صدر حديثاً، عن “منشورات المتوسط – إيطاليا”، كتاب جديد للكاتب المغربي محمد المصباحي، بعنوان: في الحق والعدل عند ابن رشد وأمارتيا سن.
يقدّم الكتاب لوحتَيْن متقابلتَيْن لمطلب الحقّ والعَدْل وما يتّصل بهما: لوحة رائدها ابن رُشْد، تَعْرض لمطلب الحقّ والعَدْل من زاوية تقابل العقل والوحي، اللوحة الثانية قائمة على تقابل العقل التنويري وعقل ما بعد التنوير، ويمثّلها المفكّر الهندي أمارتيا سن. تضمّ اللوحة الأولى ستّة عشر فصلاً، تتوزّع على قسمَيْن، يبحث القسم الأوّل في الحقّ في أربعة فصول منها، ويعكف القسم الثاني على النظر في العَدَالَة في سبعة فصول. أمّا الملاحق الخمسة، فتتطرّق إلى العَدَالَة عند أمارتيا سن.
لم يعد من الممكن أن نردّ الحقّ والعَدْل والعقل إلى مبدأ خارج عن الثقافات ورؤى العالم والآراء والأحكام الُمسبَّقة. ومن ثمّ أصبح العقل عقولاً، والحقّ حقوقاً، والعَدَالَة «عَدَالَات». في النهاية، ليس الإنسان بما هو إنسان هو مَن يُضفي هذه القِيَم على الأشياء والأفعال والعلاقات والانفعالات، وإنما الإنسان بما هو منتمٍ إلى ثقافة ما. لكنْ، ليس معنى هذا أنه تمّ إلغاء وجود ماهية للحقّ والعَدْل والعقل، تحقّق حولها إجماع الشعوب والثقافات والعقول كلّها، فالنَّواة التنويرية لهذه القِيَم غير قابلة للانقراض.
هذا الكتاب ينتقل بنا بين أفقَيْن ثقافيَّيْن متقابلَيْن، أفق الثقافة التراثية التي مثّلها ابن رُشْد الذي انطلق من فكرة وحدة العقل لإثبات وحدة الحقّ والعَدْل، ولكنْ، وجد أمامه الشريعة التي لها معاييرها الخاصّة في الحقّ والعَدْل؛ وأفق الثقافة الحداثية التي جسّدها أمارتيا سن الذي كان همّه الوحيد هو إثبات تعدّد مفاهيم العَدَالَة بناءً على تعدّد مفاهيم العقل، لكنْ، بتحقيق نقلة مَرِنَة من الفكر التقليدي إلى الفكر الحديث، أو عقد مصالحة بينهما على أساس قبول التعدّد. انتقل أمارتيا سن من عقيدة وحدة العَدَالَة وما يتّصل بها إلى أفق الاختلاف في الحقّ والعَدْل والحرّيّة انطلاقاً من تعدّد العقل والقدرة بين الثقافات المختلفة. هكذا أنتج احتكاك العقل بالوحي إشكالات مختلفة جذرياً عن إشكالات احتكاك العقل التنويري بعقل ما بعد التنوير.
أخيراً، جاء الكتاب في 208 صفحات من القطع الوسط.
من الكتاب:
لا يغدو العَدْل إشكالاً، أي موضوعاً فلسفياً، إلّا إذا تحوّل إلى ظلم، أو إذا أوشك أن يصير كذلك؛ وبالتالي فإن الموضوع الحقيقي لصناعة العَدْل هو الظلم، وهو الأمور الخارجة عن حدّ الاعتدال بالتعدّي على حقوق الغير وإلحاق الأذى بهم، أو الإخلال بمبادئ الشريعة أو ممارسة الاحتيال والكذب وانتهاك العقود والمواثيق. من أجل هذا كان الأمر في صناعة العَدْل كالأمر في صناعة الطبّ، فكما إن «الأمزجة الخارجة عن الاعتدال الإنساني هي التي تنظر فيها صناعة الطبّ» لعلاجها بالرجوع بها إلى حال الاعتدال، فكذلك مهمّة صناعة العَدْل هي علاج الظلم بإزالة أسبابه ومظاهره على مستوى الأفراد والدولة. نعم، التناظر الضّدّيّ بين العَدْل والظلم يحكمه مبدأ جدلي ينصّ على «أن لعلم واحد النظر في المتضادَّيْن معاً»، ومن ثمّ لا يمكن النظر في أحد الضِّدَّيْن إلّا من خلال الضِّدِّ الآخر؛ إلّا أنه إذا كان أحد الضِّدَّيْن أظهر من الآخر، يتعيّن إعطاء الأولوية للأظهر لجعله مرشداً لمعرفة الأخفى، والحال أن الظلم أظهر من العَدْل، وهو ما يُوجِب علينا أن نبدأ بالبحث عن حقيقة الظلم، عساها تهدينا لإدراك ماهية العَدْل.
عن الكاتب:
الأستاذ الدكتور محمد المصباحي: مواليد القصر الكبير في المغرب عام 1945، حاليا هو أستاذ التعليم العالي بقسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة محمد الخامس في الرباط. شغلَ العديد من المهام الأكاديمية في تاريخه المهني.
صدر له: الذات في الفكر العربي الإسلامي 2017، وجدلية العقل والمدينة في الفلسفة العربية المعاصرة 2013، ونعم ولا: ابن عربي والفكر المنفتح 2012، ومن الوجود إلى الذات: بحث في فلسفة ابن رشد 2006، ومع ابن رشد 2006، والعقل الإسلامي بين قرطبة وأصفهان 2006، والواحد والوجود عند ابن رشد 2002، والوجه الآخر لحداثة ابن رشد 1998، وتحولات في تاريخ الوجود والعقل: بحوث في الفلسفة العربية الإسلامية، 1995، ودلالات وإشكالات 1988.
طنجة الأدبية