إن الشعر كائن استكشافي يعتمد على دهشة اللغة وصدمة الخيال المتّشح بالموسيقى واستخلاص الرؤى. هو ذلك الانزياح اللغوي دلالياً كان أم تركيبياً، الذي يخلق عالماً افتراضياً موازياً للعالم الواقعي الذي يألفه الشاعر في تعامله مع الوجود وتجلّياته، محاولة ترجمة وتأويل وجوده بأسلوبه الخاصّ وتعدّد قراءاته لتصوّرات الحياة، مفضياً نحو حقائق شعرية جمالية، خيالاً أو وزناً أو فكراً أو تأمّلاً فلسفياً.
الشعر هو ألا تستطيع إنقاذ نفسك منه، ولا أن تنقذه منك، في المقابل – وهو أمر مقلق وخطير – بات الشعر في المنصّات الاجتماعية مرتبطاً بأضواء الشهرة، وتحوير أشكاله، (ليُفتح الباب) أمام الكثيرين ممن لا يمتلكون الموهبة والإبداع في عالم الأدب، والتي أخذتهم منهم سَكرة اللايكات والتعليقات أمام جلالة الكلمات وتدفّق المشاعر والأحاسيس، لأن يعبثوا بالشعر خاصّة، والأدب بشكل عام يميناً وشمالاً.
بالنظر أولاً إلى عتبة هذه المجموعة الصادرة عام 2020م عن دار فضاءات في الأردن، والتي انتقى لها شاعرها الكردي رشيد جمال عبارة «موج شاحب»، وسوماً يفيض بالدلالة على العبث الوجودي والعدمية والأمل الكاذب، لنستشفّ مدى حرصه على ابتكار اللفظ والمعنى، حيث تضمّنت العتبة لظرف مكان موحٍ بالدونية المرهقة، أو ما يحرّك منظومة مفاهيمية لصِيقة أو متأرجحة بين الانتماء والبقاء، يعقبه – أيّ هذا الظرف – اسم دال على لا محدودية السواد وسرمدية امتداده، متوقّفاً على إحدى حالتين: شحوب أسود أو صفاء أزرق، ولكن هذه المشهدية تتوسّطها تيمة النجاة إن توغّلنا في التفاصيل والدلالات، بما يفيد اللابقاء واللاجدوى، أو بالأحرى انعدامهما، فيستهلّ قصيدته الأولى «حلمٌ تحت القصف» بقوله:
أبعديني عني
ذاك المكانُ قد شنقَ أحلامي
أحرقَ تفاصيلي،
وماضيَّ الذي لا يُذكر.
من هنا، نجد أن ابن مدينة كوباني الملعونة من جهة الشمال، شمال دمه المكسور بالسياج وسكّة القطار، يختزل شعريته في مثل هذه السوداوية، وهذا بديهي، كونه ينتمي لقضية كردية وإنسانية كبرى، ولازالت عالقة داخل جدران الأروقة الدولية، بما يمسّ استقرار وأمن الكائن، وفوقه توازنات العالم، ليبني موضوعاته على جملة من التغيّرات والمستجدّات التي طبعت هوية الإنسان السوري، داخل حدود تعايش يتقاذفه واقع التأرجح بين محطّات ثلاث، ترسم مصير قضايا قوميات وأقلّيات وإشكاليات الوجود: ماضٍ بذاكرته المدمّرة، ثانياً راهن ملطّخ بالجدل والغموض والأسرار والخبايا، وأخيراً مستقبل غالباً ما تخوننا تأويلاته، وسط غياب استشراف فشِلَ ويفشل في صناعة ثقافة رصينة وفكر متّزن معتدل.
كلّ الشعراء يبحثون عن الوطن الآمن، عن الحبّ الصادق، الحياة أو الموت في قصائدهم، وهنا جمال يسلّط بإضاءات شعرية – وجودية على هواجس وأسرار تخصّ المرأة والقضية الكردية والوطن السوري، داخل حياة تُدار من سياسة عمياء، في شرق بات الكلّ يركله وفق مصالحه، منطلقاً نحو وعي جمعيّ، وبتفاصيل سبق وأن سار عليها كبار الفلاسفة الوجوديين؛ إذ الحالة الشعورية والشعرية لديه تعبّر عن كمّ هائل من المعارك الطاحنة مع العالم والقضايا الجوهرية في هذا الشرق البائس، من حلم لا يلد إلا مع الموت، وأنثى سُلبت منها أنوثتها، وطفولة تبحث عن طفولتها في طرق النزوح واللجوء، وحبّ سكران لا يعود إلى رشده؛ فالصورة الشعرية لديه يمكن اعتبارها مِفكّاً بعدّة رؤوس، حيث يقول في قصيدة «حلم تحت القصف»:
نعم حبيبتي!
