نظم “مختبر الدراسات الأدبية واللغوية والرقمية” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، بتعاون مع مكتبة الكلية، مؤخرا برحاب مدرج ابن خلدون الحلقة الأولى من سلسلة “كُتاب في رحاب الكلية” التي خصصت للاحتفاء بتجربة مراد القادري الشعرية.
في الجلسة الافتتاحية، أكد الدكتور المعتمد الخراز، مسير الندوة ومنسقها، أن الهدف من تنظيم سلسلة “كُتاب في رحاب الكلية” هو انفتاح الكلية على محيطها الثقافي الغني بالطاقات الإبداعية والنقدية، وذلك بتخصيص كل حلقة من حلقاتها لكاتب، يتم من خلالها تقديم قراءات نقدية في منجزه الإبداعي أو النقدي أو الفكري، ثم فتح حوار بين الكاتب وقرائه، بعد ذلك أشار إلى أن سبب اختيار الشاعر مراد القادري ضمن الحلقة الأولى يأتي لما يتميز به منجزه على المستويين الإبداعي والنقدي من خصوصية وفرادة، استطاع بهما “بلوغ الأمل في فن الزجل”، فمراد القادري في مجال الإبداع الشعري – حسب تعبير المعتمد الخراز – وارث سر الزجالين الأصلاء، منذ ابن قزمان الأندلسي وحتى أحمد المسيح المغربي، وفي النقد هو سليل قبيلة من الباحثين الذين اهتموا بالزجل، منذ صفي الدين الحلي إلى محمد الفاسي وعباس الجراري.
وأكد الدكتور محمد السيدي، مدير “مختبر الدراسات الأدبية واللغوية والرقمية”، أن الهدف من سلسلة “كُتاب في رحاب الكلية” هو تقريب الكتاب والمبدعين المغاربة من الطلبة والباحثين في الكلية من خلال تقديم منجزهم الإبداعي والنقدي، وكذا فتح نقاش علمي معهم، وتحدث الدكتور السيدي عن أهمية اختيار فن الزجل في مفتتح هذه السلسلة العلمية، نظرا لما له من تاريخ عريق في الأدب المغربي بمختلف تلويناته اللهجية، وما يحمله من أدبية وإبداع جمالي، ومن هنا جاء اختيار الشاعر مراد القادري موضوعا لهذه الحلقة، نظرا لما تمثله تجربته الإبداعية والنقدية من خصوصية، وختم الدكتور السيدي كلمته بتوجيه الشكر للمحتفى به على قبول دعوة المختبر.
أما الدكتورة نزيهة جابري، محافظة مكتبة الكلية، فأشارت إلى أن هذا النشاط الثقافي يركز على الاهتمام بالشخصية المغربية، لتكشف بعد ذلك عن وضع مكتبة الكلية لبرنامج ثقافي مواز للدور التقليدي الذي تقوم به المكتبة، المتمثل في توفير الكتب للقراء، وهو برنامج يأتي ضمن رؤية شمولية لدور المكتبة، الذي يقوم على تشجيع البحث العلمي وتحقيق الإقلاع الثقافي، وهو هدف يتحقق من خلال تخصيص الحلقة الأولى من سلسلة “كتاب في رحاب الكلية” للشاعر والناقد مراد القادري، الذي تشهد سيرته عن قيمته الإبداعية والنقدية، كما يشهد بذلك دوره الثقافي من خلال عضويته في عدد من الهيئات الثقافية، لعل أهمها رئاسته لبيت الشعر في المغرب.
أما الجلسة الثانية من هذا اللقاء فقد عرفت مداخلات نقدية شارك فيها كل من الدكتور منور بوبكر، والدكتورة العالية ماء العينين، والدكتور أحمد زنيبر، والدكتور عبد الرحمان نباتة.
في مداخلته الموسومة ب”حوار الثنائيات في ديوان (ومخبي تحت لساني ريحة الموت) بدلية الحياة والموت)، أشار الدكتور منور بوبكر إلى دور الشعر في عصرنا الحديث، وقدرته على مواجهة الانتكاسات والخيبات. كما أكد أن الشاعر القادري جاء مفعما بشعره ودواوينه، التي اختارت العامية، ليكون بذلك هذا الشعر أحد أضلع الشعر المغربي الأساسية، وهو اختيار يكشف عن وعي مراد القادري الجمالي، الذي لا يتعلق بالدعوة الشائعة إلى اعتماد الدارجة في مجال التعليم والتدريس، إذ لكل منهما مجاله الخاص، وبذلك يكون القادري قد انفتح بوعي عميق على جميع المكاسب التي يمكن أن تغني كتابته، لتقدم إضافات نوعية لعوالمها. وأهم ما اتسم به شعر مراد القادري – حسب الدكتور منور – هي الحركية، التي تجلت بدءا في غلاف ديوان “ومخبي تحت لساني ريحة الموت”، الذي يعتبر مقدمة أساسية لمقاربة الديوان، كونه يطفح بالصور والأيقونات المعبرة، إذ كل صورة أو أيقونة في غلاف الديوان لها علاقة بقصائد الديوان وأبعادها الدلالية، وكذا تجربة المرض التي عاشها الشاعر قبيل كتابته الديوان المدروس. وركز المنور بوبكر في قراءته على أيقونات الغلاف في علاقتها بدلالات القصائد، حيث قام بتحليل أيقونة النادل، وراكب الدراجة، والبومة، والبيت، والشجرة.. إلخ. لينتهي إلى القول أن فضاء غلاف الديوان هو فضاء للتأويل وصراعات التأويل واحتمالات القراءة.
وقدمت الدكتورة العالية ماء العينين مداخلة بعنوان: “ثلاثية لَبْلاَد والذات والشعر محطات (طرمواي) مراد القادري”، وقفت في بدايتها عند دلالات اختيار عناوين دواوين الشاعر مراد القادري التي تحققت فيها الوظيفة الإغرائية، وأنها توحي بشاعرية وعذوبة وروح صوفية. لتنتقل بعد ذلك إلى قراءة عنوان ديوان “طرمواي”، حي قدمت قراءة تركيبية له، وما يستدعيه ذلك من دلالات وقراءات، أهمها ارتباطه بالمدينة والمكان والحركة، فهو عنوان يحمل إشارات أهمها إشارة “المحطات”، وهو اختيار يعطي هوية للديوان.
وميزت الدكتورة العالية في ديوان “طرمواي” بين ثلاث محطات، وهي: أولا محطة لَبْلاد: والبلاد ترتبط بالمدينة، وهي عند الشاعر مدينة الرباط، التي تحضر من خلال بعض الفضاءات، مثل: المركز الثقافي الروسي، وأبي رقراق… وقد تتسع لبلاد عند مراد القادري لتشمل الكون، وقد تضيق لتنحصر في البيت أو مكان افتراضي. ثانيا محطة الذات: والذات في “طرمواي” متشظية تنازعتها ضمائر الحضور والغياب، إفرادا وجمعا، ليقوم القارئ بلم شتاتها، وقد تميز حضور الذات المتكلمة في قوة رغبتها في التحرر إلى درجة الرغبة في الصراخ، لكن رغم ذلك فإن الذات لا تعدم لحظات الأمل والرجاء والوحي والحلم. وتحدثت الباحثة العالية عن الذات المطلة من الغياب، المرتبطة بضمير الغائب، فهي أكثر التصاقا بجوارح الروح، بما تحمله من شاعرية وما يتسرب بين حروفها من معاني الحزن والحنين. ثالثا محطة الشعر: فالشعر – كما تقول – وعاء يحتضن المحطات السابقة، وهو ما تجلى في ثلاث قصائد جعلت الشعر موضوعا لها، وهي: “شعر” و”يعجبني” و”القصيدة”، وهي تكشف عن أن الشعر هو الذي يجتاح ويعصف بدون استئذان، شعر يصحح ويعلق ويغير، ويحتل كيان صاحبه.
أما عنوان مداخلة الدكتور أحمد زنيبر فهو: “تقاطعات الذات والمجتمع في ديوان (غزيل لبنات)”، وقد افتتحها بالحديث عن أهمية تجربة مراد القادري، وانحيازها للجمالي، حيث في الديوان الأول “حروف الكف” انحاز للجماعي، بينما جاء الديوان الثاني “غزيل لبنات” مرتبطا بالتجربة الذاتية، ليعبر الشاعر من خلاله عن نفسه وشخصيته، وأول علامة على ذلك هو عنوان الديوان الذي يرتبط بالطفولة، ومما لاحظه زنيبر على هذا الديوان، عدم انتظام التواريخ الملحقة بالقصائد وفق تسلسل زمني، وهذا ما يجعلها تقدم تجربة متكاملة ومتداخلة. وفي سياق تحليله لقصائد الديوان، ميز الدكتور زنيبر في قراءته بين مستويين؛ قراءة أفقية وأخرى عمودية، ففي القراءة الأفقية تحدث عن موضوعات الديوان، الذي هيمن عليه الجانب الإيروتيكي، حيث اعتمد القادري على التقاط تفاصيل الحياة وصورها، من خلال الاستعانة بتقنية العين المبصرة والبصيرة، ودمجها في الأحاسيس، كما حضرت الأنثى في الديوان، بلباسها وزينتها وحضور الرجل في حياتها والتفاعل بينهما، أما المكان في الديوان فقد اعتبره زنيبر رمزا معبرا عن أحوال المجتمع، وهو ما تحقق وجوده في القصائد من خلال توظيف العين اللاقطة. أما القراءة العمودية فتتعلق بجماليات الديوان، وأهم ما يلفت الانتباه في هذا الجانب هو توظيف معجم مرتبط بالثقافة الشعبية وحياتنا اليومية، وهو ما يؤكد استمرارية هذه اللغة وحضورها التواصلي، وهو أيضا معجم صوفي، أما على مستوى التخييل فتحقق باستلهام الصور البلاغية التي تخرق أفق انتظار القارئ، كما أشار الباحث إلى توظيف بعض الظواهر البلاغية في الديوان المدروس، مثل: مثل الطباق، والتكرار، والجناس.
وقدم الدكتور عبد الرحمان نباتة مداخلة بعنوان: “الزجل في المغرب: قضايا وإشكالات”، خصصها لدراسة ديوان مراد القادري “حروف الكف”، وقد أكد في مفتتحها أن القصيدة الزجلية تمثل جزءا من الأدب الشعبي، التي تكتب باللغة العربية المحلية. بعد ذلك تعرض الباحث لعنوان الديوان الذي دعا إلى النظر إليه في علاقته مع نصوص أخرى، مثل: القرآن الكريم والشعر العربي الحديث، خصوصا في علاقته بديوان “الفروسية” لأحمد المجاطي، الذي ختمه بقصيدة عنوانها “الحروف”، كما قام بقراءة للديوان من خلال مستوى اللغة، التي جعلها تنقسم إلى قسمين، أولا: لغة أصيلة في المجتمع المغربي، وهي تنقسم بدورها إلى قسمين، قسم أصيل حديث، وقسم أصيل قديم، وثانيا: لغة دخيلة، مثل توظيف الكلمات الفرنسية. وقد اعتمد الدكتور نباتة على منهج المقارنة من خلال المقارنة بين ديوان مراد القادري “حروف الكف” وديوان الوزاني البوحسيني “رياض العشاق”، حيث أكد أن لغة القادري ترتبط بلهجة محلية خاصة بمدينة سلا، وترتبط بالمكان والمحيط من جهة أخرى.
