أصدرت دار هاشيت أنطوان / نوفل، في بيروت، رواية جديدة للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج بعنوان “كهف الألواح”. تمثل هذه الرواية انطلاقة سلسلة جديدة بعنوان “نوفيلا – الرواية القصيرة”، بهدف إثراء المشهد الأدبي العربي بروايات قصيرة على غرار نماذج بارزة عالميًّا مثل “موسم الهجرة إلى الشمال”، “التحول”، “مزرعة الحيوان”، “الشيخ والبحر”، وغيرها.
تنتمي الرواية، كأغلب روايات الكاتب احجيوج إلى أدب ما بعد الحداثة الموسوم بالتجريبية والخوض في عوالم سردية غير مألوفة، وهو أمر سبق أن أشاد به نقاد عرب في حق روايات سابقة للكاتب، مثل شهادة الناقد أنطوان أبو زيد: “ما يطرحه الكاتب محمد سعيد احجيوج، أو يجربه في بناء الرواية العربية، هو أن يدخل إليها عناصر ليست من طبيعة السرد، أو أي من أساليب القص المألوفة […]”.
في هذه الرواية، ينطلق القراء في رحلة فكرية محيرة عبر ألغاز الذاكرة ومفارقات القدر. تبدو الدلائل ملتبسة بشكل مقصود، محفّزة القرّاء على فك الأسرار المخبأة في كلمات احجيوج. من خلال سرده المحبوك، يسلك احجيوج مسارات متشعبة في عوالم الذاكرة، مازجا بين الواقع والخيال، داعيا القرّاء إلى التساؤل حول طبيعة الحقيقة نفسها.
يقدم كل فصل في “كهف الألواح” سلسلة من اللحظات السردية، المتكررة في حركية دائمة من العود الأبدي، حيث تتغير الشخصيات والأحداث بشكل طفيف مع كل إعادة سردية. من خلال هذا التكرار، تتحول القراءة إلى تجربة تحويلية، تمحو الحدود بين الكاتب والقارئ، يصير القارئ خلالها كاتبا هو الآخر لنص منفتح على التأويلات.
أعمال احجيوج السابقة، بما في ذلك “كافكا في طنجة”، و”أحجية إدمون عمران المالح”، و”ليل طنجة”، حازت على استحسان النقاد والتقدير الدولي، مع ترجمات لعدة لغات.
نبذة الناشر:
كأن هناك من يتعمّد محو الدلائل التي تتوارى كلّما تقدّمنا في قراءة رواية الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج. من يكتب من؟ ومن يقبع في ذاكرة من؟ من يقفز من الشرفات؟ ومن يخُفي الجثث التي تسقط؟ قد يشعر القارئ بأنه يحتاج دليلاً لقراءة هذه الرواية. ففي تقنيّته الروائيّة المُحكمة، يتتبع احجيوج مسارات ومتاهات الذاكرة، واحتمالاتها الفالتة من أيّ سياق زمنيّ منطقيّ. لن يقدّم أحد لنا الدليل على أنّ ما حدث قد حدث حقّاً. هناك مجموعة من القصص التي لن نكتشف الرابط بينها إلا لاحقاً، رغم أنّ النهاية قد تكون مجرّد بداية أخرى.
الرواية عبارة عن حركاتٍ سرديّة، أقرب إلى مشاهد تتكرّر في الرأس، لكن مع اختلافات بسيطة في كلّ مرّة، تظهر إمّا بتبدّل ملامح إحدى الشخصيّات وإمّا بتغيير اسمها، أو في تفاصيل من تاريخها العائلي. الأحداث التي تجري هي الثابت الوحيد. ومن خلال تكرارها، تصير القراءة والكتابة فعلاً واحداً. فالكتابة تبدو أقرب إلى استجابة قهريّة لنصّ يُملى على الكاتب، لنصّ أنجز مسبقاً، ولعلّ الكاتب، ليس إلّا شخصيّة أخرى في قصّة أحدهم، حيث الألواح القابعة داخل الكهف تنطوي على كلّ المصائر، وحيث الحياة هي أيضاً كتاب واحد بصفحات لا نستطيع حيالها شيئاً سوى ملء الفراغات بأسمائنا.
سيرة الكاتب:
صدر للكاتب محمد سعيد احجيوج: رواية “كافكا في طنجة” (الطبعة الأولى: ديسمبر 2019)، (الطبعة الثانية: مايو 2024). ترجمت الرواية إلى الإنجليزية واليونانية، مع مقتطفات بالعبرية والإيطالية. رواية “أحجية إدمون عمران المالح” (بيروت، 2020). تأهلت الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية (2022)، وصدرت بالعبرية (القدس، 2023). رواية “ليل طنجة” (القاهرة، 2022). حصل مخطوط الرواية على جائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة (2019). رواية “متاهة الأوهام” (بيروت، 2023). ثم أخيرا، رواية “كهف الألواح” (بيروت، 2024).