كأنه حلمٌ
استرقّني من صوت النشازِ
الآتي من الشمال المجنون
نعم حبيبتي!
إنّه لحلمٌ رسمْتُه بجناحين
لعلّه يطيرُ مع القصيدةِ
هذي القصيدةِ إليك.
يحاول الشاعر الهروب من مصارحتنا بهمومه وهواجسه الدفينة، فهو إذ يميل/ يتحابى/ يهيم بالمرأة، رامزاً بالشمال المجنون أبناء دمه في الجزء الشمالي من وطنه المغتصب، أولئك الذين أثبتوا بوجدانهم وعقليتهم وإنسانيتهم أنهم لا يختلفون عن تجّار الحروب بشيء، لكنه يعمل على الزوغان من هذا التعلّق/ التوليه، فيستخدم قصائد مؤنّثة (لحظات متأخّرة جدّاً – خذيني بعيداً عن وطني – خيبات امرأة – لوحة للموت – نوْرُوز – سَكْرة – مُحاولات – انحناءات المساء…)، لكي تموه مشاعره أولاً، وثانياً للغوص في آلام شعب مشرّد بوطنه الممزّق. فالأفعال/ الألفاظ/ الحروف/ العبارات متعلّقة بالمرأة المظلومة/ بالأنثى العاشقة/ بالفتاة المراهقة، وهي تتجاوز حدود مفهوم القصيدة التي يتخفّى فيها جمال.
يقول الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو: «إن الإنسان قبل أن يكون شخصاً، هو عبارة عن حكايات»، وهذه الحكايات قد كُتبت في ثنايا ما حمله العنوان «موج شاحب»، من سلبية عبّرت عن سوء طالع للمجتمعات الشرقية، فمعظم القصائد غاصت وحملت الكثير من التشاؤمية والسوداوية، التي عكست عن ذات الشاعر وروحه القلقة في مفهومي «الوجودية والعدمية»، بعدما جرّحت أصابعه وأدمته تجارب الحياة وتحدّياتها، فيقول:
حبيبتي…
قصائدي صفراءُ،
ويدي مُرتجفةٌ
تضاجعُ صوتَ الموتِ
في القبو،
نظراتي تهربُ من اللحظة المتبقية
إلى المقبرة.
حبيبتي…
الموتُ يعرّيني أمامَ المرآة
يدخلُ في تفاصيل جسدي
يلامسُني
يداعبُ خدّاي
يواسيني
كطفل يتيمٍ
وكلّما سقطَتْ قذيفةٌ بقربي
يحضنُني.
حبيبتي…
أحضانُ الموتِ كم هي دافئةٌ!
تطاردُ الخوفَ بأحشائي
أترين حبيبتي
في هذا القبو
الموتُ أصبحَ نديمي
فنسكرُ معاً،
ونشربُ قهوةَ الصباحِ
مع تراتيلٍ من آيات الربّ.
ويقول أيضاً:
امرأةٌ في سوق النخاسَة.
ميلادُ طفلٍ على شاطئ الموت.
وطنٌ مشرّدٌ
بينَ مغازلاتِ الرصاص.
حاضرٌ يتجرّدُ من ماضيه،
وزمانٌ مازالَ يلاحقُ لعنةَ المكانِ
القابعِ في مخيّلته.
إنها لغةُ العابرين نحو الوجودِ
المثقَلِ بالضياع.
إنها لغةُ الحربِ
ولا شيءَ آخر…!