وتحدث الباحث نباتة عن الشكل الهندسي لقصائد الديوان، حيث اعتبره يختلف عن قصيدة الملحون التي تتسم بشفويتها، بينما يكتب مراد القادري نصوصه بشكل حديث. وختم الباحث مداخلته بالإشارة إلى البعد الصوفي في قصائد مراد القادري مثل قصيدة “بغداد”.
في نهاية اللقاء، ألقى الشاعر مراد القادري كلمة بالمناسبة، اعتبر فيها أن هذا اللقاء يمثل لحظة ذات بعد ثقافي وعلمي ومعرفي وأكاديمي بادرت إليه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بما تمثله من قيمة رمزية، هي لحظة الاحتفاء بالثقافة والأدب المغربيين، بما يتسمان به من اختلاف وتنوع، وهي لحظة تؤكد الابتعاد عن أحادية الرؤية في مقاربة الأدب المغربي، الذي يتسم بكثير من الثراء، كما أكد القادري أن تخصيص هذه الحلقة للاحتفاء بالزجل هو تقليد ممتد في الجامعة المغربية، كانت فاتحته مع ما قدمه عباس الجراري في أطروحته “القصيدة” في نهاية الستينيات، الذي دافع فيها عن الشعر الشعبي في جامعة القاهرة برمزيتها الثقافية، حيث أكد عن إبداعية النص الزجلي وشعريته، وبذلك تكون العامية هي صنو للعربية الفصيحة، وإغناء لأدبنا وثقافتنا المغربية. وفي نفس السياق يستحضر الشاعر مراد القادري الدور الذي قامت به الجامعة المغربية وخصوصا كلية الآداب بالرباط، من خلال ما قدمته من دراسات وبحوث، أنجزها باحثون من أمثال: حسن بحراوي ومصطفى الشادلي وسعيد يقطين، الذين أعادوا النظر إلى العامية ونصوص الأدب الشعبي، حيث اعتبروها نصوصا تحمل جمالية وإبداعية، وتحمل رؤية الشاعر للعالم والذات، سواء منها النصوص القديمة أم الحديثة، وفي مختلف الأجناس الأدبية والتعبيرية. وختم الشاعر مراد القادري كلمته بالحديث عن سياق ولادة دواوينه الشعرية، حيث أكد أن ديوان “مخبي تحت لساني ريحة الموت” جاء في سياق وضع الهشاشة والإحساس بالضعف والغياب الذي رافق جائحة كرونا، أما ديوان “طرمواي” فقد جاء ليسجل حالة حضور وتجربة عبور الشاعر بين مدينتي سلا والرباط والتقاطه لمشاهداته، بينما جاء ديوان “غزيل لبنات” في سياق حاجة الشاعر لإحداث صدمة لدى القارئ في تلقي شعر العامية، حيث فقد هذا الشعر خلال الستينيات والسبعينيات وهجه لارتباطه بالسياسة والإيديولوجا، فأصبح شعارا أكثر من كونه نصا إبداعيا جماليا، لذلك جاء ديوان “غزيل لبنات” رغبة في إعطاء الشاعر صوته الخاص من خلال العودة إلى الجانب الذاتي والفردي، ومن هنا الاهتمام بالجسد والتفاصيل اليومية، إنه ديوان – كما يقول القادري – جاء لإثبات الاختلاف والتميز والانتصار لجماليات النص.
في ختام اللقاء تفاعل الشاعر مراد القادري مع أسئلة الحاضرين الذين وجهوا له سلسلة من الأسئلة تتعلق بتجربته الشعرية ورؤاه النقدية والمنهجية في التعامل مع النص الزجلي، كما قرأ مجموعة من القصائد التي تمثل مراحل من منجزه الشعري، ليقوم بعد ذلك مدير مختبر الدراسات الأدبية واللغوية والرقمية الدكتور محمد السيدي بتسليم شهادة تقديرية للمحتفى به.