ضمن فقرة “الإقامة في القصيدة” لدار الشعر بمراكش..الدعوة الى توثيق وتدوين المنجز الشعري الحساني وتأسيس مجموعات البحث في الثقافة الحسانية
أكدت الناقدة والشاعرة العزة بيروك على ضرورة تأسيس مجموعات البحث في الثقافة الحسانية، وتشجيع التوثيق والتدوين للمنجز الشعري الحساني خوفا عليه من المحو. ونوهت الباحثة، وهي تستقصي أسئلة الهوية والصحراء والمرأة في الشعر الحساني، في فقرة “الإقامة في القصيدة” نظمتها دار الشعر بمراكش، الجمعة 25 يونيو بمقر الدار الكائن بالمركز الثقافي الداوديات، الى غنى التجربة الشعرية في منطقة بني حسان الممتدة في الجنوب، بروافدها المادية واللامادية. وتشكل فقرة “الإقامة في القصيدة” لحظة شعرية ونقدية للاقتراب من تجربة إبداعية ونقدية مغربية، استطاعت أن تنسج من خلال مسارها الشعري والنقدي، انشغالها العميق بأفق القصيدة وأسئلة النقد الشعري.
واستضافت هذه الفقرة الجديدة، الناقدة العزة بيروك (من مواليد مدينة كلميم)، رئيسة مركز “أهل بيروك” للتراث والأبحاث والتنمية والتي سبق لها أن حصلت على شهادة الدكتوراه في الآداب تخصص تراث شعبي من جامعة الحسن الثاني/ بن مسيك الدار البيضاء سنة 2013 وحدة توثيق وتحقيق ودراسة التراث المغربي المخطوط و الشفهي، في موضوع “الغناء والرقص الحسانيان: توثيق ودراسة”. والى جانب مقالاتها المنشورة في العديد من الجرائد والمجلات، شاركت الباحثة العزة بيروك في العديد من الندوات ناقشت مواضيع (صورة المرأة الحسانية من خلال الكتابات الكولونيالية، الأشكال المسرحية الحسانية، شعر التبراع، الموروث الحساني، الأدب الحساني، أهازيج وادنون: الكدرة، الهرمة، كنكا..).
كما شاركت الفنانة آمال بنعلية والعازف رضوان بقشيش، ضمن فقرة الإقامة في القصيدة، من خلال تقديم فقرات موسيقية تمتح من التراث المغربي بتقديم وتوزيع حديث. وتأتي هذه الفقرة الجديدة لدار الشعر بمراكش، ضمن برنامج الموسم الرابع 2020/2021، في محاولة للاقتراب من “مختبر” الشعراء والنقاد المغاربة، وانشغالاتهم وأسئلتهم الذاتية وأيضا الانفتاح على التنوع الثقافي المغربي الغني. فقرة تشكل خطوة أخرى تنضاف للبرمجة الغنية للدار، ضمن فقرات جديدة تلامس من خلالها غنى التجربة الشعرية والنقدية المغربية.
وشكل اللقاء بالناقدة العزة بيروك مناسبة للاقتراب من أسئلة الشعر الحساني، من خلال السفر في أقانيم أسئلة الهوية والصحراء وحضور المرأة في هذا المنجز الذي يشكل، بزخم تراثه المادي واللامادي، مشتلا مفتوحا على أسئلة الثقافة المغربية الغنية بتعددها (العربي والأمازيغي والحساني والمتوسطي والافريقي). وأكدت الباحثة أن الثقافة الحسانية، والأدب الحساني خصوصا، يعد رافدا من روافد الثقافة المغربية، ويشكل مكونا أساسيا من مكونات الهوية المغربية، لذلك دعت بيروك، الى ضرورة الاهتمام بهذا المنجز الغني، وإيلائه مزيدا من البحث والاهتمام على صعيد مختبرات البحث الأكاديمي وأيضا الحرص على توثيقه وتدوينه. هذا الإرث والتراث الحساني، والذي يمتلك مقوماته الذاتية وعمق أصالته الفنية، في قدرته على تجسيد البيئة الصحراوية. لكن، في نفس الآن، امتلاكه لأصالته المتفردة من الأدب العربي.
وفي هذا الإطار، أوضحت الناقدة والشاعرة الدكتورة العزة بيروك، أن تثمين هذا المنجز الشعري الحساني، بجمالياته التي تمزج بين الأدب العربي الأصيل وغنى اللهجة والموروث الحساني، يفترض المحافظة عليه وترسيخه ضمن منظومة الثقافة المغربية. مع التأكيد على خصوصيته، فالشعر “لغنى”، يحفل بالعديد من نقط التقاطع بينه وبين الشعر العربي القديم (الغزل الحساني نموذجا)، الى جانب مواضيع أخرى. وتكفي الإشارة هنا، الى “الطلعة”، والتي عوضت المقدمات الطللية مع الاحتفاظ على تيمة الموضوع والدلالات، بصيغ مختلفة تتلاءم وطبيعة المجتمع الصحراوي.
وركزت الباحثة العزة بيروك على طبيعة النص الشعري الحساني، في خضوعه لنظام “عروضي” داخلي، الى جانب ارتكازه على “أشطر” تتوزع القصيدة. وتضفي خاصية الترقيق، وأيضا خاصية نطق بعض الأحرف، سمات خاصة تحدد جماليات النص الشعري الحساني والذي يظل خاضعا لطقوس محددة، ترتبط بعضها باليومي وبالحياة في الصحراء وعند آهل “البيضان”. وعكس ما يتبادر لأذهان البعض، فالشعر الحساني يخضع لقواعد وبنيات عروضية وبلاغية وإيقاعاته الموسيقية (لبتوت). وسواء البيت (الكاف) أو الطلعة (القصيدة)، فإن الشعر الحساني، مثله مثل باقي جغرافيات الشعر الإنساني، خضع لتطور وتحولات مست بنيته الداخلية. ولعل هذا المعطى هو ما يؤشر، حسب الباحثة بيروك، الى ضرورة استقصاء علمي ومعرفي ببنياته الداخلية ودراسته.
لا ينفصل الشعر الحساني (لغنى)، عن الموسيقى بل ينذغمان بشكل كلي وينصهران في بوثقة واحدة. ولعل خضوع أوزان نظم لغنى، أضحى يرتبط بهذا التطور والتحول الى ضرورة ارتباط الشعر بالغناء. طبعا لا تنفصل أغراض الشعر الحساني، عن الأغراض المتعارف عليها، ك (الغزل، المديح النبوي، الرثاء، الصحراء، الوصف…). وانتقلت الباحثة العزة بيروك في القسم الأخير، الى حضور المرأة في الشعر الحساني (والثقافة والمجتمع البيضان عموما)، على اعتبار خصوصية المرأة ووضعها اللافت في التراتبية الاجتماعية.
وإذا كانت “الطلعة”، تؤشر للقصيدة و “لَبْتُوتَ” للبحر (كما في الشعر العربي)، فإن شعر التًبْرَاعْ، وهو الكلام الموزون تزنه النساء للتغزل بالرجال، (يتكون من شطرين وأقرب الى “الشذرة”) تعتبر فيه المرأة حاملا للقول الشعري، وتكفي “تبريعة” واحدة للتعبير عن المعنى من خلال التكثيف الدلالي والاستعاري. وأكدت الناقدة بيروك، أن “التبراع” شعر خاص بالمرأة الحسانية، استطاعت من خلالها التحرر من القيود الاجتماعية. غير أنه طقس غزلي صحراوي بامتياز، دأبت على إبداعه الشاعرات الصحراويات، وكن حريصات على تداوله دون إسم، إذ لا يمكن التعرف على أسماء الشاعرات ولا انتمائهن. وأوضحت الناقدة بيروك أن قصيدة شعر التبراع تروَّج بدون معرفة قائلتها، نظرًا للضوابط الاجتماعية، لكن لوحظ السنوات الأخيرة تحرر من هذا المعطى، وأمست العديد من الشاعرات ترسخن اسمائهن في المشهد (فرحة منت الحسن، خديجة لعبيدي، دستورة..الخ).
حرصت الناقدة والشاعرة العزة بيروك، في جميع محاور اللقاء، أن تقدم مقاطع شعرية من الشعر الحساني، ضمن المحاور التي خصصتها فقرة الإقامة في القصيدة لدار الشعر بمراكش. الشعر الحساني اليوم، والذي بدأ يشهد حراكا لافتا في توثيقه وتدوينه، ومحاولات حثيثة لجمع وتوثيق هذا التراكم، أمسى يحتاج لتظافر الجهود لتجميعه. وقد أعادت الناقدة بيروك التأكيد، على ضرورة توثيق هذه الذاكرة الشعرية خوفا عليها من الانمحاء، وتجاوز طبيعتها الشفوية وضرورة تدوينها. الشعر والأدب الحساني، والذي يظل مكونا من التنوع الثقافي للهوية المغربية.
طنجة الأدبية