صدرت اليوم عن دار أكورا في طنجة رواية “ساعي البريد لا يعرف العنوان”، وهي الرابعة في المسيرة الروائية للكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج، بعد “ليل طنجة” (2022) التي فاز مخطوطها الأول بجائزة إسماعيل فهد إسماعيل للرواية القصيرة، و”أحجية إدمون عمران المالح” (2020) التي تأهلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية وهي قيد الترجمة حاليا إلى اللغة العبرية، و”كافكا في طنجة” (2019) التي تُرجمت فصولها الأولى إلى الإنجليزية، الإيطالية، والعبرية، وتصدر بالكردية خلال أيام.
تتنوع ثيمات رواية “ساعي البريد لا يعرف العنوان” غير أن بؤرة الأحداث فيها تتركز حول موضوع استغلال رجال المخابرات للمرأة جنسيا، سعيا لتحقيق رغباتهم الذاتية أو أداة لتنفيذ عمليات تجسس رسمية.
نقرأ من افتتاحية الرواية: “اختفت جثة إيزل كما تبخر عدنان من قبل وكل ما يهمك الإسباني القتيل. دع العميل الإسباني جانبا وقل لي أين اختفت إيزل. لكنك تريدني أن أبدأ، مرة أخرى، من البداية، وأكتب كل التفاصيل. حسنا: خلود العمراني هو اسمي، أبتعد حثيثا من الثلاثين نحو سجن الأربعين، مطلقة أو ربما ليس بعد، وكل ما سيأتي محض أكاذيب. جهز لي ما يكفي من أوراق وأقلام واقرأ إن كنت قارئا.”
تجد خلود نفسها في جلسة تحقيق ملزمةً بكتابة اعتراف مفصل غير أنها تبدأ سردها بالتنصيص على نسبية الحقيقة فيما ستعترف به من أكاذيب لتفتح باب التأويلات على مصراعيه وتمد أفق انتظار القارئ إلى ما لانهاية. لدينا جثة جاسوس إسباني، وامرأة أخرى قتيلة اختفت جثتها، وكذلك شخصية غامضة تبقى طيلة الرواية تتأرجح بين الممكن والمستحيل، بين الوجود والعدم.
كما هي عادة الكاتب احجيوج في رواياته الأخرى، رغم قصر هذه الرواية إلا أنها غنية بحكايات متداخلة ومسارات تنقل القارئ من مستوى تأويلي إلى آخر، وتمزج بين الواقع والخيال، بين الحاضر والتاريخ، لتبني أمام عيني القارئ شبكة متداخلة من الألغاز تتحدى ذكاءه بالقدر نفسه الذي تمنحه فيه حرية مطلقة في التأويل، وإعادة الكتابة.
(مقطع من الرواية)
جلستُ على مسند الأريكة وتركتُ أصابعي تتخلَّل شعر إيزل الحريري. أتذكر أن هذا الفعل كان يمنحني راحةً كبيرةً حين كانت ماما تضع رأسي على حِجرها وتداعب خصلات شعري كلما انكشف لها حزني. لم تكن تسألني شيئًا، فقط كانت تترك نبرة صوتها الدافئة تستدعيني، “بنيَّتي، تعالي”، لأدفع قدميَّ نحوها، فتمسك بيدي، تربِّت على كتفي، ثم تأخذ رأسي إلى حِجرها وتبدأ أصابعها في تخليل شعر رأسي. كانت تحبني. بالتأكيد كانت تحبني. لكن، كما يقال، الطريق إلى الجحيم محفوفٌ بالنوايا الطيبة. كذلك الحب، لا يحمي من القرارات الخاطئة التي تُتخذ باسمه والتي تقلب حياتنا رأسًا على عقب. كادت أمي تقفز فرحًا حين جاءتها إحدى معارفها بخبر أنها وجدت لي زوجًا. ثريٌّ عربيٌّ يكبرني بعشرين عامًا. ترمَّل منذ أشهر قليلة. قال بأن لا أبناء له، إلا أن كذبته كانت جليَّة. أما أنا، ففي نظر أمي وصاحبتها، عزباء يكاد قطار الزواج يفلت منها. أخذتْ صديقة أمي، التي صارت بشكل ما خاطبةً، صورةً لي لتريها للرجل الذي يبحث عن نصفه المغربي بهذه الطريقة التقليدية التي عفي عنها