الأفكار بل يجعلونها لصيقة بالإجماع والابتكار، ومقصديته من ذلك هي تفادي الوقوع في الفجوة التي يمكن أن تصيب تاريخ الفكر التربوي بالغرب الإسلامي (ص36-38). وقد جعل من المؤسسة التعليمية فضاء يمارس فيه المنهاج التعليمي المقاومة السياسية للتأثير العبيدي في المجتمع والمؤسسة التعليمية القيروانية وقد كانت غاية هذا المنهاج التعليمي هو ترسيخ المذهب المالكي، ومحاصرة المذهب الشيعي، وفي هذه الحقبة التربوية تخلص القيروانيون من حكم العبيديين، وانتهى في مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية (ص45).
وقد سعى ابن حزم في الحقبة التربوية المعتمدة في القرن الخامس الهجري إلى بناء الشخصية القوية والسوية للمتعلم باقتراحه للمناهج التربوية والتعليمية الممجدة للمهارات الشخصية البناءة، فقد سعت هذه المناهج إلى ترسيخ مبدأ تقبل الذات، وتقديرها، والمعلم ملزم بإدارة الانفعالات، ومهارات التواصل مع الآخرين. لذا أقترح مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق والعلاقات الاجتماعية، والعلم، والأخلاق، من حيث ارتباطها بالحياة اليومية، وأسس لعلم النفس، ودراسة الصحة النفسية، ووضع قواعد علم النفس الإسلامي الذي يعالج اضطرابات فيزيولوجية عضوية في علاقتها بالتقاليد والمعايير الاجتماعية. (ص49-51).
وقد خص المؤلف الحقبة التربوية الممتدة في القرن السادس الهجري لاستجلاء معالم المناهج التعليمية لدى ابن رشد المؤمن بفضيلة الحوار وقبول الاختلاف، وقد صاغ آراءه في التربية بكل جرأة على الرغم من الصراعات السياسية والمذهبية المميزة لعصره، وأسس لمناهج تعليمية عقلية تنتصر لإدراك المجردات ومعرفة الكلي في مقابل المحسوس الجزئي بهدف البحث عن الحقيقة في كل أرجاء الكون، مقيدا بالإطار العام للفلسفة الإسلامية، ومنفتحا في الوقت نفسه عن الإرث الفلسفي اليوناني، ومؤسسا لمناهج تعليمية تتحدد وظيفتها في حفظ الناشئة في بدنها حفظا طبيا، وفي عقلها ولسانها حفظا تربويا أخلاقيا، وقد حرصت هذه المناهج على ضرورة الانفتاح على الآخر . (ص107)
وقد أقام ابن عبدون الرقابة على التعليم، ووضع شروطا صارمة تحكمت في صياغة مناهج تعليمية تعتني بالمعرفة الواسعة والشاملة والدقيقة وتتناسب مع السلطة التأثيرية للفقيه المعلم المحتسب. (ص124).
أما ابن الحاج فقد كان شاهدا على روح عصر الحقبة التربوية على امتداد القرن السابع الهجري، فقد أنعش الحضارة الإسلامية بمناهج تعليمية كشفت النقاب عن مساوئ العادات الشعبية، وأنماط الحياة والسلوك، والتقاليد السائدة في عصره. إنه كان يسعى من خلال هذه المناهج توفير تعليم جيد للمتعلمين في المدارس النظامية، وفي الحلقات العلمية، في المساجد لكبار المتعلمين. (ص129)
وفي القرن الثامن الهجري أسس ابن خلدون معالم حقبة تربوية متكاملة عمادها علم اجتماع التربية من خلال كتابه “المقدمة”، ولم تشذ المناهج التعليمية التي أصل لها عن أحوال الملك، والكسب، والعلوم، والصنائع، متجاوزا الحديث عن آداب المدرس والمحدث، والمتعلم، وسائر الأدبيات المتواضع عليها منذ قرون، إيمانا منه بلا جدواها في العملية التعليمية، وربط هذه المناهج بالعمران الإنساني، وبالتناسب المطرد للعلم والحضارة، وأثر البيئة الاجتماعية في التعليم. (ص178-182).
وقد اتخذ ابن الأزرق من التربية مدخلا لترسيخ الهوية في الحقبة التعليمية التي غطت القرن التاسع الهجري، لذا اعتمد في مناهجه التربوية على اللغة العربية المستوعبة لعلوم الإسلام ، وهي تتخذ من أهدافها المصرح بها اكتساب هذه العلوم من قبل المتعلمين في الأندلس باعتبارها مركزا ثقافيا هاما وهذا الاكتساب لا يتم إلا باللغة العربية التي تمثل روح الأمة (ص175)
وفي القرن العاشر باعتباره الحضن الذي يستوعب الحقبة التربوية انتشر الفكر الصوفي الذي أثر في المناهج التعليمية، كما نظر لها الشوشاوي، والمغراوي، وابن عرضون، الذين وضعوا قيودا صارمة لهذه المناهج التي تأثرت بتاريخ الفكر التربوي التعليمي، والذي لم ينفك على الإطلاق عن مدارك العقول، وحدود العلم والآداب الإسلامية.
وفي الحقبة التربوية التي يمكن تسييجها بالقرن الحادي عشر نبغ اليوسي المثقف العضوي، الذي أسس لمناهج تعليمية تجد سندها في شمولية مفهوم العلم باعتباره مدخلا مهما لتنمية العقل (ص253). ومركزا على الوظيفة الاجتماعية المنوطة بالعلماء الذين يتفاعلون مع الناس، ويبثون العلم في النسيج الاجتماعي، ويثرون الحياة العلمية، ويشيعون قيم التسامح والتعايش. (ص255).
ومناهج التعليم كما تمثلها السلطان سيدي محمد بن عبد الله الحنبلي في الحقبة التربوية التي تنتسب إلى القرن الثاني عشر، فقد كانت تشي بقوة شخصيته العلمية المستوعبة للثقافة العامة، متمثلة في التاريخ والأدب، وأخبار الناس وأيام العرب؛ هذه المناهج التي ضمنها خطة إصلاحية مبثوثة في دراساته الأدبية والفنية التي تهذب الذوق الاجتماعي، في مجالس علمية، تضم المثقفين والعلماء بهدف إغناء النقاش حول أوضاع البلاد. (ص 279).
ولم يتخلص الطرنباطي من وطأة التقليد في القرن الثالث عشر الذي أثث حقبة تربوية احتفت بالعلماء ومكانتهم الرفيعة في المجتمع . وقد ضمن مناهجه التعليمية أهدافا تربوية، انصبت في مجملها، على آداب المعلمين، وفضل العلم والتأصيل الشرعي للعلم والتعليم. (ص295).
وإجمالا يمكن أن نقر بأن كتاب “محطات في تاريخ الفكر والتربية في الغرب الإسلامي” لمؤلفه الرصين الزبير مهداد يؤصل لتجربة فريدة في تأصيل المناهج التعليمية وفق مقاربة شمولية، تستعين بأكثر من منهج علمي، وتتغيى البحث في المنعطفات التاريخية الكبرى التي أثرت في التحقيب التربوي في الغرب الإسلامي، انطلاقا من مرجعيات مختلفة، بعضها أصيل في الفكر التربوي الإسلامي، وبعضها وافد عليها من ثقافات يونانية، وأندلسية، ومغربية أصيلة.
امحمد امحور
أستاذ مبرز للتربية والتكوين وباحث في علوم التربية