انطلقت مساء يوم السبت 27 نوفمبر الجاري فعاليات الدورة السابعة عشرة لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية الذي يتناول في جانبه العلمي لهذا العام موضوع “مسارح الجنوب عبر العالم: رؤى لا كولونيالية”، إضافة إلى موضوع “شعرية المسارح الوطنية وسياساتها بين العولمة والمحلية”.
حفل الافتتاح تميز بحضور وازن لهيئة المسرح والفنون الأدائية ومبادرة المسرح الوطني، ضيفة شرف هذه الدورة، إلى جانب رئيس جامعة عبد الملك السعدي، وعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ونخبة من الفنانين والخبراء والباحثين في مجال الدراسات المسرحية وفنون الفرجة.
- لماذا مسارح الجنوب عبر العالم؟
في كلمته الافتتاحية، تناول الدكتور خالد، رئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة، مفهوم مسارح الجنوب؛ بوصف الجنوب كيانًا معرفيًا لا واقعًا مادياً؛ موضحا أن اختيار هذا الموضوع للنقاش، هو دعوة إلى الغوص في شعرية المقاومة وسياستها ضد نماذج مهيمنة وإقصائية، وأحياناً متمركزة أوروبيا، مسرحيةً كانت أم غير ذلك. مضيفا أن الوجود الفعلي لهذه النماذج يرتهن بفكرة رفض ونبذ كل محاولة بديلة تروم تطعيم جسد، يفترض أنه في ذروة العطاء، بعناصر جديدة، بذريعة أن هذه المحاولة لا فائدة تُرجى منها.
في السياق ذاته، واصل خالد أمين الحديث عن محور نقاش الدورة قائلا: “إن الفاعلين المسرحيين المنحدرين من حد الجنوب، وهم موحدون حول تواريخهم وسردياتهم المشتركة عن النضال والكفاح بالإضافة إلى مصيرهم الذي يبدو مشتركا -وإلى حد كبير على طريقة التابع- يمتلكون الآن أدوات قوة ناعمة يُحولونها لدحض التمركز الغربي عبر قوة الكفاح والفعل والكتابة والأداء، سواء أمن داخل أوطانهم أم من خارجها، مُحاولين بذلك إعادة تشكيل حركيات القوة التي تعلو بقلة محظوظة إلى موضع الهيمنة وتهوي بالآخرين إلى موضع المُهيمن عليهم. وفي الوقت الذي يمكن أن نقول فيه إن الاحتلال الاستعماري العنيف قد ولت أيامه، لا يزال العنف الإبستمولوجي يلقي بظلاله على المساعي الفكرية والفنية على جانبي الحدود الفاصلة، نتيجةً لما وصفه فوكو بتفوق الفاعل المتمركز حول ذاته الذي يرى نفسه الوحيد الملائم والقادر على إنتاج المعرفة المكرِّسة لجدلية السيد والعبد الهيجيلية، الأمر الذي يمنع أي فرصة للتغيير”. موضحا أن إعادة صياغة النقاشَ المسرحيَّ البين-ثقافي في المستعمرات السابقة، والتي يُشار إليها حاليا على نحو مناسب باسم “حد الجنوب” تثير مجموعة من التساؤلات من قبيل: ما المهام التي يضطلع بها الباحث في الفرجة العربية زمنَ العولمة؟ وهل توجد فجوة في ممارسة المسرح حين ينتقل المرء من الشمال الغني إلى الجنوب البائس؟ وإلى أي حد تقبع التواريخ والسرديات المحلية تحت تأثير ما يسميه والتر د. مينيولو Walter D. Mignolo “التصميم العالمي”؟ وهل توجد إمكانية لاختراق هذا الوضع الراهن، انطلاقاُ من فكرة شيشنر Schechner حول “العالم الثالث الجديد لدراسات الفرجة”؟ أيمكن لمجموعات الفرجة وباحثيها أن يُمثلوا فكرة مغايرة عن مجتمع “الأشخاص الذين يعلمون أن الأداء بعمق هو وسيلة لإيجاد معارف جديدة وتجسيدها، وتجديد الطاقة، والربط على أساس فرجوي بدل الأساس الإيديولوجي”؟
- عن المسارح الوطنية
وحول “شعرية المسارح الوطنية وسياساتها بين العولمة والمحلية”، محور النقاش الثاني من فعاليات المهرجان، المهدى إلى هيئة المسرح والفنون الأدائية ومبادرة المسرح الوطني بالمملكة العربية السعودية، قال خالد أمين إن إثارة هذا الموضوع ضمن طاولات نقاش طنجة المشهدية، يأتي مع تبوء القومية الثقافية مركز الصدارة في الأوساط الأكاديمية كما يظهر من الكم الهائل من الأعمال التي أنتجها مفكرون نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ستيوارت هول وإدوارد سعيد وبنديكت أندرسون، وبالنظر إلى أن مساهمة المشروع المسرحي في مثل هذه النقاشات ظلت ضئيلة، إن لم تكن مُشوشة، بات من الملائم جدا اللجوء إلى المسارح الوطنية من أجل فهم عميق لكيفية تعامل الدول مع القضايا الملتهبة والعاصفة والمستفزة التي تُثيرها المسارح الوطنية اليوم.
