سحب محمد مزلاج المسدس، أصبح قلبه في أطراف أقدامه من صوت خروج الرصاصة التي انتقلت من المخزن إلى الماسورة لتصبح جاهزة للإطلاق. وبمجرد وقوعها في الماسورة شعر بألم حاد في ضرس العقل الأيسر، وكأن الرصاصة وقعت في جذر ضرسه بدلا من المأسورة.
مد المسدس إلى زوجته وقال:
- خذي المسدس، وقومي بإطلاقه.
لم يؤثر صوت الرصاصة التي انتقلت من المخزن وأصبحت معدة للإطلاق، ولا لون موت للمسدس على زوجته، ولم تتغير ملامح وجهها على الإطلاق. وما زالت رصينة حتى بعد اقتراح محمد المفاجئ. تحدقت في عينيه وقالت بصوت مطمئن:
- ولِمَ أنا؟ ألست من سحب المزلاج؟ أطلِق بنفسك إذان!
إما بسبب برودة في صوت زوجته، وإما بسبب الألم الحاد الذي انتقل من سنه المريضة إلى الجانب الأيسر من فكه وبدأ يحز قلبه، أنزل محمد المسدس الذي وضعه على صدغه، وقال:
- لا أستطيع.
ثم أطبق بيده الأخرى خده الذي بدأ الألم الحاد يتصاعد منه ويتسرب إلى دماغه.
قال هذا الكلام بطريقة وكأنه ليس من طار طائره وكان يصرخ متلعثما، وانقض على زوجته محاولا خنقها قبل قليل.
وزوجته لم تتغير ملامح وجهها حتى عندما كان يصرخ وانقض عليها في محاولة خنقها. وأما محمد فإن صراخه أثار عصب سنه المريضة فبدأت تؤلمه ألما لا يطاق.
ما زالت زوجته تحدق النظر إليه وملامح وجهها كما هي. قالت بنفس الصوت البارد:
- لا أفهم من الذي يريد الموت، أنت أم أنا؟
لم يدرك، هل كان صوت زوجته، أو رائحة الحديد الأسود للمسدس الذي دفأه في كف يده، أو طعم الحشو الذي وضعه طبيب الأسنان في سنه الميتة أول أمس وجسمه يرتجف، شعر بطعم يشبه طعم محلول كيميائي يملأ جوف فمه.
يوم أمس كان طبيب الأسنان ذو شعر أبيض بردائه الأبيض ووجهه الذي يشبه السن الحادة ينقب سنه في الفك السفلي الأيسر ليضع حشوا، وقال عندئذ:
– إنها سن ميتة.
وبعد ذلك استولى على كل وجود محمد شعور بأنه يحمل في فمه ميتا ولكنه كان يتجاهل ذلك، وكأن شيئا لم يحدث. إنه كان أمرا سيئا يشمئز منه الأنفس، تقريبا تشبه بحال امرأة تحمل في رحمها جنينا ميتا. والآن شعر محمد بطريقة ما بهذا “الجنين” في داخله وضايقته هذه الشعور بشدة. كانت زوجته قد استلقت على جانب السرير بثوب النوم الوردي، تشبه صورة “مادونا” على لوحات العصور الوسطى، وكلما كان ينظر إلى رقبتها، وحاجبيها الأسودين الدقيقين، وعينيها اللتين تحترق فيهما شرارة بلا لهيب تحول الألم في قلبه إلى الغثيان. كان محمد يشعر بأعراض التسمم في جسمه.
ما زالت زوجته تُحدق في وجهه وملامح وجهها كما هي. كانت تنظر إليه، وكأن الذي بيده ليس مسدسا بل يده أخذت شكل مسدس. وكان محمد ينظر إلى باب غرفة النوم الزجاجي ويفكر في نفسه: “يا ترى هل أضرب برأسي هذه الزجاجة وأكسرها لأجرح رأسي ووجهي؟.. أو أصبّ البنزين في الغرف وألقي عليه عود كبريت محترق؟ أو أقوم بأي عمل آخر حتى أغيّرَ سحنة زوجتي هذه؟”
انقبض قلبه، وصوب المسدس هذه المرة على جبينها وقال:
– سأقتلكِ إذن.
بمجرد سماعها هذه الكلمات اتسعت حدقتي عينيها قليلا، وارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة. ثم لسبب ما ظهرت من جديد علامات اللامبالاة على وجهها وقالت بصوت خافت:
– هيا اقتُلْني.
