يعد كتاب الشعر والشعراء لمؤلفه ابن قتيبة الدينوري من أهم الكتب التي ترجمت للشعراء، وقد امتاز الكتاب بمقدمة نقدية قيمة بين من خلالها منهج الكتاب والغرض من تأليفه حيث يقول: “هذا الكتاب ألفته في الشعر، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم و أقدارهم و أحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم و اسمائهم و آبائهم ، و من كان يعرف باللقب أو الكنية منهم ، و عما يستحسن من أخبار الرجل و يستجاد من شعره و ما أخذته العلماء عليهم من الغلط و الخطأ في ألفاظهم و معانيهم ، و ما سبق أليه المتقدمون فأخده عنهم المتأخرون . و أخبرت فيه عن اقسام الشعر و طبقاته ، و عن الوجوه التي تختار الشعر عليها و يستحسن لها …”
في هذا المقال سنحاول معرفة المعيار الذي اعتمده ابن قتيبة في تقسيمه للشعر ؟ وهل كان موضوعيا أم أترق في ميولاته الذاتية ؟
يقول ابن قتيبة: ” تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب : ضرب منه حسن لفظه و جاد معناه كقول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجمعي جزعا إن الذي تحذرين قد وقعا
وضرب منه حسن لفظه و حلا و إذا انت فتشته لن تجد هناك أي فائدة في معناه كقول القائل:
و لما قضينا من منى كل حاجة و مسح بالأركان من هو ماسح
و شدت على حدب المهارى رحلنا و لا ينظر الغادي هو رائح
أخذنا بأطراف الحديث بيننا و سالت بأعناق المطي الأباطح
وضرب منه جاد معناه و قصرت ألفاظه كقول لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه و المرء يصلحه الجليس الصالح
و ضرب منه قصرت ألفاظه و تأخر معناه، كقول الخليل بن أحمد الفراهيدي :
إن الخليط تصدع فطر بدائك أوقع
إن الصنف الثاني من أقسام الشعر عند ابن قتيبة تضمن أحسن الألفاظ مخارجا و مطالعا، وإن نظرت إلى ما تحتها من معنى نجد حسب تفسيره ” و لما قطعنا ايام منى ، و استلمنا الأركان ، و عالينا إبلنا الأنضاء ، و مضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح ، ابتدأنا في الحديث و سارت المطي في الأبطح”
إذا قمنا ب المقارنة بين أمثلة أضرب الشعر عند ابن قتيبة، و على وجه التحديد الأبيات التي تمتلك جودة في المعاني ، فغالبا ما نجد تلك المعاني تدل على الموعظة و الإرشاد و النصح و مكارم الأخلاق ، على عكس الابيات الاخرى التي تأخرت معانيها ، و من خلال هذا يتضح ان ابن قتيبة لم يكن موضوعيا في نقده، بل كان تحت ضغط سيكولوجي حيث تحكم فيه ميوله لمذهبه السني، لأنه كان أحد أئمة السنة. و عدم قدرته على الانسلاخ من مذهبه و ممارسة النقد من منظور إيديولوجي جعله ينجر وراء المضمون الاخلاقي للنص و إغفال الجانب الجمالي، و هو ما يدل على أن ابن قتيبة لم يحدث أي تطهير أو إصلاح في بنيته الفكرية. إن ما يؤكد هذا الكلام هو الرد الذي جاء به الجرجاني على ابن قتيبة شارحا الأبيات شرحا بلاغيا لا لغويا ليبين جودة المعنى قائلا: “راجع فكرتك و اشحذ بصيرتك و أحسن التأمل و دع عنك التجوز في الرأي ، ثم انظر هل تجد لاستحسانهم و حمدهم و ثنائهم و مدحهم منصرفا ، إلا ان الاستعارة وقعت موقعها و اصابت غرضها ، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل المعنى على القلب مع وصول اللفظ الى السمع ، و استقر الفهم مع وقوع العبارة في الأذن ، و إلا إلى سلامة الكلام من الحشو الغير المفيد . “
إن رد عبد القاهر الجرجاني هذا أكد لنا مدى تأسن ابن قتيبة في تقسيم الشعر، باعتبار مذهبه مذهبا نفعيا براغماتية لا يهتم لا بما هو متعلق بالموعظة و الإرشاد و مكارم الأخلاق .
وحتى نمحص صحة كلامنا في هذا المقال سنحاول مقارنة الأبيات أعلاه بأبيات شعرية من أحد أضرب الشعر التي وضعها بن قتيبة، فعلى سبيل المثال نأخذ الضرب الذي حسن لفظه و جاد معناه :
أيتهـــــا النــــفس أجملي جزعا إن الذي تحـــــذرين قــد وقعا
“تقول العرب: الحذر أشدُّ من الوقيعة، وإنّما حق الشيء المتخوف أن يكون صاحبه مرتاعًا حذر وقوعه، فإذا وقع البأس ارتفع ذلك الحذر.
إن البيت قاله صاحبه في مطلع قصيدة رثاء يصبّر نفسه على ما أصابها من فجيعة ويحثها قائلًا: أيتها النفس، إياكِ والإفراط في الحزن، بل تجمّلي فيه واصبري، ألستِ كنتِ تحذرين الفقد وتخافينه؟ ها قد وقع ما كنت تخافين، فما جدوى الجزع والحزن الآن؟
فهنا نلاحظ أن البيت الشعري يحث على قيمة الصبر وهو من القيم التي حث عليها الدين الإسلامي ، فالفرق بين هذا البيت والأبيات الثلاثة الأخرى هو حضور الأخلاق، فإذا كان المعنى يحتوي مكارم الأخلاق فإن معناه جيد، وإذا غابت فإن المعنى يصبح رديئا.
قد يرى البعض أن ابن قتيبة لم يقسم الشعر وفقا لمذهبه بحجة دراسته لتصوير ابي نواس للخمر و الكؤوس دراسة بلاغية معيارها الجانب الاستعاري التخييلي، و لكن السياق يختلف، فالحكم الذي أطلقه الدينوري على ابيات ابي نواس لم تكن في سياق تقسيمه للشعر .
مروان الخفيف