انفتحت بوابة قاعة العمليات بالمشفى العمومي على مصراعيها واشرأبت أم الرجل الأربعيني بجيدها مع ثلة من الأقارب وضربات القلوب تتسارع لسماع النبأ :
-مع الأسف ياسادة..!! لقد تم بتر يد المُصاب بالكامل، لكن حالته مستقرة
تداعت الأم منهارة .. ضربت كفا بكف ثم صرخت : ” رحماك ربي!!.. فيا
لحظّ ابني التعس منذ صباه.. !! “.
******
على مقربة من النافذة المطلة على الساحة الداخلية للمشفى، كان الجسد المرهق الممدد على سرير فولاذي يغالب ضغط الرقاد وأثر التخدير على جسمه كلّية. استوى في جلسته بصعوبة بالغة وأطل على الساحة التي تعج بالزوار وذوي الوزرات البيض وعربات المرضى التي تجرها ملائكة الرحمة في ذهابها وإيابها.
مع الأسف ياسادة..!! لقد تم بتر يد المُصاب بالكامل، لكن حالته مستقرة
مسّدت برودة الصبيحة محياه بلطف ودغدغت أنفه بتؤدة؛ بالكاد استطاع فتح عينيه والإصغاء بأذنيه، لكن الرؤية خذلته وانحسر السمع فتلاشت المرئيات والمسموعات من أمامه، وكأنّ على حاستـيْه غشاوة كثيفة.
عاد إلى وضعه الطبيعي وحاول الإمساك برأسه بين يديه لاستجلاء حقيقة مُصابه فلم يسعفه الطرف الأيمن وأحس بالفراغ. حينئذ أدرك أن يده قد بُـترت بالكامل، وأن العملية لم يُكتب لها النجاح، وأن العاهة ستلازمه، وأن العجز والإعاقة سيطالانه طيلة حياته، وسيصبح والحالة هذه عالة على ذاته وعلى الآخرين، أضف لكل هذا ما لذلك من وقع بالغ على الجانب النفسي والروحي والوجداني.
داهمته نوبة بكاء طفولي.. شرع يكيل السب والشتم للطب والمطببـين، هو الذي كان بالأمس أشد عقلانية وأكثر تعلقا بالعلم وأهله ومريديه. غمر كيانه تساؤل غير معهود : كيف ينازعه اليوم يأسٌ مرير ليتـزحزح إيمانه على حين غرة..!؟
******
أثناء عيادته للرجل الأربعيني الممدد أمامه، وبحركة ركوعية مألوفة بنصفه العلوي البدين، أحنى الفـقيه برأسه وهمس في أذنه بكلمات متقطعة لم يستطع جمع شتاتها : ” لا عليك.. معك الله.. لا تيأس.. اليد قطعة من جسدك.. فلا تنس مراسم الدفن.. !!”. كادت أن تنطلق من فيه ضحكة استغراب عندما ترامت إلى مسمعه عبارة “مراسم الدفن” لولا أن أبطل مفعولها وعادت تحمله سحابة تأملاته بعيدا.. وكيف له ألا تغشاه هالة من اندهاش ولم يسبق أن سمع بمثل ما سمع؟. إنْ كان ذلك هو عين الحق، فسيلزمه الرضوخ لحكم العادة والاستجابة للطقوس إذن.
أجل.. !!إن حقيقة ما نمتلكه هي أن ننساه مع الأيام لتـنمحي ذكراه ذات يوم لا محالة؛ أما ما هو جزء من جسدنا وقطعة من لحمنا فأغلب الظن أن يظل عالقا بين ثنايا الذكرى طال الزمن أو قصر مادمنا نكتمل به وبنا يكتمل. كيف لنا أن ننساه وأدمغة مبتوري الأطراف تبقى طيّ الدماغ حتى بعد مرور عشرات السنين من عملية البتر على حد قول الأطباء…
بعض من رفاق الدرب الذين زاروه في مشفاه هذا، أبلغوه عطفهم وعرضوا عليه مؤازرتهم وما يلزمهم نحوه من واجب الصداقة حاضرا ومستقبلا. أبدى لهم شكره وامتنانه، غير أنه أومأ لهم بإشارة يُفهم منها أنه لن يسمح بأن يكون مثارا للإشفاق حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات بعد أن كان من طبعه الأنفة والترفع والغنى عن الناس.
******
قالت زوجة الرجل الأربعيني المُصاب وهي تنحي باللائمة على الآلة الصماء : ” قبحها الله من آلة لعينة ومن صنعها..!! الله يلعنها سلعة!!.. “
قال الشقيق الأكبر للرجل مصححا :” بل اللعنة لصاحبها والساهر عليها”.
قال الذين وقفوا موقفا وسطا في تفسير النازلة : ” لا هذا ولا ذاك .. إنه قدر مقدور، ولاراد لقضاء الله ” .
في الرد على كل اتهام أو ملامة، قال صاحب الورشة وقد استبد به غضب عارم: “عجبا لكم يا ناس..! فما قولكم في التهور البشري والاندفاع الأعمى بلا حذر…؟ “.
لم ينتبه أحد إلى أن الشيء المهم في الظرف الحالي ليس سبر الأغوار والبحث عن المكنونات لكشف الأسباب والمسببات. ماهو ضروري هو التساؤل عن أحوال الرجل والإسراع الى مواساته في مُصابه والأخذ بيده .
******
الإنسان كائنا من يكون لا يسلم من ألسنة الناس، وهؤلاء ذاتهم لا يسلمون من أقاويل غيرهم، وذلك في سلسلة طويلة متراصة الحلقات .. متواصلة إلى ما لا نهاية.
هذا ما تبادر إلى بؤرة اعتقاد الرجل الأربعيني بعد أن تناسلت عبارات القيل والقال وترامت إلى مسمعه محاولة تفسير دوافع الحدث :
– يده كانت مغلولة إلى عنقه
– الرجل كثير الذنوب والآثام
– قطع اليد من قطع الأرحام
– سلوك الرجل سلوك أرعن
قالت ” لاّلاّ رحمة ” وقد أطلقت لسانها في مجمع نسوي : “ما سيحزّ في نفس الأسرة المسكينة هو فقدان ابنها المُصاب لاسمه نبزا بالألقاب يوما بعد يوم”. غمرتها سحابة صمت لبرهة وجيزة ثم أضافت : (( ألا تذكرون ” السي عبد القادر” جارنا القديم.. سائق الشاحنة، عندما بُترت يده في حادثة سير.. نسي الجميع اسمه ولم يتوقفوا عن مناداته بـ ” بو إيديا* ” فيما بينهم وفي غيابه بل حتّى في حضوره حال الخصام.. ألم يكن ذلك أشد إيلاما له من فقدانه يده بالذات ؟ )).
******
مكث الرجل الأربعيني زمنا طويلا وكوابيس الليالي الطوال تدثره بشملتها العجيبة. كانت اليد المبتورة خلالها لا تفتا تلتئم ملتحمة بالجسد المنكوب فينتابه شعور بسعادة لا توصف.. غير أنه لا يلبث أن يستفيق في كل صبيحة على سراب مقيت لتتبخر الأحلام الجميلة وتذروها الرياح…
——————————-
* بو إيديا : ذو اليد الواحدة…
صالح اهضير – المغرب