عندئذ أدرك محمد أنه لن يستطيع قتل زوجته الميتة بالرصاص.
نظرت زوجته إليه بنفس الطريقة مدة وملامحها ما زالت مثل ملامح شخص ميت، ثم تنهدت بضجر وقالت:
– إلى متى سنستمر هكذا؟!
و تقلبت على الفراش، ثم أدارت وجهها إلى الحائط، وقالت بصوت هادئ ملئ بالكراهية:
– أطفء النور قبل النوم.
لم يتمكن محمد من النوم طول الليل. فقد أعاد ضرسه المحشي الذي كان يؤلمه، إلى ذاكرته أمه وجدته وأخواته وجميع النساء من الأقارب اللاتي عرفهن منذ ولادته، وحاول أن يجد أوجه التشابه بينهن وبين زوجته، لكنه لم يجد، فطار نومه نهائيا. ثم بدأ يفكر، وألم ضرسه بدأ يوجع عينه اليسرى، أنه يعيش مع هذه المخلوقة الشبيهة بالمرأة منذ خمسة عشر عاما تحت سقف واحد، ويضع رأسه معها على نفس الوسادة، ويقسم معها قوت يومه ، وأنها ولدت له الأولاد، لكن ليس لديها أي شيء مألوف أو قريب منه، بل إنها كانت في الواقع لا تملك شيئا لا من قريب ولا من بعيد. الواقع – كلما كان محمد يفكر في زوجته ويصل إلى النتيجة كان يشعر بخفقات قلبه وبرودة في يده، لم يستطع حتى الآن أن يفهم من هي، ومن هنا كان يخلص إلى أنها ليست بشرا على الإطلاق…
وقد اكتشف محمد أن زوجته ليست إنسانة أصلا لأول مرة قبل عامين، في إحدى مناسبات عيد الميلاد عندما جلسا على مائدة الطعام وجها لوجه ليتناولا الغداء في المطبخ.
في هذا اليوم أثار جدال حول موضوع تافه غضبها، فنظرت إلى محمد وشرارات الغضب تخرج من عينيها حتى ارتجفت أوصاله وغص بالخبز. وبعد ذلك الحادث وجد محمد نفسه غير قادر على النظر في عيني زوجته. وذات مرة هاجم عليها وحتى ضربها خوفا من تلك النظرات. ويذكر أنه في يوم من الأيام ألقى بها على السرير وبدأ يضرب على رأسها وكلما واصل الضرب بدا له أنه يضرب عينيها السوداوتين اللتين تقذفان في قلبه الرعب، فقبض يده بشدة وظن أنه قد قضى عليهما.
ولكن بعد بضعة أيام وجدهما تنظران إليه بنفس الطريقة ولم يتغير فيهما شيء أبدا. وبالرغم من أن زوجته لزمت الفراش لعدة أسابيع بعد تلك الحادثة بسبب الارتجاج الدماغي، واحولال عينيها إلا أنها احتفظت في أعماقها الكراهية العميقة كما هي. ومنذ ذلك اليوم اكتشف محمد شيئا آخر وهو أن زوجته لن تعود إنسانة حتى لو ضُربت ألف مرة.
كان رأسه يؤلمه من كثرة التململ في الفراش. فنام على جنبه الأيمن، ونظر بعينيه النعاستين إلى رأس زوجته النائمة، ثم أغمض عينيه وبدأ يعد من المائة إلى الواحد كي ينام… وأخيرا بطريقة ما استغرق في النوم.
حلم محمد بأنه يدفن زوجته وهو يبكي وينحب بحرقة وجزع…
أبدى جمال وجه زوجته في التمثال المصنوع من الرخام الأسود الذي نُحت بطلبه وذوقه، بمال جمعه بمنتهى الصعوبة قبل وفاتها. ونُصب على قبرها بواسطة الرافعة بما أنه كان كبيرا للغاية. وكلما طاف الناس حول هذا التمثال الضخم وهم ينظرون إليه بدهشة من أسفله كان محمد يكاد أن يموت من شدة بكائه… وعندئذ كان الحاضرون يلتفون حوله ويصبّرونه ويطيّبون خاطره، وتقولون له أشياء تتعلق بالموت، ويقومون بمواساته في عناية، ولا أحد بينهم يعرف السبب الحقيقي لبكائه المر ولن يعرف… سيحمل محمد هذا الألم والحزن في أعماق قلبه إلى القبر.
عندما استيقض محمد من النوم في الصباح وجد المسدس كما تركه موجودا على الخزانة الصغيرة بجوار السرير. وقد رتبت زوجته الغرفة قبل مغادرتها المنزل إلى العمل كالعادة، ومسحت الغبار من على الخزانة ولم تلمس المسدس.
أخذ المسدس وبدأ يقلبه في يده من وجه إلى وجهه الآخر.
كان المسدس محشوا منذ الليل. أخرج الرصاصة من المخزن ووضعها في راحة يده. في البداية قرر أن يتركه في مكانه الخاص، على رف الدولاب الحائطي في الدهليز، لكنه انصرف عن فكرته هذه، ووضع الرصاصة في درج الخزانة الصغيرة، ثم وضع المسدس على الخزانة الصغيرة وقام من السرير.
عندما بدأ يزرّر قميصه شعر بألم حاد، وكأن صاعقة ضربته في جذر ضرسه الذي تورم من شدة الألم طول الليل حتى فمه كاد لا يتسع له… وأيقن أن عليه الذهاب إلى طبيب الأسنان ذي وجه مدبب.
***
بعد بضع ساعات، كان محمد قد وصل إلى العيادة، وعندما مسك طبيب الأسنان أدواته وكاد أن يدخل بكل جسده في فمه، كان لا يزال يفكر في قتل زوجته. وكلما أوجعه ضرسه كان قلبه يشقف على نفسه وعلى زوجته.
بدأ الطبيب بتنظيف المنطقة التالفة، وكلما اشتد الألم تخيل محمد بأنه يضغط بقوة على وسادة وضعها على وجه زوجته… كانت زوجته تتخبط تحت الوسادة مثل التمة البيضاء مدة، ثم لفظت نفسها الأخير. وكان محمد يدرك حقيقة الموقف فرفع الوسادة من على وجهها… وبكى بنحيب وهو ينظر إلى المرأة الحسناء ذات رقبة بيضاء، حتى أغمي عليه.
كانت جميلة حتى بعد موتها…
ترك هذا المنظر في محمد أثرا عميقا حتى اغرورقت عيناه بالدموع وسالت قطرتان منها على خده وسقطتا على يد الطبيب التي فاحت منها رائحة الدواء.
رفع الطبيب رأسه ونظر إلى محمد بعيون ذاهلة، ثم دفع بمعصمه إلى الوراء نظارته التي تدلت إلى راعف أنفه، وقال مرتبكا:
– أيعقل هذا؟ لكن يجب ألا يتألم!
عندما خرج من غرفة الطبيب كان يشعر بألم في كل جسمه. وكان الألم كألم ضرسه تماما في لثته اليسرى، تحت قدميه عند المشي، وفي عينيه عند النظر، وفي قلبه عند كل خفقة، كأن جذور سنه المريضة امتدت من تحت فكه عبر كل جسمه إلى أخمص قدميه.
هبت الرياح… فرفع ياقة سترته ليستر بها وجهه، وسلك طريقة ضد الرياح. وكلما ضربت الرياح الغبار على جسده المريض تذكر المسدس الذي تركه في الصباح على الخزانة الصغيرة، وبدأ قلبه يدق بشدة… يا ترى من أين وكيف خطر بباله هذا المسدس الأسود الذي اشتراه من سوق سوداء، مر بها مع زوجته بالصدفة، والذي كان ملفوفا بمنشفة قديمة وكان منسيا في إحدى الرفوف العليا في الدولاب الحائطي في الدهليز؟..
ثم انتبه… تذكر المسدس لما خطرت بباله فكرة قتل زوجته. ولكن لماذا كان يريد قتل هذا المخلوق الصامت، من أين تبادرت هذه الفكرة السخيفة إلى ذهنه؟ إذا كانت تلك المخلوقة الشبيهة بالمرأة لا تحبه، أي كما كان في السابق لا تستطيع أن تحبه، لم كان عليه أن يقتلها؟ يا ترى أيجبر الميتة على حبه؟..
ومع عصف الرياح واشتداد هزيزها المخيف كان محمد يتذكر مسرحية “الانتحار” التي أقامها ليلة أمس حاملا المسدس بيده، فكاد يموت من الخجل.
مرت شاحنة أمامه وتوقفت بعد أن كادت أن تدهسه، وما إن وقفت حتى أخرج رجل مسن رأسه من نافذة السيارة وصرخ بأعلى صوت ملأ الشارع كله:
- أيها المجنون إذا تريد الموت اذهب وارم نفسك في البحر، لا توقعنا في ورطة ولا تسبب لنا المشاكل…
نظر محمد إلى الرجل نظرة بليدة لا معنى لها، وفكر في نفسه بأنه لا يزال يحب زوجته.
ولما عبر مفترق الطريق وتوجه إلى منزله تذكر من جديد مسرحية “الانتحار” التي أقامها في الأسبوع الماضي وأخاف أولاده وأبكاهم، وبعد تلك “المسرحية” قالت زوجته بنبرة هادئة مليئة بالحزن، كشخص سئم من الدنيا ومما فيها:
- احترم المسدس على الأقل.
وبعد ذلك اليوم سقط المسدس من عين محمد.
عندما وصل محمد إلى حارته أخذت تسري في بدنه قشعريرة… وارتعش جسمه عندما وجد أن الرياح فيها تعوي بشكل مختلف… مر أمام عينيه منظر منزله الآن؛ المسدس المتروك على الخزانة بجوار سريره، وكأنه ينتظر في صبر شيئا ما… صورة زوجته بملامحها الميتية… وغرفة النوم الصامتة الباردة…
فتح محمد باب المنزل بمفتاحه الخاص. وجد أحذية زوجته عند الباب، ترامى إلى أذنه صوت منخفض للتلفاز من المطبخ. خلع سترته في الدهليز ومضى إلى غرفة النوم بخطوات بطيئة. فزع عندما فتح النور في الغرفة…
كان المسدس لا يزال على الخزانة الصغيرة كما تركه في الصباح… وقد بدلت زوجته ملابسها في هذه الغرفة بعد عودتها من العمل. وتركت ملابسها على السرير، ووضعت ساعتها اليدوية وأقراطها وخاتمها أمام المرآة.
تقدم بخطوات بطيئة إلى الخزانة وأخذ المسدس، ثم تفحص ما حوله في الغرفة باحثا عن مكان لإخفائه.
- ماذا، لم تعد تحتاج إليه؟..
كان صوت زوجته… كانت واقفة على عتبة باب الغرفة واضعة يدها خلف ظهرها، تنظر إليه بعينيها غارت إما من التعب وإما من البغض والحقد…
مسح المسدس بلطف وقال:
- ولِمَ لا؟
وقفت هنينة على عتبة باب الغرفة وعلى وجهها علامات استهزاء لاذعة، ثم استدارت وبخطوات بطيئة على ما يبدو انصرفت إلى المطبخ.
جعلت ملامح وجهها يشعر محمد من جديد بألم حاد في سنه المريضة، وتهادى إلى سمعه صوت طبيب الأسنان يقول:
- السن المريضة تحتاج إلى هدوء تام.
كست علامات التعب والإرهاق وجه زوجته أثناء تناولهما العشاء. كانت تمضغ الأكل بلا رغبة وفي تثاقل, كأنها لا تشعر بطعم الطعام. وبين وقت وآخر دون أن تحول بصرها عن شاشة التلفاز كانت تقول لابنتها:
- امضغي الطعام جيدا.
وكانت ابنتها تحملق في وجه محمد تارة وفي وجه أمها تارة أخرى، وهي تمضغ الطعام بوجوم. وعندئذ حوّلت زوجته بصرها عن التلفاز وتحدقت إلى وجهها، وقالت بصوت صارم:
- ماذا؟
هزت الطفلة كتفيها وقد شحب لون وجهها وقالت:
- لا شيء… ثم اغرورقت عيناها بالدموع وكأنها تلقت صفعة فجأة.
وأما محمد فكان يفكر في نفسه أنه لعل الأولاد استولى عليهم الرعب الآن أيضا… ثم بدا له أن اللقمة في فمه تزداد حجما تدريجيا كلما مضغها، وكلما يأكل الطعام بالشوكة فإنه يزداد في الطبق بدلا من أن ينقص…
ترك الشوكة على المائدة بهدوء وقام عن مائدة الطعام ومضى إلى غرفة النوم، وخلع ملابسه في الظلام دون أن يفتح النور، وآوى إلى فراشه وهو يتحرك بحذر وكأنه يخاف أن يحرّك الأشياء من مكانها، ثم سحب اللحاف على رأسه.
كانت زوجته بعد قليل تتقلب من جديد بين يديه القويتين… مسك بيده رقبتها الملساء وبالأخرى كان يمرر الموس ببط على بشرتها ناصعة البياض… كلما كان دمها الساخن يسيل على ذراعيه كانت الدموع بنفس السخونة تنساب من عينيه… وكلما نزفت تقلبت بين ذراعيه مثل التمة…
وقد مضى الكثير من الوقت عندما دخلت زوجته الغرفة التي خيم عليها ظلام هادئ. وكان محمد يضع بحذر جثمان زوجته التي أغمضت عينيها للأبد على التراب…
ألقت زوجته نظرة على المسدس الموجود على الخزانة، وقالت وهي تكاد لا تحرك شفتيها التي ذبلت:
- ما بالك، هل انصرفت عن فكرة قتل نفسك؟..
وعندما قالت هذه الكلمة اختلجت طرف شفتها، ولعل هكذا بدا لمحمد.
أدخل محمد رأسه تحت الوسادة وهو ناعس، وبدأ يفكر أن قتل نفسه قد تسبب في انتعاش جسمها الميت أخيرا، وبعد هذه الفكرة شعر محمد بارتياح غريب في نفسه. ثم واصل تفكيره متضيقا صدره وما زال رأسه تحت الوسادة أنه لعله كان رد فعل زوجته على “مسرحية” الليل أقامها في الأشهر الأخيرة، وإذا كانت هي السبب فزوجته محققة. كم مرة خلال شهر واحد يمكن للمرء أن ينتحر؟!..
أخرج رأسه من تحت الوسادة ووضع يديه خلف رأسه بوقار وقال:
- لم لا تنامين؟
خلعت ملابسها في تثاقل ولبست قميصها النومي، ثم دنت من المرآة بخطوات خفيفة ووقفت أمامها وظهرها لمحمد، ثم أمسكت المشط وبدأت تصفف شعرها بهدوء، وقالت:
- ولم أنت لا تنام؟..
ولأول مرة في حياته شعر محمد بارتعاش في صوتها.
- هل تظنين بأنني أخاف من الموت؟.. ولمح أن حدقتا عينيها اتسعتا مرة أخرى بعد سماعها كلمة “الموت”.
وانتصب محمد جالسا في فراشه، تناول المسدس من على الخزانة الصغيرة وبدأ يقذفه إلى أعلى ويلقفه وهو ينظر إلى عكسها في المرآة. ثم وضع فوهة المسدس على صدغه تارة وصوّب إلى عكس زوجته في المرآة تارة أخرى. ورأى أنه كل مرة عندما كان يضع المسدس على صدغه كان عكسها في المرآة يرتعد رعبا، لذلك وضعه على صدغه وظل جالسا هكذا لمدة.
كانت زوجته تنظر إليه نظرة رحمة عبر المرآة، ومع استمرار نظرتها كانت حاله تتحسن… كان يشعر بيسر وحيوية وانتعاش في داخله، كان هذا يؤثر عليه للغاية حتى اغرورقت عيناه بالدموع.
فكر في نفسه للحظة واضعا فوهة المسدس على صدغه، وهو ينظر إلى عكس زوجته في المرآة، لو أنه لم يفرغ مخزن المسدس هذا الصباح لكان يمكن أن يموت وهو ينظر إلى وجهها الحنون، فوضع إصبعه على الزناد، وقال:
- إذن! ماذا تقولين، هل أطلق النار؟
كأن زوجته لم يسمع كلامه، كانت مثل الميتة تحملق به في المرآة، وقالت بصوت صارم:
نعم، أطلق! ثم نكصت على عقبها، وقالت بصوت متحشرج يشبه صوت الرجل، لم يسمعه منها أبدا من قبل:
- قلتُ لكَ أطلِقْ!
لم يفهم محمد أكان صوت زوجته، أم ملامح وجهها، أم ألم حاد ضرب فكه الأيسر مثل رعد قاصف سببا في هز يده؛ فضغط بإصبعه على الزناد… أخرج صفير الرصاصة مخ محمد مع ألم حاد في فكه الأيسر، ودفعه قوة الطلقة إلى الوراء، وألقى بجسده على الوسادة… ظل محمد متحدقا في سقف الغرفة. وانعكست على حدقتي عينيه المجمدتين صورة التمة البيضاء ومضت كبرق ناصعة البياض تترك الغرفة بخطوات صامتة في قميص نوم وردي…
للكاتبة آفاق مسعود
ترجمها من اللغة الأذربيجانية إلى العربية “فريد صابر جمالوف”.