الهوية والأرض توأمان، لا يُمكن لهذا العالم الشرس والمتوحش أن يفصلهما عن بعضهما.هذا ما تناولته رواية (قناع بلون السماء) للأديب والأسير الفلسطيني الشاب باسم خندقجي. تلك الرواية التي انفلتت من ظلمات سجون الاحتلال، لِتُبهر العالم بإبداعها، ولتنال جائزة البوكر العالمية لأفضل رواية عربية لعام 2024.
هذا الفلسطيني القابع خلف قضبان لا ترحم منذ عشرين عاما، والمحكوم مدى الحياة ثلاث مرات، استطاع أن يسمو على القهر، ويسبح في فضاء الحرية من خلال هذا السرد الجميل المفعم بالأخيلة والتأملات في الموروث، وفي الذهنية الغيبية لمحتل يقبع في كهوف الوهم. هذا الأسير الذي جعل بطله يسمو على ظلمة هذا العالم الذي يختبئ في غياهب لا مبالاته وظلمه، أما هو وأبطاله فيتوهجون ويسمون بدلالات أسمائهم، مثل (نور) بطل القصة (وسماء)الفتاة الفلسطينية التي ظهرت في نهاية الرواية، إضافة إلى مراد ومرسي وأم عدلي. وكأنه يريد من خلال ذلك أن يتوهج ويطير في فضاءات شاسعة.
الروائي باسم خندقجي ينحت شخصية بطل روايته (نور مهدي الشهدي) على هيأته، ينفخ فيها روحا باحثة عن الجذر، متحررة من كل الأغلال التي تحبس الجسد، وتكمم الصوت،وتعتقل الروح. إنه نور الذي يصرخ:
“لن أسمح بالتطاول على المجدلية”
من خلال رفضه لِللوثة الرمزية التي سعى إليها الكاتب الأمريكي دان براون في روايته الشهيرة شيفرة دافنشي، والتي ينسف فيها ما هو سائد ومتعارف عن علاقة مريم العذراء بيسوع. إنّه السعي للاستقصاء الاركيولوجي بكل أبعاده، من خلال حفريات مختلفة تتراوح بين الخيال والواقع؛ عبر البحث الدؤوب عن البئر المقدسة، والعثور على الكوّة التي تُفضي للممر الواسع المضيء والحافل بكل روائح التاريخ التي اختبأت تحت ركام الزمن، كي تكون ردّا رافضا للمزاعم التي وردت في تلك الرواية والتي تسيء إلى مريم المجدلية.
أو من خلال التنقيبات التي قام بها معهد أولبرايت لمحاولة إثبات بعض الأوهام التوراتية التي يشتهى الاحتلال أن يتكئ عليها في (الحق الإلهي لامتلاك الأرض) بوصفها فردوس الميعاد! في مشاركة واعية انهمك بها البطل نور بعد أن ارتدى قناعا اشكنازيا في خضم تعريته لمزاعمهم، وبحثه عن بقايا وآثار القرى الفلسطينية التي دمروها، فاندثرت بفعل عوامل طمس الهوية الجغرافية والتاريخية.
لقد تتبع الكاتبُ خطأً سرديا متداخلا في الأحداث ومشتبكا في الأزمنة، عن طريق إلقاء الضوء على طريقة الاضطهاد التي ينهجها المحتل، والفصل العنصري الذي يسلكه تجاه الفلسطينيين، من خلال اعتقال صديقه مراد، حينما كانا في طريقهما إلى تناول الفطور في إحدى أماسي رمضان، ولكن الجند المدججين بالسلاح والحقد، اعتقلوا رفيقه قبيل أن يبل شفاهه من عطش الصوم، وألقوه في غياهب السجون، وبقيت أمه الصائمة تعيش في لهفة الانتظار وفجيعة الغياب، وقد وصف تلك اللحظات، وأضاف إليها محنتها وهي تذهب لرؤية ولدها كل شهر، لتستمتع ببعض رؤيته من خلال الزجاج العازل لخمس وأربعين دقيقة فقط، في رحلة شاقة في الحافلة التي تستمر ثمان ساعات ذهابا وإيابا.
