صدرت مؤخّرًا عن الدار العربيّة للعلوم ناشرون ترجمة لينا الجمّال لكتاب مقامات بديع الزمان الهمذانيّ: التأليف والنصوص والسياقات، وهو من تأليف بلال الأرفه لي، أستاذ كرسيّ الشيخ زايد للدراسات العربيّة والإسلاميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والدكتور موريس بومرانتز، أستاذ مشارك في جامعة نيويورك أبوظبي ورئيس برنامج الأدب والكتابة الإبداعيّة.
يكشف الكتاب عن طريق دراسة المخطوطات جوانبَ جديدة من الحياة التي عاشها نصُّ مقامات بديع الزمان الهمذانيّ. فالاعتماد الكلّيّ على طبعات المقامات المحرَّفة التي صدرت في القرن التاسع عشر لا يشكّك في الدراسات الحديثة فحسب، ولكن يحرمنا أيضًا من تقدير الثقافة الأدبيّة التي أنتجت هذا العمل. تنقسم محاور الكتاب الكبرى إلى ثلاثة أقسام: التأليف والنصوص والسياقات، مع وجود تقاطعٍ بين المحاور أحيانًا. وتشترك فصول الكتاب في أنّها تعالج نصوصًا تتّصل بـ مقامات الهمذانيّ لم تُدرس بعدُ.
يضمّ القسم الأوّل فصلين يتعلّقان بنسبة المقامات إلى الهمذانيّ، وهو يراجع عددًا من الفرضيّات التي تناولت اعتماد الهمذانيّ على أنواع أدبيّة مبكرة في إنشائه للمقامة، ويقدّم خبرًا محقَّقًا من كتاب مفقود للنحويّ الشهير ابن فارس (ت 395/1005). يتناول القسم الأوّل أيضًا الطريقةَ التي جُمعت فيها مقامات الهمذانيّ المتفرّقة في مخطوطات، وذلك في السنوات التي تلت وفاته.
يقدّم القسم الثاني تحقيقًا لأربع مقامات منسوبة للهمذانيّ في عدد من المخطوطات ولم تتضمّنها طبعة محمّد عبده الشهيرة عام 1889م، وهي المقامات الطبّيّة والشريفيّة والهمذانيّة والخاتميّة، مع نقاش وتحليل لنصوصها وعلاقتها بغيرها من المقامات.
يشتمل القسم الثالث على دراسة وترجمة لعدد من المقامات المفتاحيّة. يرد في الفصل الخامس “الأدب والتحوُّل: المقامة الموصليّة” تحقيقٌ لهذه المقامة مع ترجمة وشرح حديث لها، وفيها يقوم أبو الفتح بمحاولة إحياء رجل ميت. يرصد الشرحُ المصادرَ التي اعتمدها الهمذانيّ مقترِحًا على القرّاء المعاصرين سياقًا جديدًا لتلقّي هذه الحكاية. يُخصَّص الفصل السادس “ما لا يجدر بالقاضي سماعه: المقامة الشاميّة” لأوّل تحقيق علميّ لهذه المقامة التي أقصاها عبده من طبعته. ويُظهر الفصل تفاعل الهمذانيّ في مقاربته مع حدود اللائق وغير اللائق من الخطاب. أمّا الفصل الأخير فهو دراسة وتحقيق لشرح غير معروف إلى الآن لـ مقامات الهمذانيّ، ويحاجج المؤلّفان بأنّه من وضع الهمذانيّ نفسه. يؤثّر هذا الشرح إلى حدّ كبير في تصوُّرنا لفهم الجيل الأوّل من القرّاء لـ مقامات الهمذانيّ، ومن بينهم مؤلِّفو المقامات بعده.
يتخطّى تأثير هذا الكتاب حدود دراسة فنّ المقامات، فهو يدعو إلى الغوص في تاريخيّة نصوص الأدب العربيّ القديم عامّةً ومساءلة موثوقيّتها، وتحليلها بعدسة أكبر تتّسع لتشمل السياقات المعرفيّة والتاريخيّة والثقافيّة الأخرى.
طنجة الأدبية