مداخلات ومقاربات ضمن فعاليات الدورة الخامسة للندوة الوطنية الكبرى “ذاكرة شعرية”
عن بناء المعنى والمنحى الذاتي والحزن المشترك
احتضن مدرج الشرقاوي إقبال، في رحاب كلية اللغة العربية بمراكش، فعاليات الندوة الوطنية الكبرى “ذاكرة شعرية” في دورتها الخامسة، والتي نظمتها دار الشعر بمراكش صبيحة يوم الأربعاء 28 فبراير، بتنسيق مع كلية اللغة العربية وبيت الشعر في المغرب. وشارك في هذا اللقاء العلمي ثلة من الأساتذة والباحثين والشعراء، الباحث الدكتور محمد عيناق والباحثة الدكتورة عتيقة السعدي والباحث الدكتور علي الخاميري والشاعر اسماعيل زويريق. وخصص محورها ل”القاضي عياض شاعرا”، من خلال أوراق نقدية قاربت واستقصت المنجز الشعري للقاضي عياض، كما توقفت عند أهم الموضوعات والدلالات التي هيمنت على منجزه الشعري.
وتحرص الندوة الوطنية “ذاكرة شعرية” على فتح سجلات ثقافية جديدة من ذاكرتنا الشعرية والثقافية الجماعية، ضمن سعي من دار الشعر بمراكش الى إرهاف هذه الذاكرة وانفتاحها على القراءة والاستقصاء والمقاربة. المعتمد بن عباد، أحمد المجاطي، شاعر الحمراء وأحمد بركات، أجيال وتجارب مختلفة ومتعددة الرؤى كانت في ضيافة نقاد وباحثين، ضمن ندوات وطنية علمية تستقصي جزء من ذاكرتنا الشعرية الجماعية المشتركة.. محطة علمية أساسية في برنامج الدار الثقافي والشعري، وأيضا هي لحظة معرفية للتنسيق المشترك مع كلية اللغة العربية بمراكش وبيت الشعر في المغرب، في أفق تحيين مداركنا بتاريخنا الشعري والثقافي وإعادة الاستقراء على ضوء أسئلة جديدة.
تعرف مدينة مراكش ب”سبعة رجال”، سابعهم القاضي عياض، وهو كما في التعريف “محمد بن عبدالله بن موسى بن عياض اليحصبي” والذي قال فيه المقري: “فهو الإمام الذي سارت مآثره/ في الشرق والغرب سير الشمس والقمر// وكم له من تآليف قد اشتهرت/ بكل قطر فسل تنبئك بالخبر”. رجال مراكش السبعة، ينتمون لأزمنة مختلفة (العصر المرابطي، والسعدي..) وسماتهم تميزهم الاجتماعي والثقافي والديني والصوفي، وهم القاضي عياض (توفي 544 هـ) وهو من أشهر علماء المغرب حتى قيل “لولا عياض لما ذكر المغرب”، أبو القاسم عبد الرحمن السيهلي (توفي 581ه/1185م)، يوسف بن علي الصنهاجي (توفي593ه/1196م)، أبو العباس السبتي (توفي سنة 601ه/1204م)، محمد بن سليمان الجزولي (توفي 870ه/1465م)، عبد العزيز بن عبد الحق التباع (توفي 914ه/1508م)، عبد الله بن عجال الغزواني (توفي سنة 935ه/1528م)،
ويعتبر القاضي عياض من أهم المفكرين والباحثين الذين أثروا الخزانة العلمية بمؤلفات حظيت باهتمام الدارسين والباحثين، وخصوصا في مجالات ضروب المعرفة المتعلقة بالثقافة الإسلامية. بل حتى تلك القولة المأثورة ” لولا القاضي عياض لما ذكر المغرب”، والتي ظلت تتردد عند القدماء عند حديثهم عن الحياة العلمية والثقافية والدينية التي كان يعيشها المغرب خلال عقود العصر الوسيط، تؤكد مكانة القاضي عياض وريادته ومعارفه المتعددة وقد خلف في هذا الباب منجزا لافتا في مجالات البحث الفقهي والاجتماعي والتاريخي والتراجم، وطبقات المالكية، الى جانب منجزه في فن النظم الشعري.
