فجأة رأيته. شوقي فهيم، نعم. هو. اللغز الذي حيرنا سنوات الاعتقال ولم نصل إلى سره. قضيت نحو عامين في الحبس وخرجت وظل شوقي وراء الأسوار. لم أره من ساعة خروجي، لكنه شوقي. نعم. لا شك في هذا. كان قادما من الاتجاه المقابل. يسير على الرصيف بقامته الطويلة، تلفه سكينة من توحده، يتفرج بواجهات المحلات. لم يرني ونفسي تجيش بذكريات عزيزة عكرتها درجة من الحذر جعلتني أتردد في أن أستوقفه، فتثاقلت خطواتي وأنا أتلفت وأهمس لنفسي” أليس من الأفضل أن أواصل سيري؟”. من شتت التردد تولدت صور قديمة من الحبسة التي جمعتني به سنوات لم يبح شوقي خلالها بسبب سجنه ولا ألمح إليه، وكان يروغ من الإجابة بلباقة إذا تطرقنا إلى الموضوع، وها هو الآن أمامي، لغزا مازال، بهدوئه ولطفه.
ضقت بحذري ومخاوفي فقطعت الطريق عليه، وقفت أمامه فاتحا صدري ووضعت يدي اليمنى على كتفه. التفت إلي. حدق بي مذهولا. صاح بدهشة : ” معقول؟!”. ضحكت سعيدا أنني استوقفته وقلت: ” نعم. معقول جدا”. رنا إلى بنظرة تألقت بالتذكر ثم السرور:” ياسلام.. مفاجأة.. وأي مفاجأة!”. اندفع ليعانقني، وصددته لأستبقي وجهه أمامي. هتف مبتسما: ” الدنيا صغيرة حقا. دعنا نجد مكانا لنجلس وندردش. أي مكان”. أحنى رأسه إلى أسفل كأنما يفتش بين أقدامنا عن موضع ثم اعتدل وقهقهه مندهشا مما فعله. سرنا على مهل نبحث عن مقهى. كل منا يربت على كتف الآخر، ويقاطعه بكلمات الاشتياق ونتف الذكريات والاستفسار عن الحال.
في العنبر بالمعتقل حافظ شوقي على مسافة محسوبة بينه وبيننا، لكنه كان يقربها بالتودد وتقاسم السجائر والنقود والأطعمة التي تأتي بها أخته في الزيارات الشهرية. كان يومنا محكوما بنظام حياة متكرر، الصحو مبكرا والافطار والشاي، وطابور الفسحة الرابعة عصرا حين يخرجون بنا إلى فناء المعتقل المغطى بالرمل الأصفر، وأيادي كل اثنين منا مقيدة بسلسلة. وكان شوقي يفضل صحبتي فنقطع معا الفناء الأصفر في دورات، تتابعنا من الأكشاك الأربعة أعلى الأسوار أعين وبنادق الحراس. لم يكن شوقي يتكلم كثيرا، لكنه كان يعرب بمرارة عن أسفه على اغلاق مكتبه الهندسي، وانفصال زوجته عنه، أحيانا قليلة يتحدث عن مشاريع المستقبل عندما يطلق سراحه. لكنه لزم الصمت تماما عن سبب حبسه حتى تصور البعض أنه مدسوس علينا ليتلقط أقوالنا. لم أسترح منذ البداية إلى ذلك الارتياب مهتديا بشعوري بأن إنسانا له نظرة شوقي المستقيمة الواضحة يستحيل أن يبيع نفسه لمهمة رخيصة، لأن لأولئك نظرة مختلفة، جارحة ونادمة، أقرب إلى شظايا روح تحطمت. يعودون بنا ويغلقون باب العنبر في الخامسة عصرا، وفي المساء يتضح لنا بقوة أننا محبوسون بالفعل، ويزول في العتمة آخر أمل أن نفتح لأنفسنا طريقا إلى الخارج إلى الهواء والحرية فينفتح الطريق إلى الداخل حيث الذكريات والماضي وأسماء الزوجات والأبناء وعبارات من أفلام قديمة ونكات لم تعد مضحكة بالمرة. يصبح الماضي حاضرا، ويورق كل ما ولى وذبل، لولا أن الحياة عنيدة تدافع عن حقها في البقاء فتسوقنا إلى اختراع حاضر، نصنع كوتشينة من أوراق علب السجائر، نتجمع في حلقات حول حشايا النوم، نفتح نقاشا سياسيا أو فكريا، وفي تلك الأثناء يجلس شوقي صامتا ينصت لنا بتعبير مهذب، مكتفيا بهزة رأس أو كلمة مقتضبة لا تؤيد رأيا ولا تختلف مع أحد. بمرور الوقت نشأت بيننا قرابة روحية من صرير الأبواب الحديدية الذي يفري أعصابنا، ومن التحديق بخيالات الأحبة بسقف العنبر في الليل. لكن حتى تلك الصلة لم تدفع شوقي إلى الفضفضة الصريحة مع أي منا، إلى أن حدث ذات يوم أن أقبل الشاويش شعبان مهرولا في الممر بين الزنازين متجها نحو عنبرنا. توقف عند الباب يلهث، ثم همس في إذن عم طاهر يحذره من كبسة تفتيش قادمة. شكره عم طاهر وغمزه كالعادة ببضعة جنيهات أخفاها الشاويش في جيبه واستدار منصرفا. وصاح بنا عم طاهر من حيث يقف عند فتحة الباب:” كبسة يا زملاء.. كبسة .. خبئوا كل شيء”. أشاع صوته المتوتر الاضطراب فينا. هب من كان راقدا على الحشايا واقفا، وتلفت آخرون في كل اتجاه يفتشون بعيونهم عن مخابىء للممنوعات وهي الأقلام والورق والكتب. وكان عند شوقي دفتر صغير يحتوي على القصص التي كتبها زميلنا العجوز أستاذ كامل. أخفى شوقي الدفتر في أقرب مكان خطر له في غمرة اللهوجة والارتباك. وقفنا بعد ذلك في حلقات متباعدة من ثلاثة أو أربعة أفراد نتظاهر أننا ندردش في أمور اعتيادية، وما لبث أن ظهر ضابط شاب يتبعه أربعة عساكر. اقتحموا المكان، وراحوا يفتشون جيوبنا ثم تفرقوا يولجون أصابعهم في ثقوب الجدران، وأخذوا يبقرون بطون الحشايا، ولم يعثروا على شيء فاستداروا والضابط في المقدمة منصرفين من دون كلمة.
ارتخت أعصابنا المشدودة. تمدد البعض على الحشايا يفرد ساقيه ويهدأ. أشعل آخرون سجائرهم بأصابع مرتجفة. تحركنا بعد أن استرخينا لنخرج ما أخفيناه. هنا ظهر الأستاذ كامل في منتصف العنبر، واقفا بالبيجاما والشبشب، تابع ببصره استعادة ما أخفيناه، ثم صاح على شوقي بقلق: ” دفتر القصص يا باش مهندس؟”. طمأنه شوقي:” دفترك في الحفظ والصون أستاذ”، قالها واتجه إلى حيث تقع المبولة في نهاية العنبر. اختفى بين جدرانها المنخفضة فلم نعد نرى سوى رأسه يتحرك. خرج بعد لحظات. وكان كامل قد بسط يده لتسلم الدفتر. مشى شوقي نحوه ومد إليه عجينة يقطر الماء من حوافها، ثم تمتم باكتئاب وغم : ” متأسف جدا أستاذ.. الظاهر أعصاب الزملاء فكت بعد التفتيش فدخلوا المبولة.. و.. وأغرقوا الأوراق”. صاح كامل مبهوتا :”تبولوا على قصصي؟!”. رحت أنقل بصري بين وجه شوقي المتألم بعجز وبين الذهول الواضح على أستاذ كمال، وشعرت بعمق المهانة التي أحسها الرجل العجوز لأن أعز ما لدينا عرضة للتبول. لكن بعض الزملاء انفجروا في القهقهة حين سمعوا ” تبولوا على قصصي؟”. وقال زهير لشوقي بجدية مصطنعة: “عليك الآن، تعويضا للمؤلف عن خسارته أن تكتب له العدد نفسه من القصص وفي القضايا الطبقية ذاتها وأن تنصف الكادحين وتلعن أم الرأسمالية”، فتضاعفت الضحكات وكان معظمها تنفيسا عن التوتر الناجم من التفتيش الذي كان يمكن أن ينتهي بمنع الزيارات عنا أو حبس البعض انفراديا.
خرجت من غمرة الذكريات على صوت شوقي: “ها هو مقهى”. نظرت حيث أشار بيده فرأيت مقهى في شارع جانبي مد الكراسي إلى الرصيف وبجواره وقفت عربة كبدة. قطعنا الطريق. تخيرنا منضدة وطلبنا فنجاني قهوة. حدجني شوقي طويلا كأنه يغترف من ملامحي شعوره بالماضي. سألته بفضول:” من الذي تعاودك ذكراه من الحبسة؟”. رفع حاجبيه. فتح عينيه على آخرهما. قال مبتسما بأسى : ” أستاذ كامل ودفتره. زهير وقصائده “. قطع الحديث بائع صحف حام حولنا ثم اقترب يعرض علينا الجرائد. صرفناه فتوقف عند منضدة مجاورة وأذناه مشرعتان ناحيتنا. لزمنا الصمت برهة حتى ابتعد البائع. في نفس اللحظة أطل من عيني فجأة السؤال القديم، بقوة، محسوسا، وظل معلقا في الهواء ما بيني وبين شوقي ” لماذا كنت معتقلا”، وعندما استطالت اللحظة خفضت بصري فتمتم شوقي بصوت دافئ مثل ركبة طفل مخدوشة:” لعلك ما زلت تريد أن تعلم لماذا وضعوني في السجن؟”. كنت أريد أن أعرف لكنني زممت شفتي كأني أقول له إن التصريح بالسبب رهن برغبته. عاد شوقي بظهره إلى الوراء. انسحب بروحه إلى زمن آخر. قال ببطء:” السبب غريب شوية. لقد رأيت حلما”. لم أفهم ما يقصده. سألته:” حلم ؟”. أجاب:” نعم. حلم. رأيت فيه سيارة تنعطف عند كوبري، وشخصا ملثما على دراجة نارية يقترب منها بسرعة خاطفة ثم يفتح النار على من بداخلها من رشاش. مجرد حلم، حتى أني بعدها بيومين كنت في منزل أحد الأصدقاء ورويت ما شاهدته على الحاضرين وكان من بينهم ضابط شاب كان ينصت إلى مبتسما”. قلت مستفسرا : ” وما المشكلة في ذلك؟”. قال: ” المشكلة أن الحلم تحقق بحذافيره بعد أسبوعين من تلك السهرة، فوقعت عملية اغتيال مسئول كبير بواسطة ملثم على دراجة نارية، وحين كتبت الصحف في ذلك تذكر الضابط الشاب أنه سبق أن سمع بمكان العملية والطريقة التي نفذت بها، ثم تذكر تلك السهرة، وتذكرني، وجزم من التطابق بين ما سمعه وما وقع بعد ذلك بأنني ضالع في ما جرى، وتقدم ببلاغ بما لديه، فهبطوا علي في الليل واقتادوني من غرفة النوم إلى القلعة. في حجرة ضيقة خانقة يسألني الضابط : ” كيف لك أن تعلم بالدراجة النارية؟ والملثم؟ والكوبري؟ إن لم تكن لك علاقة بمن قاموا بالعملية؟”. أقسمت أنه حلم فهتف ساخرا: ” لابد إذا أنك ولي من أولياء الله لكي يتجلى لك المستقبل”. انقضت عشرة أيام بلياليها ما بين الزنزانة ومكتب الضابط، الواضح أن الأجهزة كانت تتحرى عني خلال ذلك، ولم تجد لي علاقة بشيء فتقرر ترحيلي إلى معتقل طرة ربما يتضح شيء. أربعة أعوام وراء الجدران لأنني لم أستطع أن أثبت أنه مجرد حلم “. سألته مهموما بأسف: ” لكن لماذا أخفيت عنا كل هذا ؟”. ضرب شوقي ركبته بأطراف أصابعه قائلا: ” فكرت أن الكلام قادني للسجن مرة ولعل التزام الصمت أفضل”. تنهد يسألني: ” هل تذكر الليلة التي جلسنا فيها حول عم طاهر حين أخذ يروى علينا نتفا من ذكرياته في المعتقلات؟ كان مسترسلا في حكاياته، ونوادره، وفجأة توقف عن الكلام، شرد، ثم تمتم يحدث نفسه كأنما يلومها ويعاتب القدر:” أخلصت العمر كله لقضية، كيف لم يتحقق منها شيء؟”. في تلك اللحظة بدا وجهه كأنما مزقت الهواجس والشكوك يقينه. أما أنا فبقيت طوال مدة الاعتقال أفكر أن عم طاهر كان يعلم ماذا يفعل، ولأجل ماذا، والضريبة التي سيتحملها، بينما حبست أنا بالمصادفة، مجرد مصادفة”. حاولت أن أفسر له وأن أهون عليه:” هي مصادفة، لكن لا تنس أنها في سياق القانون العام. المصادفة تحدث فقط حين يسمح بها الوضع العام، وحين تكون جزءا منه، وتعبيرا عن الممكن في ظل ظروف معينة”. تأملني شوقي مفكرا، فأردفت : ” وعلى سبيل المثال فإنك لا يمكن أن ترى ولو بالمصادفة جملا يمشي في السماء!”. ابتسم شوقي وهز رأسه وفي عينيه دهشة سعيدة بما قلته.
لزمنا الصمت برهة، وبدأت أشعر ببرودة الليل، أحكمت ياقة قميصي حول رقبتي والعتمة تتحدر من السماء موجا بطيئا، تطفو بين قمم العمائر، وتنزلق إلى المنضدة حيث نجلس فتطفي لمعة الملاعق الصغيرة. أدار شوقي إصبعه على حافة فنجانه الفارغ تقدم بوجهه ناحيتي وسألني باهتمام :” وأنت.. قل لي.. ما أخبارك؟”. تمتمت: ” تمام.. الحمد لله”. نهض شوقي واقفا:” يا الله.. فلندفع الحساب ونتحرك”. خرجنا من المقهى نسير ببطء من دون أن نتكلم وقد سرحنا في الشوارع والأشجار تلفها عتمة وظلالها تسيل في هواجس الصمت والسكون الذي حل على المدينة.
***
د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري