دار الشعر بمراكش: “ترجمات” نافذة على جغرافيات شعرية كونية
ضمن سلسلة “ترجمات”، صدر للشاعر والمترجم إدريس الملياني كتاب “توربينا” أشعار من مدونة حياتي (2022)، عن منشورات دائرة الثقافة بالشارقة. ويأتي هذا الإصدار الجديد، ضمن مبادرة التعاون المشترك بين وزارة الشباب والثقافة والتواصل بالمملكة المغربية ودائرة الثقافة بحكومة الشارقة دولة الامارات العربية المتحددة، والتي تسعى من خلالها دار الشعر بمراكش إطلاق سلسلة من الإصدارات النوعية، في أبواب (ترجمات، نقد، إبداع، أنطولوجيات) لإغناء المكتبة المغربية والعربية بالعناوين الإبداعية وترجمات ونقد، تستقصي أسئلة الشعر وقضاياه، وتنفتح من خلاله على جغرافيات شعرية كونية من مراكش، مهد الحداثة الشعرية المغربية.
وبعد ديوان “ذاكرة الياسمين” للشاعر رضوان صابر، هذه السنة، وديوان الشاعر رشيد منسوم “وَداعاً أَيُّهَا الدَّغَل، مَرحباً أَيَّتُهَا الفأس” (الصادر السنة الماضية2021)، ضمن الانفتاح على شعراء ينتمون الى شجرة الشعر المغربي الوارفة، شكل الإصدار الجديد للشاعر والمترجم إدريس الملياني، “توربينا”، إطلالة على شاعرة روسية استثنائية، زارتها القصائد وهي في سن الرابعة. لقد نالت الشاعرة “الروسية السوفياتية”، نيكا غريغورييفا توربينا، وهي طفلة لا يتجاوز عمرها عشر سنوات جائزة “الأسد الذهبي” في مهرجان الشعر بمدينة فينيسيا، عن ديوانها الأول “مسودة”. ولم يسبق لأي شاعرة روسية قبلها أن نالت هذه الجائزة العالمية، إلا مواطنتها الشاعرة الشهيرة أنا أخماتوفا، حين كانت في سن متقدمة. ولدت الشاعرة، الطفلة المعجزة، نيكا توربينا، في 17 دجنبر 1974 بمدينة يالطا، وفي الثانية والعشرين من عمرها، سقطت من شرفة الطابق الخامس، ولكنها نجت من الموت، وفي السابعة والعشرين من عمرها، 2002 سقطت نيكا مرة أخرى من النافذة. هذه المرة، لم يكن بالإمكان إنقاذها.
كانت سيرة الشاعرة توربينا مأساوية جدا، عاشت عمرها القصير، وحيدة، مستقلة، مكتئبة، مدمنة، في أرق دائم وقلق مستمر، عاجزة عن التآلف مع الحياة، والثقة بالناس، لا أنيس لها في شقتها الصغيرة، وعزلتها المريرة، غير كلبها الوفي وقطتيها الوديعتين. إن قراءة قصائد الشاعرة، يؤكد الشاعر والمترجم إدريس الملياني، “الطفلة المعجزة والظاهرة الشعرية الخارقة نيكا توربينا تشعر بالقشعريرة، في أبياتها وآياتها وصورها وسورها عنف يومي، وخوف ليلي، وكآبة غابات وآثار ذئاب، إنها ببساطة لا تريح العين القارئة، كأن في ظل صوت نيكا أنين عصفورة مصابة، غير قادرة على شق طريقها نحو ضوء يوم جديد، حيث تعمي بصرها أشعة الشمس الساطعة ويدمي سمعها ضوضاء العالم الخارجي.
وهي نفسها القائلة : “في الليالي فقط أشعر بالحماية من هذا العالم، هذا الضجيج، هذا الحشد، هذه المشاكل!”، لقد كانت حياة نيكا توربينا مثل قصيدتها قصيرة و “مسودة” و “مبيضة” معا على حد قولها عنها: (حياتي مسودة/ كل نجاحاتي، وحظوظي العاثرة/ ستبقى عليها/ مثل صرخة ممزقة بطلقة نارية..). وبغض النظر عن كل شيء، فإن السيرة الذاتية للشاعرة الطفلة المعجزة والظاهرة الشعرية الحقيقية نيكا توربينا شبيهة تماما بقصائدها: قصيرة ومليئة بالمآسي. علم العالم باسم الشاعرة نيكا توربينا عن طريق الكاتب الروسي السوفييتي يوليان سيميونوف، الذي قرأت أمامه عديدا من قصائدها، بإلحاح جدتها ليودميلا فلاديميروفنا. ذاع صيت الشاعرة نيكا توربينا منذ ظهور قصائدها على صفحات “الحقيقة الكومسومولية” يوم 6 مارس 1983. ثم ، دعيت الطفلة الشاعرة إلى موسكو، فكان خطابها الأول في دار الكتاب، حيث التقت بالشاعر الشهير يفغيني يفتوشينكو، الذي لعب دورا مهما في حياة الطفلة الشاعرة والمعجزة، وبفضله ودعمه دخلت الفتاة الأوساط الأدبية للعاصمة على قدم المساواة.
وفي العاشرة من عمرها شاركت في مهرجان “الشعراء والأرض” بفينيسيا، حيث منحت نيكا جائزة “الأسد الذهبي”. وبعد ذلك، ذهبت إلى أمريكا حيث سبقتها قصائدها المترجمة والتقت هناك بالشاعر جوزيف برودسكي. وفي سن التاسعة أصبحت فتاة يالطا العبقرية مشهورة في جميع ربوع الاتحاد السوفييتي والعالم. كان عمر الفتاة تسع سنوات فقط ، عندما صدر ديوانها الأول :”مسودة” عام 1984 بتقديم الشاعر يفغيني يفتوشينكو. وعلى الفور نفدت نسخه الثلاثمائة ألف. وكان عنوانه “مُسَوَّدَة” من اختيار الشاعر يفغيني يفتوشينكو والكاتب يوليان سيميونوف. وبعد هذا الديوان الأول جاءت أعمال أخرى ثلاثة : “درجات إلى أعلى، درجات إلى أسفل” عام 1991 ثم: “لكي لا ننسى” 2004 وأخيرا :” بدأت في رسم مصيري” عام 2011.
جرت جنازة الشاعرة نيكا توربينا في 25 يونيو 2002، أي بعد أربعين يوما من وفاة الفتاة المأساوية. وبفضل جهود أستاذتها وصديقتها أليونا دفن رفات الشاعرة نيكا توربينا في مقبرة غانكوفو، وهي أكبر وأشهر مقابر موسكو، تضم مدافن شخصيات الرياضة والفنون مثل ليف ياشين وسيرغي يسينين وبولات أكودجافا وفلاديمير فيسوتسكي. قبل عام من وفاة نيكا أنجز أناتولي بوريسيوك فيلما وثائقيا بعنوان :”نيكا توربينا: تاريخ الإقلاع” ثم ذكر أن الجميع نسي موهبتها وعبقريتها قائلا في حوار:” عمرها ستة وعشرون سنة، كل حياتها أمامها، ويبدو الأمر وكأنها عاشت بالفعل تقريبا حتى النهاية”.
الشاعر والناقد إدريس الملياني، والذي ينشغل بأسئلة النقد الأدبي والترجمة، الى جانب إبداعاته الشعرية والروائية، عضو اتحاد كتاب المغرب وبيت الشعر وعضو مجلس إدارة دار الشعر، حاصل على جائزة المغرب في الإبداع الشعري. أقيمت له عدة حفلات تكريمية في مدن كثيرة، كما حظيت تجربته الشعرية بعدة دراسات نقدية وكانت موضوعا لكثير من الأبحاث الجامعية وبعض الأعمال المسرحية والتشكيلية والموسيقية. ترجمت بعض أشعاره إلى الفرنسية والإسبانية والروسية والإنجليزية. من إصداراته في الترجمة: (العمق الرمادي، سيرة ذاتية للشاعر الروسي يفتوشينكو، والتراجيديات الصغيرة لبوشكين، ومذكرات من البيت الميت وأيضا الليالي البيضاء، الى جانب أعمال أخرى لدوستويفسكي، و رسم السيرة الذاتية لبوريس باسترناك، ترجمة غزلان الليل حكايات أمازيغية، بطل من زماننا رواية لميخائيل ليرمونتوف، والمعطف، يوميات مجنون، الأنف، ثلاث قصص لنيكولاي غوغول).
أما في الشعر، فقد صدرت له الأعمال الشعرية الكاملة: في جزئين عن وزارة الثقافة المغربية، ودواوين: مغارة الريح )2001(، والتي حظيت بجائزة المغرب في الإبداع الشعري، نشيد السمندل، “تانّيرتْ” ألواح أمازيغية” )2005(، أشعار للناس الطيبين )1967( ديوان مشترك، في مدار الشمس رغم النفي )1974(، في ضيافة الحريق )1994(، زهرة الثلج )1998(عن دار الثقافة، حدادا علي )2000، بملء الصوت)2005(، والكثير من العناوين في مجال الشعر والرواية (فتاة الثلج، “ماتريوشكات”، “كازانفاcasanfa “، “الدار الحمراء”، “محو اللوح”..).
طنجة الأدبية