وتوقفت “ذاكرة شعرية: القاضي عياض شاعرا” عند هذا التراث الأدبي والإبداعي، وتميزه، ويكفي أن نشير هنا الى أن عزوف القاضي عياض عن تجميع نصوصه الشعرية والنثرية، قد تسبب في ضياع الكثير منها الى جانب تشتتها بين حقول إبداعية ومعرفية متعددة. وقد استطاع الباحث الدكتور محمد عيناق أن يتدارك الأمر بتجميعه وتحقيقه للتراث الشعري للقاضي عياض في ديوان مستقل، بادر الباحث بإنجاز أطروحة جامعية حول الموضوع، وتم نشرها في كتاب “ديوان القاضي عياض”.
وقدم الباحث محمد عيناق تفاصيل عن اختياره تحقيق وتجميع ديوان القاضي عياض، والذي “خلف ثروة فكرية مهمة،… ويحتل القاضي عياض مكانة بارزة ضمن أدباء عصره، وقد أهلته لذلك مصادر تكوينه الأدبي، فقد درس أمهات كتب الأدب ومصادر اللغة.. وجاء نثره بليغا، وشعره بديعا، ونقده رصينا”. واعتمد الباحث عيناق، في تجميع أشعار عياض، مصادر مطبوعة كالتي ألفها ولده أبو عبدالله حمد، وقد ضم المصدر عشرة نصوص، “قلائد العقبان” للفتح بن خاقان، والذي ضم ستة نصوص، و”ازهار الرياض في أخبار عياض” للتلمساني، والذي ضم أربعة وعشرين نصا، الى جانب العديد من المصادر التراثية والمخطوطات والأشعار المنسوبة.
وتوقفت الباحثة عتيقة السعدي عند السياق المعجمي وبناء المعنى، لمقاربة شعرية الغربة والحنين. وتؤكد الباحثة السعدي على ملمح الغربة الوجودية في شعر عياض، من خلال التركيز على موضوعات: الدين والعشق والتوبة والأماكن المقدسة. واتجه الباحث مولاي علي الخاميري الى سمات المنحى الذاتي في شعر القاضي عياض، ومن خلال تناصات مع شعراء آخرين، كاعتراضه على أبيات الشافعي، و متون المعري والفرزدق وعبدالرحمان الداخل. وينتهي الشاعر اسماعيل زويريق عند حضور الحمامة في شعره، من خلال جرده لأربع حمامات وأربع شعراء ومقاربته ل”أقمرية الأدواح” قصيدة عياض، والتي تشي بخاصية “مأساوية” وشعرية الألم الطافحة في تجربته، ومطلعها:
“أقمرية الأصداح بالله طارحي/ أخا شجن بالنوح أو بغناء// فقد أرقتني من هديلة رنة/ تهيج من برحي ومن برحائي// لعلك مثلي، يا حمام، فإنني/ غريب “بداي” قد بليت بدائي”
إجمالا، وبالنظر الى أغلب أشعار القاضي عياض كانت تعبيرا صادقا عن تجربته الذاتية، ويقول في أحد قصائده: عمرك الله هل سمعت بحي لم ترعهم روائع الحدثان/ كل يوم طليعة لفراق ومن العجب أن ترى للتداني// فاسأل الشعريين عنها وحسبي شاهدا ما تقوله الشعريان/ ودع الفرقدين إن جهلاها فستدهي بأمرها الفرقدان”.
لقد ساهمت بعض الدراسات في الكشف عن مكانة القاضي عياض، أديبا وشاعرا، وتكفي الإشارة الى كتاب التعريف لولده أبي عبد الله (الصادر سنة 1974، بتحقيق وتقديم الدكتور محمد بن شريفة)، وكتاب “الموسوعة الأدبية أزهار الرياض في أخبار عياض” لمؤلفها الأديب المؤرخ أبي العباس أحمد المقري. الى جانب العديد من الكتابات، ضمن ملفات متخصصة لمجلات، (المناهل)، والتي أطل علينا الأديب عبدالله كنون مقدما “القاضي عياض أديبا” وآخرون.. في تأكيد للدور الريادي لهذه المعلمة الثقافية والأدبية، صاحب كتب (الشفا، ومشارق الأنوار على صحاح الآثار، وكتاب إكمال المعلم والإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، وكتاب ترتيب المدارك، والغنية والبغية..).
طنجة الأدبية