- 1 –
في مرات عديدة رأيت العجوز أسعد بلحيته البيضاء.. و رأيت الوقار والهيبة والمسبحة التي لاتفارقه.. كان أغلب الوقت مستغرقا في تسابيحه وأذكاره..مغمضا عينيه أثناء جلوسه..أو سارحا أثناء سيره في الطريق..كأنه في جزء آخر من العالم..أو كأنه مفصول عن كل شيء حوله.. فيما تتحرك شفتاه وتنبسان بالأذكار..
رأيت أولاده المتزوجين يقبلون يده..وكذلك أحفاده الصغار..وحتى أهل الشارع من كبار السن رأيتهم يقبلون يده..ويطلبون منه الدعاء بالرزق والذرية والتوفيق في إنجاز بعض الأمور الحياتية..ويعودون إلى مشورته لأنه رجل مبارك ورأيه سديد كما يقال عنه..
جارتنا حليمة التي تسكن في البيت المقابل لبيتنا وتأتي لزيارة أمي سمعتها تقول لها وهي ترشف شاي المساء المنعنع :
( الحاج أسعد راجل طيب..وجدوده ناس امرابطين..شي لله ياعيت أسعد..
يا أولياء الله الصالحين..مرة واحد قعد يسب فيهم اشوي طاح من عالسلوم وتكسرن كرعيه الثنين.هذوم ناس أولياء..ردوا بالكم واحد يسبهم واللا يتقول فيهم..راهو كل عود بدخانه..)
و الأستاذ عبدربه مدير المدرسة أكد أن العجوز أسعد دعا ذات سنة دراسية للطلبة بالنجاح فنجحوا جميعهم ولم يرسب منهم أحد في تلك السنة..أما الممرض محسن فقد حكى ذات مرة لبعض سكان الشارع أن العجوز أسعد قد جاء إلى العيادة يبحث عن دواء في الصيدلية..وصادف أن كان هناك مريض يئن من شدة الألم..فأتوا به إلى العجوز أسعد وطلبوا منه أن يرقيه..فوضع العجوز يده على جبهة المريض وقرأ عليه ماتيسر من الآيات والأذكار فشفي الرجل من مرضه..
كنت كلما رأيت العجوز أسعد أتذكر الناس الطيبين..وأحاديث والدتي عن الأولياء الصالحين وكراماتهم..وأقول لنفسي إن هذا الرجل مبارك..
- 2 –
لم أجد تفسيرا لما قاله جاري أشرف عن العجوز أسعد.. حكى كلاما كثيرا وأنا استمعت إليه..حكى عن شارعنا وعن أشياء كثيرة حدثت في الحي..كان يحكي دون توقف كعادته حين يجلس إلي..و يسهب في السرد.. دون أن يترك التفاصيل الدقيقة للأشياء.. يجيئني دائما بكيس مليء بالحكايات ..لأنه يعرف الكثير عن الحي..يعرف الكبار والصغار..يمشي مع أصحاب الكأس والكيف.. يرافق الشباب السلفيين.. ويجلس مع الرياضيين ومشجعي كرة القدم..يعرف المجرمين وقصصهم وأخبارهم..ويعرف الشباب المثقفين ويجلس معهم..وأنا أعرف أنه لايكذب فهو ينقل أخبار ما رأى وماسمع..وتفاصيل الأحداث التي غابت عني..
لكن هذه المرة الأولى التي أستغرب فيها كلام أشرف حين حكى لي عن العجوز أسعد.. قال إنه يحب النساء..ويكتحل برؤيتهن وهن يمشين أمامه..يتأمل المرأة من أعلاها لأسفلها..يحدد بنظراته المسلطة على الجسد كل تفاصيله..وتستغرق منه هذه العملية زمن مرور المرأة من أمامه..
حاولت أن أتخيل العجوز أسعد كما حكى عنه أشرف..هربت إلى شوارع خيالي وأزقته..أبحث عن صورة للعجوز أسعد وهو ينظر إلى الصبايا بعين الشهوة..لم أجد ..وقفت عند الحد بين صدق القول وكذب الحكاية..واستمر أشرف يكمل حكايته..قال وهو يقسم بأغلظ الأيمان..إن العجوز أسعد يقيم علاقة غرامية مع الأرملة ونيسة .
عبير معلمة اللغة الأنجليزية روت الحكاية لأشرف.. أشرف روى لي الحكاية..وأنا استمعت له غارقا في دهشتي .. عبير تعشق أشرف .. بعد أن تنهي حصصها الدراسية تخرج معه في سيارته الهونداي.. تغدق عليه الهدايا.. ويملأ هاتفه الجوال بكروت المكالمات على حسابها..يحكي معها في الجوال كل مساء..فتروي له أخبار صديقاتها وعلاقاتهن الغرامية..حكت له عن صديقتها الأرملة ونيسة..قالت له إن العجوز أسعد يقابلها في شقة تملكها امرأة تربطها صلة قربى بونيسة..وأقسمت عبير لأشرف بأنها رأتهما في الشقة..ثم حكت لها الأرملة عن العجوز أسعد..قالت إنه قضى معها وقتا ممتعا..وإنه صار يرقص على أنغام المطرب الشعبي بوعبعاب وهو يغني بصوته الرخيم :
ـــ ( ياحلوة جيتي امنين وايش اللي جابك لي )
عدت غارقا في دهشتي إلى أروقة خيالي.. أبحث عن صورة للعجوز أسعد وهو يخلع ثوب الوقار ..ويرقص على أنغام المطرب بوعبعاب.. أفتش عن صورة له وهو يقابل الأرملة ونيسة .. لم أجد.. كانت الصورة الوحيدة للعجوز أسعد والتي أراها تجوب ميادين خيالي هي صورته بالمسبحة.. وهيئته وهو يمر من الشارع بوقاره .. نبس شفاهه وهو غارق في تسابيحه..وشروده مع الأذكار اليومية التي تتوافق مع حركة أصابعه وهو يفرك حبات المسبحة بين يديه..هل أصدق أشرف أم أكذبه ؟ هل عبير عشيقة أشرف صادقة ؟ وهل رأت بأم عينيها العجوز في الشقة ؟وهل يرتكب هذا العجوز الوقور مثل هذه الأفعال ؟
لاأعرف..الحكاية تحولت إلى دهشة..الدهشة تقود للسؤال ..والسؤال يتأرجح في الذاكرة ..صرت كلما أرى العجوز أسعد تقفز إلى خيالي الأرملة ..وكلما رأيت الأرملة أتذكر المسبحة ..
– 3 –
لازلت أذكر يوم أن فاضت روح العجوز أسعد.. حزن أهل الحي ..نسوة شارعنا بكين كثيرا..والأرملة ونيسة بكت بحرقة تزيد عن الأخريات .. كانت تنوح مرددة ..( الله يرحمه ويسامحه .. كان راجل طيب..)
محمـد العنـيزي ــ ليبيا
ترجمت هذه القصة إلى اللغة الإنجليزية ونشرت في مجلة بانيبال العدد 40الصادرة في لندن ربيع 2011 .