وفي ظل هذه المُعطيات، تأتي دعوة إدارة المهرجان للمسرحَ الوطني السعودي للانضمام إلى طاولة النقاش، وليكون ضيفَ شرف هذه الدورة، وكذا المساهمة في الإجابة على التساؤلات التي يفرضها التفكير في هذا الموضوع، في سياق تكتسح فيه قوى العولمة وتلتهم كل ما تبقى من الثقافات الوطنية والهويات المتميزة.
- كلمة المهرجان
باسم إدارة المهرجان، قدم المبدع المغربي محمد قاوتي بلغة العارفين ورقة/ وقفة أوسمها بـ”عروس الأسرار”، ومما جاء فيها: «نَحُجُّ مرة أخرى إلى رحابة محفل المركز الدولي لدراسات الفرجة، وهو يتماثل مع أنَاهُ، الْمُولَعِ حَدَّ الْوَلَعِ بـ“طنجة المشهدية”؛ ولِحَجَّتِنا، كما هو حالُنا في كُل حَوْلٍ، طَعمُ ما يَنْبَجِسُ عن الاحتفاءِ الفَرِحِ بِسَنَةٍ أخرى تَنْضَمُّ إلى تَدَانِينَا العلميِّ والمعرفيِّ والروحِي، مُسْتَرْجِعينَ ومُستحضرين بعضًا مِمَّا ضَمَّتْ مَقاماتُ محفلِنا هذا من “وَقْفَاتٍ” علميةٍ وفنيةٍ تَبْتَغِي الْفَحْوَى فِي الْمَعْنَى، بِمَا كان لها من أوْجُهِ الفضلِ في “وقْفتنا” على المراتبِ بِتَنَوُّعِ لُوَيْنَاتِنا ومَشارِبِنا وأهْوائِنا، حيث كان لسانُ حالِنا ولا يزالُ يُعَبِّرُ عَمَّا يَلْتَمِعُ في الأفئِدَةِ والألْبَابِ: «بَقِيَ عِلْمٌ بَقِيَ خاطِرٌ، بَقِيَتْ مَعْرِفةٌ بَقِيَ خاطِرٌ..
نَحُجُّ مرة أخرى ونحن مَوائلُ مُجْنِحون إلى طنجة، عروسِ الأسرارِ، رجاءَ الاجْتِنَاحِ على ما عَوَّدَتْنَا عليه من أسئلةٍ تجمعنا على الْعِلْم الذي هو المعرفةُ التي هي المعرفة. وما جنوحُنا، هذا، إلا جنوحَ العاقلِ الذي عليه، كما أوصى شيخُ الْحَصَافَةِ «أنْ يُؤنِسَ ذَوي الألْبابِ بنفسهِ ويُجَرِّئَهُمْ عليها، حتى يصيروا حرسًا على سمعهِ وبصرهِ ورأيه، فيَسْتنيمُ إلى ذلك ويُرِيحُ له قلبَهُ ويعلمُ أنهم لا يَغفَلونَ عنه إذا هو غفَلَ عن نفْسه
(… …) وَلَعَلَّ المناسبةَ شرطٌ لاستحضار الاندهاشِ الأولِ وما تلاه من اندهاشٍ حِينَ أدْمَنْنَا على ما يَتَطارَحُه حَمَلَةُ السؤال في حَلَقَاتِ طنجة، ونَحْنُ أُسَارَى شُعُورٍ اِنْتَابَنَا ولازَمَنَا كَخَصَاصَةِ الْمُدْمِنِ، لا يُقاوَم، شعورٌ بِأنَّ بنا إلى هذا كلِّهِ حاجةٌ شديدةٌ، لِكَيْ لا يَطالَنا ما طالَ صاحبَ الجوابِ التَّائِه حين سَأل شَيْخَ الْحَصَافَةِ: «ما خيرُ ما يُؤْتَى المَرْءُ؟» فأجابه: «غريزةُ عقلْ». وسأله: «فإن لم يكنْ؟» فأجابه: «تعلُّم عِلْمْ». فسأله: «فإن حُرِمَهْ؟» فأجابه: «صِدْقُ اللسانْ». فسأله: «فإن حُرِمَهْ؟» فأجابه: «سكوتٌ طويلْ». فسأله: «فإن حُرِمَهْ؟» فأجابه: «مِيتَةٌ عاجِلَةْ!»».