الزمن. عادت في اليوم التالي محمَّلةً بالهدايا وتاريخ نهاية الأسبوع موعدًا لمجيء الرجل لخطبتي. لم يكن لرأيي أي اعتبار. هذا لم يكن معتادًا من أمي ولا من أبي. رفضتُ من قبل خُطَّابًا كُثرًا، وقلتُ بأني أريد الدراسة ثم بعد التخرُّج قلتُ بأني أريد التركيز على عملي. لم يمانع بابا ولم ترغمني أمي رغم احتجاجاتها المتكررة عن تأخري في الزواج ورغبتها بأن تُرزق أحفادًا قبل مماتها. لكنها هذه المرة أقنعت والدي بأني لو ضيعتُ هذا العريس فلن أجد غيره، وسأندم طيلة عمري. إحدى الهدايا التي أرسلها الرجل مع الخاطبة، وما زلتُ لا أعرف أيَّ مصادفة شيطانية جمعت بينهما، كانت رحلةً مدفوعةَ كامل المصاريف لأداء مناسك الحجِّ مع وقفة سياحية في تركيا، لكلٍّ من أمي وأبي. لا أعرف إذا كانت تلك الهدية أدارت رأس أمي ودفعتها للإصرار على الموافقة، هي التي كانت تحلم بزيارة قبر النبي، كما تقول، منذ سنوات لكن ضيق ذات اليد لم يكن يسمح لها ولأبي بتحقيق حلمهما العزيز. ما أعرفه أن زواجي لم يستمرَّ شهرًا واحدًا، وتبعتْه أشهرٌ مريرةٌ من السعي بين أروقة المحاكم للحصول على الطلاق، ثم كراهيةٌ مقيمةٌ لكل الرجال عشَّشت في قلبي.
ضبطتُ نفسي أحدِّق، دون قصد، في جزء بارز من ثدي إيزل. الزر العلوي لقميصها انفتح، على ما يبدو، من تلقاء نفسه. البياض الشاهق لصدرها يحبس الأنفاس. كأن بشرتها لم تُقبِّلها الشمس من قبل. ابتسمتُ وسحبتُ اللحاف لتغطية صدرها وإخفاء سطوة الثدي النافر. تذكرتُ عدنان، واسترجعتُ إلى ذاكرتي مقطعًا من روايته التي، لن تصدِّق سيدي الطبيب، أنني أحفظها كاملة.
مداعبة الرجل للحلمتين يحاكي لدى المرأة نفس شعور إرضاعها لصغيرها، وفي هذه الحالة يتعزَّز لديها شعور الألفة والارتباط بالرجل كما يتعزَّز لديها الارتباط بصغيرها عند إرضاعه. حين ينجذب الرجل قسرًا إلى الثديين فإن ما يجذبه نادرًا ما يكون الشهوة الجنسية، بل هو شعور الارتباط بالمرأة. ذلك الحنين إلى صدر الأم الحنون، ذلك الفراغ في صدره الذي يدفعه إلى التصرف بصبيانية أمام المرأة، وذلك الحنين إلى الاكتمال والارتباط مع النصف الآخر. إن مجرد النظر إلى الثدي يمكن أن يحوِّل مزاج الرجل من أقصى حالات الغضب إلى أقصى حالات الوداعة.
يقصد عدنان الرجال بحديثه، فماذا سأقول عن نفسي وعن سرِّ تحديقي، اللاشعوري، في ثدي إيزل؟ لم أكن قادرةً على التحديد آنذاك إذا كان تيهي في ذكرياتي وتذكر والدتي هو السبب، أم أن تحديقي نابعٌ من فضول أنثوي محض وغيرة نسائية، وكم من امرأة ضبطتُها في الشارع تحدِّق بنظرات، يصعب فصل نهم الجوع فيها عن حسرة الغيرة، في مؤخرة متقنة التكوُّر لامرأة أخرى تتقن انتقاء السراويل المناسبة لشدِّ الردفين وإبرازهما بما يكفي لإسالة لعاب النسوة الأخريات قبل الرجال. بل ثمة صديقةٌ تركتني مرةً لتسير بخطوات واسعة حتى تتابع مؤخرةً منحوتةً تحت تنُّورة قصيرة، وتبعتْ صاحبتها حتى دخلتْ ناديًا للبلياردو. غيرةٌ هي من بياض ثديي إيزل أم تراها بداية شهوة نائمة تستفيق من سباتها؟ يسهل عليَّ الآن الإدراك والتفسير بعد أن حدث ما حدث وصار ماضيًا. لكن في لحظة الحاضر تلك لم يكن الفهم ميسَّرًا وكانت كل أبواب الاحتمال مشرعة.
طنجة الأدبية