نُشر مؤخراً عن وزارة الثقافة الفلسطينية في طبعة جديدة، بعد طبعة دار فضاءات الأردنية مجموعة “خمسون ليلة وليلى” القصصية للكاتب والأديب الفلسطيني المعروف يسري الغول. حيث يركز الكاتب في هذه القصص وبشكل أساس على القضية الفلسطينية، حيث تشكل الثيمة الرئيسية في هذا العمل.
في قصص الغول، تتعدد الشخصيات، كلٌّ حسب طبيعة القصة. ففي القصص الأولى يعرض الكاتب صورة المشاعر بشكل فنتازي خلال شخصيات يشعر بها أبناء المخيّم المليء بالركام أثر الدمار والقلوب المحطّمة.
تتهاوى القذائف والصواريخ بغزارة شديدة على رؤوس أهالي هذا المخيم الذي يقطن فيه بطل النص لتحرقَ عمداً الملآئكة -الأطفال- الصغار قبل أي شخص آخر، وهذا بحد ذاته جنون!
تدفق المشاعر لدى الكاتب يجري كجريان الماء في النهر، لكن تجده يقودها بإحكام من شدة صلابته/عروبته/عزمه/ثباته.
اللون الأسود كان سيد الموقف في وصف ونقل الصورة الواقعية، ليعبر عن حلكة الظلام في قلوب هؤلاء الذي يسكنون الجحيم -غزة- حيث لا هي بلدٌ ولا مدينة ولا قرية، إنما قطعة من الجحيم لا لون فيها غير الأسود.
عند الخروج من هذا الجحيم، لا بد وأن يتعرض الغزّاوي لكافة أشكال العذاب الفكري والأذى الجسدي نتيجة التعب والإرهاق والمعاناة التي يشهدها هذا الأخير في سبيل الهروب من المجهول المخيف وظلمة المستقبل في هذه المساحة الصغيرة من الأرض. السفر أصبح أكبر أحلام الناس، بل هوساً عند شبان هذه المدينة بالوصول إلى أوروبا (رغم قسوة الغربة) باحثين عن حياة لا دم فيها ولا قتل.
مرَّت سنين وغزّة مُعلقة بسلاسل من حديد، تموت كل يوم ألف مرة ويتكالب عليها كل من هو عدوٌ مبين وتُغتصب ويُنهش جسدها كما فعل هؤلاء العسس مع شهرزاد، لكن شهرزاد قصةً وانتهت وتبقى غزة مُكبلة بقيودِ لا حول لها ولا قوة.
شعرتُ بالدفء للحظةٍ، أنا كقارئ، عندما قرأت تلك اللوحة من المطر، هُنا أقف قليلا لأتأمل جمال تصوير تلك المشاهد في قصة جميلة كباقي القصص، حيث بعثَ فيَّ يسري الأمل والدفء كالدفء التي شعرت به شخصية هاشم في ذلك المقهى على ضفاف الراين. الأوصاف كانت دقيقه لدرجة أني رأيت الدمعة على وجنتي مريم التي كانت تبحث عن نور يضيء حياتها التي انطفأت بسبب الفقدان كما هاشم.
كُنت على إدراك تام أن نتاشا بحاجه لأن تستريح قليلا بعدما رأت كل هذا الجحيم الذي يسكن العالم اللعين المليء بالحروب، الحروب على غزة، والحروب الجورجية الروسية الاوسيتيا الأبخازية.. رسائل حب وحرب .
العروبة دخلت في غيبوبة طويلة ولا زالت مثل ذآك العجوز اللاوعي والغائب عن حاضره، لكنه فجاءه أستيقظ ليدرك أنه في شيخوخته والتجاعيد تملأ وجهه/ وجه غزة الحزينة، أما العروبة فقد أضحت خراباً مثلها مثل بلدانها.
من جانب آخر، قصة قبر حزين عندما توضع الجثة في قبرها ثم يغادرها أهلها لتشعرُ بالوحدة مره أخرى، فهي من وجهة نظري للقصة أن القبر هو نفسه غزة، أي أن الإنسان يُولد بمجرد إلقائه -فيها- بالقبر لتكون مقبرة الأحياء الأموات/ الأموات الأحياء ليعيشوا في قعر الظلام ومشانق العتمة، تتهافت عليهم القذائف كما يسقط أوراق الشجر، مدينة/مقبرة مُشبّعة بالموت.
ألم أقل لكم إن غزة حزينة ؟
وفي الليلة الأولى، والعشرين وحتى الخمسين، لن تسمح ليلى لتلك الذئاب بالتهام غزة وستظل تحيا من جديد وتموت لتُحييهم. حكا لنا يسري بعض التفاصيل عن روتينية الحرب في الخمسين يوما والدمار الذي وقع في تلك الأيام كأنها سلسلة من الأفلام المروعة أو كابوس هوليودي، لكن هناك جنّة يُخلّد فيها الشهداء وأبناء هذا المخيم، جنّة الله.
لا يريد هذا الاحتلال الغاصب لأصحاب هذه العقول أن يبقوا على قيد الحياة “يطالبون الجموع بتسليمي كي يمنحوهم السلام” هم المتنوّرين والمفكرين والمثقفين، ونسميهم (النخبة) القادرين على تحريك كل ما هو ساكن وإظهار الحق والباطل وإظهار صورة الوحشية التي يملكها مثل هذا الاحتلال. لم يكن بوسع الناس العاديين على إحداث التغيير، ومنذ فجر التاريخ كان هناك وما زال الكثير من المتنوّرين والمفكرين الذين يسعون دائما لإظهار شيء ما واقعي مختبئ تغفل عامة الشعب عن رؤيته وربما يدركونه تماما ولكن الخوف يسيطر عليهم من العقوبة كالظلم والفساد وحقيقة سلطة ما فاسدة.
الكاتب لديه الجرأة الكافية لتناول بعض القضايا السياسية والأحداث الواقعية ليحكي عنها وفعل ما لم يفعل الذين سبقوه من كتّاب واقعيين. كان يسري مبدع في تصوير مشاهد الدمار الملموس والدمار الإنساني الداخلي -الغزّاوي- غير الملموس، حيث تتسم أعماله بالصورة الواقعية والسوريالية وصولاً إلى ما بعد الحداثة.
يعكس يسري واقع غزة بشكل أدبي عميق، تختبئ خلاله الكثير من المعاني والرسائل الفكرية التي يريد إيصالها للقارئ. كما أن أعمال الكاتب المهم يسري الغول تخاطب مستويات فكرية وثقافية عالية من الممكن أن تكون في مستوى متقدم بالنسبة لمتواضعي الثقافة.
صابر عياد
—