صدر حديثاً، عن “منشورات المتوسط – إيطاليا”، مجموعة شعرية جديدة للشاعر الفلسطيني خالد جمعة، حملت عنوان: ” خالتي العنقاء“.
هذا نوع من الشعر يجعل القارئ يعرف صاحبه مباشرة أنه فلسطيني من غزة. في شهيقه وزفيره وكلماته ومجازاته وخلفياته وانحيازاته. فلا تغيب فلسطين وغزة ورفح ونابلس وجنين وغيرها عن قصائده، حتى لو لم يسمّ أياً منها باسمها، فالقارئ يعرف أن المقصود هو تلك المدن من آثار الدمار والموت والدماء وحزن الأمهات، ويعرفها أيضاً من نضالها ضد مستعمِر لا يفعل سوى أن يقتل ويدمّر…
نوع من الابتهال والتضرع إلى الله يكاد أن يضفي خاصته على مدار ديوانه “خالتي العنقاء” في إشارة، ربما، إلى فقدان كل أمل بشري في تخليص الفلسطيني من محنته المستمرة، فالعديد من المقاطع والقصائد تبدأ أو تتخللها كلمة “يا الله”، أو “أيها الرب”، واشتقاقاتها، مثل هذا المقطع الحادّ والمؤلم الذي أنهي به ديوانه:
“يا ربُّ، ها قد أرسلْنا لكَ “أحبابَك”
اعذرْنا، لم يكنْ لدينا الوقتُ ولا المعرفة
لنضعَ كلّ “شلو” للجسدِ الذي يتبعُ له
حين تصلُكَ أشلاؤُهُم
لَمْلِمْها بمعرفتِك”
كون الشاعر فلسطينياً من غزة، لا يعني أن قصيدته “نضالية” مباشرة، كما كانت، غالباً، قصيدة الرواد، بل تتقدم بلغة هي مزيج من البساطة والتركيب والمجاز والتدفق التي تنطوي على طبقات تتراوح بين النبرة الصوفية ونبرة اليومي، لتتحول الأفكار إلى أن تصير إنسانية بالمعنى العريض للكلمة، بقدر ما هي منتمية بقوة إلى الراهن الفلسطيني بدمائه وكفاحه كله.
لا عناوين للقصائد في هذا الديوان، بل مقاطع مرقّمة، بحيث يمكن اعتبارها قصدية طويلة واحدة بمقاطع عدة، ويمكن اعتبارها، كذلك، قصائد عدة مرتبطة بوحدة الموضوع ووحدة الخيار اللغوي ووحدة التطلّع.
في هذا المستوى الدقيق من انحياز الشاعر لناسه وبلده وانحيازه لذلك الخيار اللغوي اليومي والصوفي والفلسفي يعثر القارئ على ديوان ينكب على قراءته بمتعة وحزن ودموع.
أخيراً، صدر الكتاب في 168 صفحة من القطع الوسط، ضمن سلسلة “براءات” ضمن سلسلة “براءات”، التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية.
من الكتاب:
راقبْ جيِّداً
كيف ينمو وطنٌ بين جثثٍ وغاباتٍ محروقةٍ
كيف يَصنعُ سُعالُ عمِّي «العبد»
من أثر الدُّخان العربيِّ لحناً وطنياً
وكيف تطيرُ بَسْمَلَةُ أمِّي في الصَّلاةِ لتُلوِّن سحابةً
«روباس» خالتي «سُكَينة» وكلامها الذي من فضَّة
حين أَنبَتَ عَرَقُ جَبينِها مدينةً على شَتْلَةِ الرَّيحان
انتبهْ إلى عُرُوقِ الثَّوبِ الذي طرَّزتْهُ «أمُّ جبريل»
واضعةً حُزنَها ووصايا البحَّارةِ الكنعانيِّيْن
في جيبِهِ السِّرِّيّ
عليكَ أن تعرفَ قصصَ خالي
الذي ماتَ قبلَ أن يُحقِّقَ أُمنيَّاتِهِ الكثيرة
مثلَ أن يُغادرَ البلادَ ويعودَ إليها على ظَهْرِ حصان
أو أن يُغيِّرَ ببيدرِ القمحِ حقلَ زيتون
وأَنصِتْ لعمَّتي «سعدة»
وهي تروي الحكاياتِ لنا صغاراً
وتغفو قبلَ أن ينتقمَ البطلُ ممَّنْ سرقُوه
راقبْ جيِّداً، لا تُغمِضْ عينَك
فالأوطانُ لا تُخلَقُ مِن جديدٍ كلَّ يوم
فلا تُفوِّتْ هذه الذِّكرى مِن يدَيْكَ.
طنجة الأدبية