مقطع من الرواية:
استيقظتْ ولمْ يكنْ حلمًا. أوْ بالأحرى لمْ يبدُ كأنَّهُ حلمٌ، بلْ حياةً عاشتها. هيَ خلودٌ. اسمُها خلودُ العمراني. تبتعدُ حثيثًا عنْ الثلاثينَ نحوَ سجنِ الأربعينَ، مطلقةٌ أوْ ربما ليسَ بعدُ. خلودٌ هيَ أنا. لكِّنني أكتبُ بضميرِ الغائبِ سعيًا إلى موضوعيةٍ أكبرَ؛ للوصولِ إلى الحقيقةِ المجرّدةِ التي تطلبُها سيدِي المفتشَ، ولوْ أنَّ الحقيقةَ الوحيدةَ الثابتةَ هيَ أنَّهُ لا حقيقةَ مطلقةٌ، أوْ مجردةٌ، يمكنُنا أنْ نحيطَ بها. الحقيقةُ وهمٌ. نعمْ سيدِي المفتشُ، وهمٌ، وها أنتَ بنفسكَ تقرأُ ما أكتبُ من حقائقَ مفترضةٍ، أو حكاياتٍ متداخلةٍ، أظنكَ لن تُخرجَ منها خيطًا واحدا سليما إلّا بشقّ الأنفسِ.
الآنَ، ترتبُ خلودُ أفكارَها على الورقِ. الحقيقةُ الأولى: جثةُ إيزل اختفتْ. الحقيقةُ الثانيةُ، ويفترضُ أنَّها الأولى: عدنان تبخّرَ وما عادَ لهُ وجودٌ. الحقيقةُ الثالثةُ: ثمةَ جثةُ رجلٍ إسبانيٍّ. هذهِ الحقيقةُ الثالثةُ هيَ كلُّ ما يهمُّ المفتشَ. هوَ لا يعرفُ عدنان، ولا يهمُّهُ البحثُ عنْ جثةِ إيزل التي لا يعتبرُها موجودةً خارجَ عقلِ خلودٍ، وما يريدُهُ هوَ أنْ تفصّلَ خلودٌ، أنْ تكتبَ اعترافًا مفصلًا، عنْ علاقتِها بالجاسوسِ الإسبانيِّ ومقتلِهِ.
ثمةَ حقيقةٌ أخرى، الحقيقةُ الصفرُ لوْ صحتْ التسميةُ، هيَ أنَّها سجينةُ هذهِ الغرفةِ البيضاءِ. كأنَّها غرفةُ مستشفىً. كيفَ وصلتْ إلى هنا هوَ أمرٌ لا تتذكرُهُ. ما تتذكرُهُ الآنَ هوَ أنَّها ملزمةٌ بتنفيذِ رغبةِ/طلبِ/أمرِ هذا المفتشِ. الذاكرةُ، حسبما تعرفُ خلودُ، محضُ وهمٍ. خلودٌ متأكدةٌ منْ ذلكَ. نحنُ بارعونَ جدًا في اختلاقِ الذكرياتِ. استرجاعُ الذكرياتِ خلقَ لها، تزييفٌ لها. كلُّ ما نسترجعُهُ محضُ وهمٍ. أكاذيبٌ. معَ ذلكَ، هيَ لا تملكُ الآنَ إلا الأقلامَ والأوراقَ والاستجابةَ القهريةَ للأمرِ أنْ تكتبَ. لكنَّ العائقَ الأولَ هوَ أنَّها، معَ كلِّ تلكَ الأحلامِ المتداخلةِ، لا تعرفُ هلْ استيقظتْ الآنَ، أمْ ما تزالُ تعيشُ حلمًا ما.
تدركُ الآنَ، وتشعرُ بمأزقِ جوانج زي: “رأيتُ أنا جوانج زي مرةً في منامِي أَنّي فراشةٌ ترفرفُ بجناحيْها في هذا المكانِ وذاكَ، أَنّي فراشةٌ حقًا منْ جميعِ الوجوهِ. ولمْ أكنْ أدركُ شيئًا أكثرَ منْ تتبعي لخيالاتِي التي تشعرُني بأَني فراشةٌ. أما ذاتيتِي الإنسانيةُ، فلمْ أكنْ أدركُها قطُّ. ثمَّ استيقظتُ بغتة وها أنا ذا منطرحٌ على الأرضِ رجلًا كما كنتُ، ولستُ أعرفُ الآنَ هلْ كنتُ وقتئذ رجلًا يحلمُ بأنَّهُ فراشةٌ، أمْ أنَّني الآنَ فراشةٌ تحلمُ بأنَّها رجلٌ”.
هذا الابتعادُ لا يسمحُ لي بحريةِ تدفقِ الأفكارِ. التفكيرُ فيها منْ زاويةِ راوٍ غائبٍ يخلقُ حاجزًا أمامَ ما يمكنُ تذكّرُهُ وطبقةً إضافيةً منْ التعقيدِ. كلا. العودةُ إلى ضميرِ المتكلمِ أنسبُ.
طنجة الأدبية