ولأنه ابن الحجل والريح، فلم يخفِ عن القارئ والمثقّف همّه وهمّ شعبه في قضيته، التي لم ترسُ بعد على شاطئ العدالة والحقّ، إذ حوت مجموعته على قصيدة ممزوجة بحسّه الإنساني مرتبطة بالتاريخ المرهق دماً وخيانة والأرض الحنونة، وهو البعيد عن السياسة وتعقيداتها ودوّاماتها، فعبّر من خلالها عن حبّه، وارتباطه، وفخره بالكرد قضية وشعباً، دون إعطاء دروس في الوطنية، وتخوين أحد، وممارسة الشعر الخطابي، الذي كثيراً ما يُفْقِد المضمون دوره، ويجعل تأثيره آنياً، فلم ينتهج طريقة بعض شعراء المهجر، الذين أشادوا وتغنّوا بالوطن، بإطلاقهم العبارات المحمّلة بالأشجان، ولوعة البُعد عنه والفراق، بل تطرّق إلى ماضي الكرد الحضاري العريق متخذاً من «نوْروز» عيداً ورمزاً ورسالة، إلى دائرة الحاضر، ودوره في صنع وحياكة أحداث مؤثّرة ومتأثّرة، جاعلاً من هذا العيد القومي أحد أسس بقاء الإنسان الكردي، رافضاً حقيقة تخطّيه وإقصائه، من خلال قصيدة أسماها « نوْرُوز»، وفيها يقول:
خلفَ تلك التلال
طفولةٌ تئنُّ
على طريق عودتها
كلّما لمحَتْ نارَ «نوْروزَ» تشعُّ
بخيوط الأماني.
إنها لحظةُ المثولِ أمامَ
انحناءاتِ ذاتٍ مُنهكةٍ
بينَ غُبارِ الطفولةِ
المتربّصِ بشموخ ذاك الجبلِ
المُنهكِ أيضاً في تفاصيل الارتحال.
مَن يقرأ «موج شاحب»، ويغوص في دلالاته شعرياً وفكرياً وحتى على صعيد مفردات وتراكيب اللغة قد يسأل نفسه: هل بالفعل وجودنا الإنساني في الشرق حيث الخراب والدمار لا معنى له؟ هل تستحقّ الحياة في أيّ بقعة كان فيها الإنسان أن تُعاش؟ وإذا كانت كذلك فما معنى الحياة من وجهة نظر رشيد جمال وموضوعاته؟ وما الشيء الكامن تحديداً في جوهر تلك الموضوعات (كالحبّ، المرأة، الوطن، الموت واللجوء… والخوف والمعاناة هو التفاعل المشترك بينهم جميعاً)؟ فموج شاحب هو رحلة الإنسان الوجودية إلى العبث والعدم معاً، خاصّة وأن الشعر موقف من الوجود كما يرى كثير من النقّاد، فهو يلقي بتساؤلاته الفلسفية عن الذات والوجود والعدم ومصير الحرب والإرهاب وزمان نهاية كلّ «نِبال وخَرْدَل وسبْي…»، على الحالة أو القضية أو الموضوعات التي يجسّدها في قصيدته، فهو جسّد حالة حبّ، أو التعذيب في السجون والمعتقلات، وقضايا الظلم والحرب والسلم، والموت والحياة، ثم يبثّ في ثنايا القصيدة رؤاه الفكرية والمعرفية ومواقفه الفلسفية من هذه الحالات أو القضايا التي طرحها في مجموعته، والدليل هي أقواله في:
– قصيدة «حلم تحت القصف»:
تمرّين بظلّي
المُهترئِ بصرخات
أحزاني الخرساء
كأنثى تحاولُ لملمةَ (أنايَ)
بينَ غبارِ أمسٍ
مُلطّخٍ بذنوب الخليقة.
– قصيدة «حنين»:
وأمامَ بابِ المعبرِ
تبقى الحقائبُ تودّعُ ذاتَنا
على أطلال ذاتِنا.
– قصيدة «صمت ينخر في الذاكرة»:
وهكذا إلى أن يملئَ الفراغُ
بأسباب النسيانِ،
ويصرخُ الصمتُ بوجهها،
ويصفعُها الكلامُ
فتصحو من سُكرها؛
لترى صورتَه مزركشةً
بمنديل أسودَ
وعلى هامش الصورةِ مكتوبٌ:
«الشهيد: مُنذر أحمد
تاريخُ الاستشهاد: (4) تشرين الثاني، 2014م
المكان: الغوطة الشرقية، دمشق – سوريا».
– قصيدة «بقايا حبّ… بقايا حرب»:
حتى الياسمينُ
اعتادَ على صوتك
فهل ستبقى هنا،
أم سترحلُ
مع عودة «حمزةَ»؟!