عمق العلاقات التاريخية مع المملكة السعودية
رئيس جامعة عبد الملك السعدي الدكتور بوشتى المومني رحب بداية بضيوف فعاليات “طنجة المشهدية”، مشيرا إلى أن اختيار “المسرح الوطني السعودي” ضيفا شرفيا لهذه الدورة يأتي ليؤكد مرة أخرى عمق العلاقات التاريخية والأخوية التي تجمع الشعبين المغربي والسعودي تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود. مضيفا أن جامعة عبد المالك السعدي شهدت زخما نوعيا من الفعاليات العلمية في مسارها الثقافي والفني، وأن هذا الزخم جاء كي يترجم أهمية الفن في الرؤية الاستراتيجية التي انخرطت فيها الجامعة بهدف تعزيز التكوين الجامعي للطالب وفتحه على آفاق تسمح له بتنمية قدراته في مختلف جوانبه الروحية والعقلية والوجدانية. مؤكدا “أنه لمن دواعي السرور والابتهاج أن تواصل جامعة عبد المالك السعدي مساراتها العلمية والثقافية بإصرار ومن غير كلل، انسجاما مع رؤيتها بعيدة المدى التي اختطتها في مجال تحويل المعرفة الفنية إلى نتاج ملموس، وذلك وفق منحيين: المنحى الأول يتأسس على إشراك جل الفاعلين داخلها من أساتذة وطلبة في عقد لقاءات وملتقيات علمية وثقافية. والمنحى الثاني يتأسس على انفتاح المؤسسة على محيطها الواسع بكل تلويناته ومشاربه؛ ولعلنا في هذه الرؤية ذات المنحيين المذكورين نروم تقوية الإشعاع العلمي والثقافي للجامعة، والذي من دونه لا يمكن تحقيق المكاسب المعرفية التي تبوئ العمل الجاد بها المكانة التي تليق به. وإنني لعلى يقين تام بأن مهرجان طنجة للفنون المشهدية يشكل نقطة ضوء حقيقية في جامعتنا المغربية والعربية وينسجم مع المسار الذي آلينا على أنفسنا دعمه وتشجيعه وفق إمكاناتنا وقدراتنا المادية والمعنوية؛ وهنا أتوجه بعميق الشكر إلى رئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة الأستاذ خالد أمين على ما يقدم من خدمات جليلة للبحث العلمي ولفكرة الجامعة”.
عن جانبه، قال الدكتور مصطفى الغاشي عميد كلية الآداب بتطوان إن ما يبعث حقا على الارتياح، أن التئام الدورة السابعة عشر لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية جاء نتاجا لشراكة تنظيمية بين “المركز الدولي لدراسات الفرجة” وكلية الآداب العلوم الإنسانية بتطوان في إطار اتفاقية شراكة وتعاون. وأَضاف قائلا: و”هي مناسبة لأتوجه فيها بالشكر إلى المسؤولين في هذا المركز البحثي على تعاونهم مع كليتنا في هذا تنظيم هذا المهرجان، وفي أنشطة وفعاليات علمية سابقة. فدعمًا منّا لمثل هذه المبادرات لا نتوقف عن حث جميع فرق البحث ومختبراته المعتمدة بالكلية على ربط جسور التعاون مع المؤسسات البحثية الوطنية والدولية، ومع الشركاء الخارجيين من ذوي الاهتمام المشترك؛ لما لهذا التعاون من آثار إيجابية في انفتاح الجامعة على محيطها الخارجي، والإفادة من تبادل الخبرات والمعارف بما ينعكس على تنمية مجتمعاتنا وازدهارها”. مرحبا هو الآخر باسم كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان بضيف شرف هذه الدورة “المسرح الوطني السعودي”، مضيفا “إنها لمناسبة لنعبر فيها عن جزيل الشكر وعميق التقدير لأشقائنا في المملكة العربية السعودية على وفائهم المطلق للروابط التاريخية والإنسانية والثقافية مع وطننا العزيز، ونسعد باستقبال كافة المشاركين الذين سيسهمون بعلمهم وخبرتهم الأكاديمية في إضفاء كثير من الجدة والحيوية البحثية على القضايا المدروسة في الندوات العلمية التي تحتضنها جامعة نيو إنجلند. وهم بهذا لا ينيرون فضاءاتنا الأكاديمية باجتهاداتهم وتحليلاتهم النافذة فحسب، بل يعمقون أيضا لدى كل من ينتسب إلى هذه الفضاءات الإحساس بأن الموقع الحقيقي لإنتاج الأفكار وإبداعها وتنميتها هو الموقع الجامعي؛ إذ لا جامعة من دون فكر، ولا فكر من دون جامعة”.
واعتبر الدكتور مصطفى أن مهرجان طنجة للفنون المشهدية أصبح يشكل استثناء مع تجارب قليلة حافظت على طابعها الخاص، فهذا المهرجان الذي يعتبر علامة فارقة في انتظامه وتطوره، مؤكدا أهميته في ربط الممارسة المسرحية بالبحث والنقد مما يسهم في تطوير دينامية المسارح المغربية والعربية عبر التفاعل مع المسارح الكونية مكنته من استقطاب عروض مهمة ومتميزة محلية وعربية، ولعدد بارز من الأسماء المرموقة عالميا في البحث والنقد المسرحيين. ولعل هذا الإصرار التاريخي في إقامة ندوة دولية تزواج بين الحضوري والترابطي عبر تطبيقات رقمية لهو مؤشر على قوة الفكر وقدرتها على اختراق كل الحدود والصعاب وكذلك قدرتها على مقاومة الوباء والانتصار إلى قيم البحث والفكر وإبداعية المسرح بوصفه شكلا من أشكال الحياة..
مشاريع هيئة المسرح والفنون الأدائية
عبر الدكتور سلطان البازعي مدير هيئة المسرح الفنون الأدائية بالمملكة العربية السعودية عن سروره وسعادته، وهو يتلقى درع المهرجان التكريمي ممثلا للهيئة، وقال إن “هذه الهيئة الوليدة التي نشأت منطلقة من رؤية واضحة تروم جعل الثقافة والفنون في صلب عملية التنمية، منذ أن صدرت رؤية المملكة 20/ 30 بقيادة أميرنا الشاب، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ حيث خصت هذه الرؤية مكون الثقافة بجعله أحد العناصر المهمة في جودة الحياة، ومن خلال هذه الرؤيا أصدرت وزارة الثقافة الاستراتيجية الوطنية للثقافة، حيث أُنشئت بناء على هذه الاستراتيجية أحد عشر هيئة متخصصة في القطاعات الستة عشر الفرعية، ونعتقد أنه لم يُنشأ في العالم بعد هذا التخصيص المؤسساتي الدقيق للقطاعات، من قبيل قطاع المسرح، قطاع الموسيقى، قطاع الأزياء، قطاع الأفلام، قطاع المكتبات، قطاب الأدب والترجمة والنشر،… وكان القصد من ذلك إعطاء هذه المؤسسات كل التمكين للنهوض بقطاعاتها وتطويرها وأيضا لاختزال المسافات “، وأضاف الدكتور سلطان قائلا: “إن المسرح السعودي كما يعرف الأصدقاء تمتد عمر ممارسته على مدى أكثر سبعة عقود، لكن الآن، أتتنا الفرصة التاريخية لنعيد رسم المشهد من جديد لنعيد تمكين الفنانين والممارسين، ونعيد أيضا تمكين فضاءات العرض، وأيضا إعادة النظر في أنظمة القوانين وتطويرها حتى تكون معترفا بها في كل القطاعات الفرعية”. ومن بين أهم المبادرات التي تخوض الهيئة في الاشتغال عليها حسب الدكتور سلطان، تطوير المسرح المدرسي، حيث ستبدأ الهيئة ابتداء من العام المقبل في تدريب 25 ألف مدرسة ومدرس في الاشراف على دروس المسرح، حتى يكون لدى المملكة في كل مدرسة مؤطرا مسرحيا، إضافة إلى مشروع أول أكاديمية تطبيقية في المسرح والفنون الأدائية، سيتم افتتاحها أيضا العام المقبل بالتعاون مع عدد من الجامعات العالمية، بالإضافة إلى مؤسسة المسرح الوطني كمؤسسة مستقلة. وأضاف البازعي أن الهيئة أيضا تعمل على تشجيع القطاعات الموازية من جمعيات مهنية تؤطر العمل النقابي للفنانين، وتشجيع الممارسين الهواة حتى يرقوا إلى المستوى الاحترافي، بالإضافة أيضا إلى تعميم مسارح القرب ودور الثقافة في كافة أنحاء المملكة.
طنجة ـ أحمد فرج الروماني / صور عبد العزيز الخليلي