ومن خلال الرسائل التي يتبادلها نور مع مراد نكتشف الكثير من سير الرواية، وتراكم الأحداث، وبناء هذا النسيج السردي الذي لا يخضع لتتبع واضح في ميزان الزمن،بل يقفز من مساحة إلى أخرى. ورغم أن مراد كان من عناصر الرواية المهمين، لكن شخصيته تنمو من خلال المراسلة المشفّرة التي تشي لنا ببعض ملامح مراد المغيبة، ولكنها واضحة في عمق وعيه بعدالة قضيته، لذلك نراه يلح على التحصيل العلمي واختيار الشهادات التي لها علاقة برفض الجهل، والتسلح بالعلم الذي يعتبر جوهرا للنضال ،ولعل ذلك يفسر تحفظ مراد على اهتمام صديقه نور بدراسة الآثار.
يتذكر نورٌ أباه الذي خرج من السجون الإسرائيلية وهو حطام بشري،ولكنه لم يجد سوى عربة لبيع الشاي في الطرقات (مكافأة) لنضاله من قبل رفاق دربه! لقد بقي الأب غير متصالح مع واقع ما بعد الأسر، وغير قادرعلى البوح بما يعاني من نسيان وتهميش،لذلك ظلّ فريسة للصمت، لا يكلم أحدا حتى أهل بيته، إنه الإحباط في عالم غير متوازن، يتم فيه تهشيم الأجيال وتفريغها مما تبقى من مشاعرها وكرامتها والاحساس بقضيتها العادلة.
لقد استغل نور مظهره الشبيه باليهود النازحين من أوربا (الاشكنازيين)، في بياض بشرته ولون شعره وعينيه، فتلبس هذا القناع من التمويه، والذي أنقذه من مواقف مختلفة في القدس ورام الله، من شراسة عيون شرطة الاحتلال، حيث حملات التفتيش في الشوارع ومراكز التسوق والمعابر، فتعتقل الشباب العرب، ولكنهم يتجاوزونه لاعتقادهم أنه يهوديٌ. ولكي تبلغ لعبة التمويه مَدَياتِها، فقد عثر على بطاقة هوية في جيب سترة اشتراها من متاجر الملابس المستعملة، وكانت لشخص من المستوطنين، يُدعى (أور شابيرا). وهكذا ساهمت هذه الصدفة في تكريس لعبة التمويه، ومنذ تلك اللحظة استعار القناع بشكل أعمق حاملا الاسم المزوّر والهوية المزوّرة، متسللا من خلالهما إلى هذا العالم الكولونيالي،هامسا لنفسه:
“للاسم مناعةٌ وللقناع حصانةٌ” ورغم معرفته بفداحة هذا الأمر، فقد سار به إلى نهاياته، مقتنعا بأن يجب أن يحارب العدو بأدواته، ومنها هذا القناع المزيف الذي يسعى من خلاله تعرية من ربضوا على أرضه وشوّهوا تاريخها، مرتدين أقنعة العدل والمساواة والديمقراطية.
اشتغل نور مهدي الشهدي/أور شابيرا مرشدا سياحيا، بمساعدة مرسي ذي الإصول المغربية،حيث توسط له لأن يحصل على هذا العمل، تسعفه في ذلك لغته الإنجليزية، ونبرته العبرية الأشكنازية. ولكنّه حينما ذهب مع السياح الأمريكيين ليشرح لهم مناطق أثرية تدعى (دروب شمشون الجبار التوراتي) ولكنّه لم يتحمل عبء القناع، فصرخ بالحقيقة أمام السياح الذين ذهلوا من صراحته قائلا لهم: بأنهم يقفون الآن على أطلال قرية عربية اغتصبها الصهاينة، وإن درب شمشون ما هو إلا كذبة لا دليل على صحتها.
لقد تجلى الصراع النفسي لدى نور وهو يتلبس شخصية أور، لا يعرف منها إلا هويتها التي تتيح له أن يسير ضمن خطوات شبه واثقة في مسار رخوٍ ومشحون بالاحتمالات.