في عدد من الومضات القصيرة الرامزة الموحية، التي جاءت في نهاية المجموعة تحت عنوان «بقايا حبّ… بقايا حرب» يغلّف جمال قلقه الوجودي بقضايا مرتبطة بمسير ومصير الناس والمجتمع، يقول فيها:
الومضة رقم (3):
بقي الزمانُ
على ثغر التاريخِ
يروي بطولاتِه
وأنا
مازلْتُ أبحثُ عن شيء
يشبهُك…
لعلّي أمزّق
الزمانَ الذي اعتراني،
وباعَ أحلامي
في مزاد علني.
الومضة رقم (11):
المرأةُ
التي
لا تموت…
وحدَها مَن تقتلُ الموتَ فينا.
الومضة رقم (13):
كثائر أبحثُ عن ذاتي؛
لأعودَ منكسراً
كعطر
يئِسَ من صاحبه.
الومضة رقم (14):
لن أبوحَ بسرّ
بعدَ الآن…
فكلُّ شيءٍ
قابلٌ للبيع والشراء.
الومضة رقم (15):
لا تحزنْ…
فالحرّيةُ
أيضاً تحترق.
الومضة رقم (22):
حتى مطرُ بلادي
يبحثُ عن كسرة حرّيةٍ
بينَ أروقةِ «سوريا القديمة».
هو يجمع في هذه الومضات الشعرية القضايا التي تشغل الناس في سوريا ودول الربيع العربي من: الوطن، المرأة، الإنسان المنكسر، استغلال البشر والحيوان، قمع الأفكار والحرّيات، والحنين إلى الماضي، وغيرها الكثير من القضايا التي يربط فيها علاقات متزامنة أو متباعدة، لتنتهي إلى تفاعله مع سؤاله الفلسفي العميق: ما جدوى كلّ ذلك والزمن الجبّار بأنظمته المستبدّة الذي لا يتوقّف وهو يمحو كلّ شيء ويجعله إلى زوال وعدم؟ فالحلم والأنثى وتحرير الذات والخوف والحرّية والحنين، التي تجسّد الكثير من الكون أو الوجود هي تصارع التحدّيات الراهنة، إما إلى البقاء أو التغيير أو إلى زوال، وبصورة أخرى إن هذه الومضات هي عبارة عن رحلة في الذات، رحلة تأمّل في الحياة، وصراعه على البقاء، والتي لا تخلو من مشاهد قيامية – سواء في الومضات أو القصائد – ما يعني أن مضمونها يتقاطع ويُحاذي ظروف هذه المرحلة التي فرضتها الحرب على الشرق الأوسط.
تضمّنت ثنايا قصائد جمال بوحاً إنسانياً مطلقاً، حمل القارئ إلى ظلال المعاناة الشخصية، كان في حدّ ذاته بوحاً بالنيابة عن الآخر، أيّ عن كثير من الناس دون تحديد هويتهم النفسية والعرقية، مُحمَّلاً بصدق المشاعر والأحاسيس الصريحة، في عروج نحو حالة وجدانية، رغم رفضه المطلق للعالم وعدم ثقته بالمستقبل، إذ قام من خلال قصائده الثماني والعشرين قصيدة وومضاته الست والعشرين بعملية تعرٍّ من قشور الحياة وبهرجتها، مُلغياً كذلك حواجز الأسرار، فكشف عن معاناته النفسية من ذلك الشيء الذي يسمّونه «الحبّ»، الذي قلّما يوجد إنسان، لم يعرف صبابته وعلقمه، سارداً بشاعريته للقارئ بعض أفاعيله المُرّة والحلوة، وكيف يمسك بتلابيب العقل والروح، مشتكياً من كلّ ما يصدر عنه.
وإيجازاً لكلّ الكلام، فحينما يتمّ تقويم القضايا الشائكة في الحروب والمعارك السورية وحتى الكردية أدبياً، فإن الفلسفة الوجودية من وجهة نظر جمال هي الفنار والدليل ومفتاح الحلّ لفهمها وفهم العالم الأدبي المعالج لها، رغم أنه تجنّب الحديث عن الموت والحياة بشكل صريح ومطلق؛ فهو يرى أن ضغط الموت الساحق، والانهيار المريع للوجود الإنساني المطلق يولد في الواقع فلسفة وجودية عدمية عبثية مريعة وخطيرة، فيسألنا باقتضاب:
ما معنى الموت؟ ولماذا كان الموت هكذا في سوريا، لا أرجل له ولا أيدي، ولا حتى رأس؟ لماذا نخاف منه؟ ماذا يكمن خلفه؟ ولماذا جئنا من العدم؟
إدريس سالم