قليلون هم الأدباء الذين زاوجوا بين إخلاصهم للأدب وحبهم للأرض في المشرق العربي كما في المغرب، كما حدث مع عبد الرحمن الأبنودي مثلا في “أبنود” مصر، هو الذي مثلت الأرض مكونا رئيسيا وتيمة في أعماله النثرية والشعرية، فكتب عن الأرض والنيل شعرا ونثرا، وغنت له شادية وعبد الحليم ونجاة الصغيرة وغيرهم من كبار الفنانين أغاني رومانسية غاية في العذوبة بكلماتها وألحانها، وهي في أصلها أشعار تغنت بالأرض ويوميات المصري البسيط وتعبه تحت الشمس في الحقول.
الروائي والناقد إبراهيم الحجري، الذي غادرنا إلى دار البقاء دون وداع واحد من هؤلاء في المغرب، لا تخلو يومياته وحياته من صور توثق لعشق الأرض في البادية وخدمة ترابها، إلى درجة لا يعرف إن كان مقيما في البادية أم في المدينة، ولم يكن يبالي رحمه الله للزَق الطين برجليه أو في ثيابه، يشاطره في ذلك العشق الصوفي للأرض صديقه وابن بلدته الأديب والناقد “البنّوري” الحبيب الدايم ربي، ولا عجب في ذلك، هما أبناء الجديدة الولادة للأدباء.
رحل عنا “الأسمراني” إبراهيم من دون وداع، وترك في القلب غصة، بعد معاناته مع غيبوبة عجز الأطباء والمختبرات عن علاجها أو تفسير أسبابها، وبذلك ينضاف رحيله الموجع المفاجئ إلى رحيل آخر سبقه كان بطعم الجرح للناقد والأديب بشير القمري، وبذلك يكون إبراهيم الحجري قد ترجل عن فرسه راحلا إلى حيث نور الحق والبقاء والخلود. وقد كان رحمه الله أمام النصوص ناقدا محكما وفي مواجهة البياض أديبا روائيا مقتدرا ومفكرا ومنظرا قديرا، نجح إبراهيم في أن يكون عادلا في الحب بين الناس، ولذلك أحبوه حيا وحزنوا عليه كل ميتا. لم تكن تغريه ربطات عنق ولا ألوان هندام أنيق، ألفته يطل عليّ من خلال صور متنوعة تحمل بين طياتها غنى رهيبا من حقول منشئه الريفي، يوثق لقطة بلقطة حياة الفلاحين البسطاء في بلدته “البيادرة” بنواحي الجديدة، كل ذلك ببصمة رقي فكري وإبداعي وبساطة فلاح أصيل، وكأنه واحدا من الفلاحين البسطاء الزاهدين في حب الأرض، يحمل في عينيه عشقا دفينا للتراب وفي رجليه رائحة الأرض الزكية وبركاتها ووراءه كدياتها وتلالها وأمامه تنوع عطائها وخيراتها.
كان يذكرني كل يوم وأنا أراه في صوره يتجول بين الحقول، بشكل ينم عن ارتباطه الكبير بالأرض وتعلقه بترابها إلى درجة أصبحت البادية مكونا رئيسيا في حياته، ولم يكن غريبا عنه أن يعتني بشجر التين والزيتون، ويرعى سنابل القمح حتى تبلغ البيدر وهي في ذروة لونها الذهبي الخالص. وقد كان الأديب والناقد إبراهيم الحجري رحمه الله الوحيد الذي يحرك فيّ مشاعر بدويتي الراقدة في أعماقي، ويرسم في مخيلتي ألوانا زاهية لأزهار برية تركتها ورائي في قريتي، وها ذاكرتي الآن يستعصي عليها استحضاركل أسماؤها وألوانها، بعد أن طال بي الغياب عنها ولم أعد أتذكرها.
رحمه الله إبراهيم الحجري برحمته الواسعة وألهم ذويه الصبر والسلوان، مع تعازينا الصادقة لأسرته الكبيرة والصغيرة.
بقلم: ادريس الواغيش