ثمة حوار الهوية المنشطرة والمتشظية، بين أور المالك الاسمي لهوية لا يستحقها، بسبب التزييف التاريخي الذي صنع شعبا وهوية ودولة. وبين نور الشهدي الذي ينتمي إلى الشعب الذي اُنتزعت منه هويته وأرضه. لاشك أنه نوع من المفارقات الغريبة والتي جعلت نور يذهب بعيدا في لعبة التقمص، وذلك في طلبه لأن يعمل في (معهد أولبرايت) والذي يقع في معسكر الكيبوتس ضمن مستوطنة، تعتبر خندقهم الأول، نظرا لسرية العمل فيها. ولكنّ نور ذهب في مغامرته إلى النهاية، وهناك يتعرّف على أعضاء البعثة من الإسرائيليين والأوربيين والأمريكان، وقد تعرف على فتاة يهودية تُدعى أيالا، والتي تنتمي إلى اليهود الشرقيين، ومن خلال علاقة الزمالة بينهما، يكشف الكاتب عن عمق التشظي في المجتمع بين اليهود الانكشازيين وبين الشرقيين، وعمق التمايز بينهم،كما كشف أيضا عمليات غسل الدماغ لجيل الشباب في حق الصهاينة بطرد العرب واضطهادهم، وهذا ما وجدناه في حوارات زملاء البعثة، ووجهات النظر المتطرفة للفتاة الاسرائيلية أيالا. وفي هذه اللحظة تبرز لنا شخصية جديدة في مسار الرواية وهي شخصية (سماء) الفلسطينية والحائزة على الجنسية الإسرائيلية والتي تعمل ضمن البعثة المذكورة. ولكنّها قد حافظت على سماتها ومواقفها من خلال حجابها، وانزوائها على نفسها، ورغم رغبة نور الشهدي بالتقرب منها، ولكنها كانت تنظر إليه كشخص إسرائيلي متعجرف، يرطن بلهجته وهيأته الإشكنازية، ناهيك عن أن اسمه أور شابيرا. وحينما أراد أن يكشف نفسه لها على أنه فلسطيني،لم تصدق سماء ادعاءه بأنه فلسطيني، ورفضته متهمة إياه بالخيانة، أو أنه من ضباط الشاباك. ولم تفد حججه بأنه يرتدي القناع فقط لتحقيق بحثه عن هويته التي ضاعت.
لقد استطاع الكاتب أن يوظف الحوار الساخن بين نور الذي يرتدي قناعهم دون أن يحمل هويتهم، وبين سماء التي تحمل هويتهم، ولكنها تنتظر الفرصة لكي تتخلص من هذه الهوية التي تعتبرها عارا، لاسيما وأنها وشمت على ذراعها هذه العبارة (حيفا 1948) مما جعل نور يهمس لنفسه:
“لو لم تقع المحرقة لما وشمت سماء ذراعها بهذا الوشم”.
ولعل الكاتب يريد أن يقول بأن جريمة المحرقة ضد اليهود، قد حوّلت الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم إلى كبش فداء، كي يتخلص الغرب من عبء آثامه،وذلك بإيجاد وطن لليهود في أرض فلسطين.
لقد جاءت رواية (قناع بلون السماء) كوثيقة أدبية لإدانة الاحتلال، ولتعرية الأقنعة التي سوّقها عبر ماكنته الإعلامية الضخمة التي طالما بثت الأكاذيب عن ديمقراطيتهم المزعومة، كما أن الكاتب قد شحن روايته بالكثير من الرموز الفكرية والدينية، وقد تصدى للكثير من الظواهر في أسلوب روائى فني،وتكنيك يشد من انتباه القارئ ويجبره على تتبع الرموز والمعاني المشتبكة في النص.
أرى من الطبيعي أن تحصل هذه الرواية على جائزة البوكر لهذا العام. وذلك لعمق التزامها بقضية إنسانية كبرى، ولأنها تمتلك الألق الفني والعمق الفكري الذي يؤهلها لهذا الفوز، يُضاف إلى ذلك أنها تزامنت مع الدمار الذي يمارسه الاحتلال في تدمير غزة وقتل الأبرياء فيها.
رحمن خضير عباس