قصة قصيرة:
يمكن القول إنه نسيها، تماما، ولم يعد يتذكرها إلا أحيانا قليلة، في الصباح عندما يقف أمام مرآة الحمام يدعك أسنانه بالفرشاة ويقول لنفسه:” ادعك أسنانك جيدا، ربما تتصل وتأتي اليك فنجلس صامتين نحدق ببعضنا البعض، تتشابك أيادينا بعصبية ولهفة ، وفي غمضة عين قد نندفع بشوق جارف نتبادل القبل”. يخاطبها ربما تسمعه:” بالعذوبة نفسها تحبين وتذبحين، في صمت ورقة من دون كلام”. ربما تتصل، ومع أنه ينساها فعليا، إلا أنه حين يتلقى مكالمة هاتفية ليست منها يجتهد أن يختصر الكلام وفي خاطره : أنه لا ينبغي أن يكون الخط مشغولا. ربما تتصل. يفتح يفتح باب الشقة ويهبط الدرج، يقول لها :”صارت الدنيا ملونة منذ أن رأيتك ثم أمست مشاهدها أبيض وأسود، الماضي كله، والآن كله، وغدا كله، مدى رمادي مفتوح لطيور بلا أجنحة، ولو أنك كنت قد سددت إلى قلب فارغ، لكنه عامر بك، فمن منا – أنا أم أنت- أسالت يداك دمه؟. يجلس إلى مكتبه في العمل. ربما تتصل. نسيها بالطبع، وإن كانت ترد على خاطره من حين لآخر، إذا غادر البيت في مشوار ينتقي ملابسه بعناية، يرتدي أفضل ما عنده، يلمع حذاءه. ربما يصادفها وهو في الطريق. “سأبقى احبك بكل قوة حضوري في الدنيا، وكل قوة غيابي إذا لم أكن في الدنيا”. لكنه ينساها بالطبع، وإن كانت تفاجئه أحيانا واقفة أمام عينيه بوجودها المشع. يحجز وجبة من المطعم ويتردد قليلا، ثم يقرر أن يطلب وجبتين. ربما تتصل فأقول لها لماذا لا تأتين الآن نتناول الغداء ؟. تأتي ويسرح في صوتها الذي يشبه قيثارة من الجنة. يقول لها ” لا أحزن على كل ما كان ، أحزن على كل ما لن يكون”. لكنه ينساها. هذا مؤكد. و مع ذلك فإنه حين يرقد للنوم يترك المحمول قريبا من رأسه. يقول لنفسه من يدري؟ ربما تتصل فيكون جرس المحمول مسموعا، فإذا اتصلت سأقول لها أمسيت أمد يدي إلى النور فلا تقبضان إلا على الفراغ، وكانت ألوانك تخفق في العشب والسماء، وسوف تلزم الصمت كعادتها، نعم إنني أعرفها. ستلزم الصمت، لأنها لم تعرف بعد أنني أنساها. أقول لها:” ها نحن عند مفترق الطريق، يمعن كل منا النظر في الآخر، طويلا وببطء، ننفصل عن روحينا، مثلما تنفصل الوردة والغصن، ينفصلان ويبقى عطرها فيه، وفيها دمه”. يستولي عليه النعاس، يهمس أنه ينساها، ينساها.. لكن..ربما.. ربما ماذا؟
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري