ليس بمقدور المرء أن يقاوم أعمال تشيخوف حتى وأن كانت في بدابة مشواره الأدبي، لأنه ظاهرة ليست عادية في تاريخ الادب الروسي، بل حتى انفاسه تُعبّر عن الادب. يقول تولستوي عن تشيخوف: ” حينما اقرا لتشيخوف، يتراءى لي ليس فقط ابطاله، بل حتى اسمع اصواتهم”. ولم يكتفي بهذا الامر بل راح يقول عنه : ” فنان الحياة الذي لا يقارن به أحد “. ففي رواية ” جريمة في حفلة صيد ” وهي من الأعمال التي كانت في بداية مشواره الأدبي، يسلط الكاتب الضوء على الطبقة الأرستقراطية بطريقة تجعلك تقرأ العمل بنفس واحد، ممكن أن نطلق عليها ” بقصة بوليسية ” يطغى عليها طابع المغامرات الغرامية، التي تنتهي بمأساة انسانية.
الحدث المهم في هذه الرواية هو مقتل الفتاة ذات الرداء الاحمر في حفلة صيد، والتي تدعى أولينكا، وتوجه اصابع الاتهام إلى زوجها العجوز، ومن كان يحقق في هذه القضية هو عشيقها نفسه المحقق زينوفيف، وفي النهاية يتم حبس زوجها لمدة 15 عاما مع الاشغال الشاقة. والقاتل الحقيقي يبقى طليقا. وبعد مرور 8 أعوام يكتب المحقق القضائي قصة حول هذه الاحداث ويسلمها لصحيفة من اجل نشرها، ورئيس تحرير تلك الصحيفة يكتشف القاتل الحقيقي لهذه الفتاة من خلال قرأته لهذه النص، والقاتل هو نفسه المحقق القضائي . فرئيس التحرير يواجه المحقق القضائي بالحقيقة، وسوف اترك هذا الامر للقارئ يكتشف كيف جوبه المحقق بالأدلة الدامغة التي تجعله يعترف بما اقترفه من جريمة.
يكشف لنا تشيخوف في هذه القصة الانحدار الأخلاقي لطبقات المجتمع آنذاك، ابتداءً من شخصية الكونت إلى ابسط قروي في تلك القرية، وحالة البذخ والعربدة التي تعيشها تلك الطبقات الارستقراطية، والأهم من ذلك نظرة هؤلاء إلى غيرهم وكأنما امامهم حاجة رخيصة بإمكانهم شراءها وبيعها في أي وقت، ومن ثم يقدم لنا تشيخوف بطلاً مثقفا تلاعب بمشاعر الاخرين و النتيجة كانت القتل بدم بارد. وكأنه يقول لنا في هذه القصة: ما فائدة الندم والعذاب الروحي بعد الاقدام على هذه الجريمة؟ وهل الندم والعذاب الروحي يكفر عن خطايانا ؟ لم يكتفي تشيخوف بهذا الامر، بل نجد في نصه هذا ايضا الصور الشعرية التي لا نظير لها، حتى في مسألة ضيق أفكارنا فنجده يجد حلا لهذه الامر، فيقول على لسان بطله: ” قلتُ في نفسي: (( لماذا يحبس أهل هذا العالم أنفسهم داخل إطار أفكارهم الضيق ، في الوقت الذي يوجد فيه متسع للحياة والفكر؟ لماذا لا يأتون إلى هذه الرحابة ؟ )). ” ص 102، وفي نهاية قصة، يعلمنا تشيخوف درسا في مفهوم هذه الحياة التي يوجد فيها الكثير من امثال أوربينين التي قست عليهم الحياة وتواروا في غياهب سجنها، فيقول: ” الحياة مسعورة، فاجرة، ومضطربة كبحيرة في ليلة من ليالي أغسطس… وارت تحت ستر أمواجها المظلمة الكثير من الضحايا، وترسب في أعماقها ثفل ثقيل. ” ص 286.
المصدر:
أنطون تشيخوف، جريمة في حفلة صيد، ترجمة : يوسف نبيل، القاهرة – دار آفاق للنشر والتوزيع – 2021، ص 102، 286.
حسين علي خضير